لن تتمخض القمة الثلاثية في كامب ديفيد يوم غد الثلثاء عن اي تسوية نهائية تاريخية، ليس لأن القمة ستفشل، بل لأنها ستتوصل الى اتفاق جزئي آخر، يضاف الى سلسلة الاتفاقات المرحلية والانتقالية التي تعاقبت منذ انطلاق عملية السلام. فالاسرائيليون، بيمينهم ويسارهم، يفضلون "هضم" التسوية السياسية قطعة قطعة، بدلاً من ابتلاعها مرة واحدة. فمنذ انطلاق مفاوضات مدريد قبل عشر سنوات، والحكومات الاسرائيلية تقدم ما تعتبره "تنازلات" بالقطّاعي للفلسطينيين، على نسق "ستريب تيز" سياسي لا ينتهي، لأنها غير راغبة او قادرة على اقناع الرأي العام الاسرائيلي، دفعة واحدة، بعد عقود من التمسك ب "اسرائيل كبرى" بأن قبول حكومة ليكود - 1991 الدخول في مفاوضات سلام لتنفيذ قرار 242، يعني في النهاية الرجوع الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967، مع تعديلات حدودية طفيفة على اساس متبادل. ولهذا، كان الانسحاب من "غزة واريحا اولاً"، ثم من المدن الفلسطينية الكبرى، ثم القرى التابعة لها... وهكذا، وصولاً الى خروج 98 في المئة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من نطاق الاحتلال الاسرائيلي المباشر. ثم جاءت الانسحابات "المئوية" التدريجية من الضفة الغربية - تسعة في المئة هنا، و13 في المئة هناك - وبالتقسيط المريح... رأفة بمشاعر الرأي العام الاسرائيلي او خوفاً منه، قبل ان يكون احتراماً للشرعية الدولية او قرارات مجلس الامن! إلا ان الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تعرف ايضاً بأن اسرائيل لا تزال دولة بلا حدود معترف بها دولياً، وان ليست هناك دولة في العالم، حتى الولاياتالمتحدة، على استعداد للإعتراف بسيادة اسرائيلية على القدسالشرقية، بغض النظر عن قرارات الكونغرس بهذا الخصوص وتهديداته الفارغة بنقل السفارة الاميركية الى القدس. ولهذا فإن تمسك الجانب الفلسطيني بتنفيذ القرار 242 كفيل بضمان عدم اعتراف العالم بأي تسوية قد تسعى اسرائيل الى فرضها بمعزل عن الموافقة الفلسطينية من جهة، وكفيل بإبقاء الباب مفتوحاً على المطالبات الفلسطينية المشروعة الآن وفي المستقبل من جهة اخرى. من هنا، وعلى رغم الخلل التام في موازين القوى لمصلحة اسرائيل، فإن الاستراتيجية الفلسطينية، التي ألزمت اسرائيل بقبول تنفيذ قرار 242 كشرط للتسوية السلمية النهائية، من دون ان تلتزم من جانبها حتى الآن سقفاً لمطالبتها بدولة مستقلة وبإحقاق الحقوق الوطنية الفلسطينية، حققت انجازات وطنية مهمة بكل المقاييس، في مقابل عدم حصول اسرائيل على اي ضمانات من جانب الفلسطينيين بتحديد سقف للمطالبات في المستقبل، بإستئناء الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود من دون ان يكون لذلك الوجود حدوداً معترفاً بها دولياً! لهذا، فإن الجانب الفلسطيني لا يمكن ان يخسر شيئاً في كامب ديفيد ما لم يوافق على الانتقاص من قرارات الشرعية الدولية في ما يتعلق بالقضايا المطروحة على جدول اعمال مفاوضات الوضع النهائي. اما الرفضويون الذين تسرعوا بإتهام القيادة الفلسطينية ب"التفريط" حتى قبل انعقاد القمة، فقد يكون من المفيد تذكيرهم بأنهم فعلوا الشيء ذاته عندما اتهموا الرئيس الفلسطيني بقبول "غزة واريحا اولاً واخيراً". فالحقيقة هي انه على رغم كل المآخذ المشروعة على القيادة الفلسطينية واخطائها التكتيكية، إلا انها حققت حتى الآن انجازات استراتيجية لا يمكن التقليل من اهميتها.