أثار قرار قيادة حركة «فتح» بعقد مؤتمرها السادس في مدينة بيت لحم لغطاً واسعاً خصوصاً لجهة المفارقة المؤلمة بين سماح إسرائيل لأكثر من ألف فلسطيني، بعضهم ممن تصفهم ب «الملطخة أياديهم بالدم» بحضور هذا المؤتمر، وبين حماقة حركة حماس بمنع اكثر من 400 من اعضاء هذا المؤتمر من الانتقال من غزة الى بيت لحم على رغم أن معظمهم ممن شاركوا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وممن أمضوا سنوات كثيرة من أعمارهم في سجون ومعتقلات هذا الاحتلال، فساهمت في التصويت لمصلحة من أرادت إسقاطهم. وقد يكون القرار الإسرائيلي جاء نتيجة لتفاهمات أميركية - إسرائيلية لدعم ما يسمى بالتيار الفلسطيني المعتدل، لكن مع بدء أعمال مؤتمر «فتح»، تبين للجميع أن وجهته السياسية تشير الى عدم التنازل أو التراجع عن أي من الثوابت الفلسطينية، فقد رفضت «فتح» الاعتراف بما يسمى بيهودية دولة إسرائيل وتمسكت بالحق المشروع في مقاومة الاحتلال، وعلى رغم تجديد تمسكها بخيار السلام وحل الدولتين، فإن «فتح» أعلنت أن المفاوضات ليست السبيل الحصري لتحقيق أهدافها وأن سد الطريق على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس يدعوها لتبني خيارات أخرى مثل إعلان إقامة الدولة من طرف واحد أو الدعوة الى خيار الدولة الديموقراطية الواحدة أو الدولة الثنائية القومية. وفي الاجمال، عبرت الحكومة الإسرائيلية عن أسفها لما سمته التطرف الذي أظهرته نتائج مؤتمر حركة «فتح»، ورأى بعض المحللين هناك أن قرارت «فتح» خدمت نتانياهو للكشف عما يسميه الوجه الحقيقي للمعتدلين الفلسطينيين، ما يسهل له الاستمرار في التملص من أي ضغوط قد تمارسها عليه الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي بخصوص التقدم على مسار حل الدولتين، وفي ضوء النتائج السياسية لمؤتمر حركة «فتح» اعاد بعض الإسرائيليين من جديد تدوير اسطوانة اهدار الفلسطينيين للفرص الضائعة، وهو الأمر الذي يستحق المزيد من الاهتمام والفحص والدراسة. ويبدو أن الساسة في إسرائيل يحفظون جيداً مقولة أبا إيبان (اشهر من تولى وزارة الخارجية الإسرائيلية 1966 -1973): «إن الفلسطينيين لا يضيعون الفرصة... لإضاعة الفرصة». وهذه العبارة لم تدفن مع رفات هذا الذئب العجوز (توفي في 2002 عن عمر يناهز السابعة والثمانين، وترجم من العربية الى العبرية رواية توفيق الحكيم «يوميات نائب في الارياف»)، بل كانت هذه العبارة تعود فتطل برأسها مع كل جولة جديدة من المفاوضات، وكلما جرى عرض مشروع جديد على الفلسطينيين لتسوية الصراع مع إسرائيل، وكما حدث بعد مؤتمر حركة «فتح» الأخير. والمشكلة ليست في تعريف «الفرصة» نفسها، وإنما في القرار الذي ينبغي اتخاذه بالقبول أو بالرفض في شأن هذا العرض في وقت محدد وفي ظروف صعبة يسودها الشك والقلق وانعدام اليقين. وقد تحول كل الزعماء في التاريخ إما الى ابطال عظماء أو الى خونة وعملاء ملعونين بناءً على القرارات التي اتخذوها بالموافقة أو بالرفض في شأن الفرص التي عرضت عليهم وأخذوا قرارهم فيها على رغم الظروف المشوشة وفي مواجهة ضغوط المعارضة وأصوات الرفض. ولا تعتبر الفرصة ضائعة فعلاً إلا بعد مرور فترة من الوقت يتأكد فيها أن الفرصة التالية تقل في ميزاتها عن الفرصة السابقة التي جرى تفويتها أو رفضها، وفي حالات أخرى. ويبدو الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً في علاقة الحالة الفلسطينية بالفرص والفرص الضائعة بالنظر الى العوامل الآتية: 1- لا يوجد اجماع فلسطيني وطني على طبيعة التسوية التي يمكن الاتفاق على أنها فرصة لا يجب اضاعتها أو تفويتها. 2- لا يوجد اجماع وطني على ترتيب الأولويات حيث تتساوى تقريباً اهمية كل عناصر الفرصة التي يريدون الحصول عليها في صفقة واحدة للتسوية تشتمل على اقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس وحق اللاجئين في العودة طبقاً للقرار 194. 3- لا يوجد ادراك كاف لصعوبة الجمع في فرصة واحدة بين كل المطالب الفلسطينية، على رغم عدالتها، فضلاً عن أنه لم يبذل ما يكفي من جهد لمعالجة هذا الأمر على نحو يحقق المعادلة الصعبة للحصول على الممكن وعدم التفريط بغير الممكن في لحظة تاريخية محددة، كما فعلت التجارب التحررية كافة. 4- لم يبذل الفلسطينيون أدنى جهد سياسي لترتيب العلاقة بين ما يسمونه الحل المرحلي الانتقالي وبين ما يعتبرونه الحل النهائي، لأنه عند ترتيب هذه العلاقة بوضوح لا يعد قبول فرصة الحل المرحلي، وإن كان منقوصاً، من قبيل التفريط أو التنازل والخيانة. ويصح في هذا المجال الاسترشاد بتجارب كثيرة من ابرزها تجربة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في صلح الحديبية، والهدنتان اللتان أبرمهما صلاح الدين مع الصليبيين، واتفاق باريس الذي وقعه هوشي منه، واتفاق برست ليتوفسك الذي وقعه لينين، ومبادرة روجرز التي قبلها عبدالناصر، ولا يتسع المجال لذكر المزيد من الامثلة. والمعنى هنا انه من دون ترتيب العلاقة بين المرحلي والنهائي، فإن الفلسطينيين قد يواظبون فعلاً على عدم اضاعة الفرصة لإضاعة الفرصة. ومن بين حوالى مئة قرار ومشروع ومبادرة عرضت على الفلسطينيين لتسوية الصراع مع إسرائيل اخترنا سبعة نماذج مما يمكن اعتباره «فرصة» لنتابع الموقف الفلسطيني منها، وعلى النحو الآتي: اولاً – الفلسطينيون وفرصة الكتاب الأبيض: كانت بريطانيا وهي تستعد للحرب العالمية الثانية ترغب في تهدئة مستعمراتها خصوصاً في الهند والشرق الأوسط، وفي هذا الاطار أصدرت ما يسمى بالكتاب الأبيض الذي دعا الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة وتراجع عن مشروع التقسيم الذي عرضه عام 1937، ونسف كل أسس المشروع الصهيوني عندما نص في البند الثاني على «أن الحكومة البريطانية تؤمن بأن واضعي صك الانتداب الذي تضمن تصريح بلفور لم يكن في نيتهم وجوب تحويل فلسطين الى دولة يهودية»، كما قيد هذا المشروع هجرة اليهود الصهاينة الى فلسطين ومنع وقيد بيع الأراضى لليهود. لكن الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين وزعيمها السياسي رفض هذا المشروع. ثانياً – القرار 181 لسنة 1947 لتقسيم فلسطين الى دولتين لشعبين: خصص هذا القرار للدولة اليهودية نسبة 56،47 في المئة من مساحة فلسطين، وكانت نسبة السكان العرب في هذه الدولة 44،97 في المئة، وخصص القرار للدولة الفلسطينية 42،88 في المئة من مساحة فلسطين، وكانت نسبة السكان اليهود في هذه الدولة 1،36 في المئة، مع تحويل القدس الى منطقة دولية، ورفض الفلسطينيون والعرب هذا القرار، وفي 12/4/1950 اشترطت الجامعة العربية لتلبية دعوة لجنة التوفيق اعتراف إسرائيل بقرار التقسيم، لكن الوقائع التي خلفتها هزيمة 1948 كانت تجاوزت القرار. ثالثاً - مشروع الحبيب بورقيبة: في 21/4/1965 تقدم الرئيس التونسي بورقيبة بمشروع يدعو الى أن تعيد إسرائيل للعرب ثلث المساحة التي احتلتها منذ انشائها لتقوم عليها الدولة الفلسطينية وكانت غزة والضفة الغربية مع العرب في ذلك الوقت، وعلى أن يعود اللاجئون الفلسطينيون الى دولتهم الجديدة، ورفضه العرب والفلسطينيون. رابعاً - مشروع الحكم الذاتي في معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية: تضمنت هذه المعاهدة الصادرة في 26/3/1979 النص على توفير حكم ذاتي كامل لسكان الضفة الغربيةوغزة وانسحاب الحكومة العسكرية الإسرائيلية وادارتها المدنية بمجرد انتخاب سلطة حكم ذاتي بالانتخاب الحر لتحل محل الحكومة العسكرية، وتستمر الفترة الانتقالية للحكم الذاتى خمس سنوات، وبنهاية هذه الفترة يتم التفاوض على الوضع النهائي ويجب أن يعترف الحل الناتج بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومتطلباته العادلة. خامساً – صيغة كلينتون ووثيقة موراتينوس: في قمة كامب ديفيد نهاية عام 2000 وفي مفاوضات طابا بداية 2001 جرى تداول صيغة كلينتون التي سجلها المبعوث الأوروبي موراتينوس في ورقة غير رسمية، وتضمنت صيغة كلينتون المبادئ الآتية: إقامة دولة فلسطينية سيدة قادرة على البقاء متواصلة جفرافياً وايجاد تبادل ديموغرافي محدود، عودة اللاجئين الفلسطينيين الى الدولة الفلسطينية وحصول جميع اللاجئين على تعويضات من الأسرة الدولية، الضمانات الأمنية الدائمة لإسرائيل يجب ألا تكون على حساب سيادة الفلسطينيين أو تتعارض مع وحدة أراضيهم، الدولة الفلسطينية مجردة من السلاح، والقدس يجب أن تكون مدينة مفتوحة وتشتمل على عاصمتي دولتين معترف بهما دولياً، إسرائيل وفلسطين، وكل ما هو عربي في القدس يجب أن يكون فلسطينياً وكل ما هو يهودي يكون إسرائيلياً، وما هو مقدس للطرفين يتطلب عناية خاصة، وطرح كلينتون صيغة السادة المتعددة الطبقات على المسجد الاقصى بحيث تكون السيادة للفلسطينيين فوق الأرض وللإسرائيليين تحتها. سادساً - وثيقة جنيف: وقد توصل الى صياغتها فريقان غير رسميين، فلسطيني بقيادة ياسر عبد ربه وإسرائيلي برئاسة يوسي بيلين، صدرت عام 2003، وتضمنت ما يأتي: الحدود بين دولتي إسرائيل وفلسطين تقوم على أساس خطوط 4/6/1967 مع تعديلات متبادلة على أساس 1:1، يعترف الطرفان بالوحدة السيادية والاستقلال السياسي وعدم المس بأراضي الطرف الآخر، اقامة رواق لربط غزة بالضفة الغربية بسيادة إسرائيلية ومفتوح دائماً وبإدارة فلسطينية، تكون فلسطين دولة مجردة من السلاح مع قوة أمنية قوية. القدس عاصمة للدولتين وتكون كل عاصمة في المناطق التي يسيطر عليها. البلدة القديمة في القدس وحدة واحدة ذات طابع خاص، يعترف الطرفان بأن قرار الجمعية العامة 194 وقرار مجلس الامن 242 ومبادرة السلام العربية هي الأساس لحل موضوع اللاجئين. ودعت هذه الوثيقة الى أن يختار اللاجئ الفلسطيني سكنه الدائم بين خمسة خيارات من بينها إسرائيل مع تقييد العدد ووفقاً للسيادة الإسرائيلية. وكشف النقاب يوم 23/7/2009 عن صياغة ملحق جديد للوثيقة خاص بالترتيبات الأمنية بين الدولتين، واشارت التقارير الى أن عواصم دولية وإقليمية اطلعت على هذا الملحق بما في ذلك وزارة الخارجية الأميركية. سابعاً - مشروع اولمرت: كان اجتماع انابوليس اسفر عن الاتفاق على ادارة مفاوضات مكثفة حول قضايا الوضع النهائي للتوصل الى تسوية بنهاية 2008، وعندما اوشكت هذه المهلة على النفاذ جرى اقتراح التوصل الى ما يسمى باتفاق الرف، الذي يؤجل تنفيذه لمرحلة تالية لكنه يكون ملزماً للطرفين وبمصادقة أميركية والرباعية الدولية، وكان رئيس الوزراء السابق أيهود اولمرت اعلن لصحيفة «واشنطن بوست» في الاسبوع الاول من تموز (يوليو) 2009 عن تفاصيل العرض الذي قدمه للرئيس الفلسطيني ابو مازن في 13/10/2008، خريطة اولمرت تضمنت اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على 93،5 في المئة من مساحة الضفة الغربية والحصول على 5،8 في المئة في مناطق بديلة في إسرائيل وعلى ممر آمن بين الضفة وغزة بحيث تقام الدولة الفلسطينية على ما يساوي مئة في المئة من مساحة الضفة الغربية، ونص مشروع اولمرت على تقسيم السيادة بين الاحياء اليهودية والعربية في القدس وابقاء «الحوض المقدس» في البلدة القديمة ومحيطها تحت ادارة دولية من دون سيادة، ولكن اولمرت لم يعترف بحق اللاجئين في العودة الى داخل إسرائيل ودعا الى عودتهم الى الدولة الفلسطينية المستقلة مع عودة أعداد رمزية منهم لإسرائيل، ولكن ابو مازن رفض التوقيع على خريطة اولمرت وطالب بسيادة فلسطينية كاملة على القدسالشرقية. ما الملامح الاساسية «للفرصة» الجديدة التي يمكن أن يعرضها الرئيس اوباما والمجتمع الدولي على الفلسطينيين؟ وما هو القرار الفلسطينى المتوقع بشأن هذه «الفرصة»؟ يمكن توقع الاجابة عن السؤال الأول في ضوء ثلاثة محددات اساسية، هي: 1- انه في مقابل تعاظم واتساع التأييد الدولي لحق الفلسطينيين في اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، فإن مساحة هذه الدولة بمرور الوقت تشهد منذ 1947 وحتى الآن تناقصاً مضطرداً. (من حوالى 43 في المئة من مساحة فلسطين في 1947 الى 22 في المئة في 67، والى ما هو أدنى من ذلك الآن). 2- انه مع الانقسام الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية والمرشح للتحول الى انفصال يصعب تصور أي إمكان لقيام دولة فلسطينية مستقلة. 3- مشروع التسوية لن يخرج في افضل الاحوال عن صيغة كلينتون في الحد الادنى أو صيغة اتفاق الرف لأولمرت في الحد الاقصى، ولا يجب الوقوع في أي اوهام حول إمكان رفع سقف التسوية بما يتجاوز ذلك. بناء عليه، يصعب في ظل هذه الظروف تصور وجود قيادة فلسطينية تجرؤ وحدها، من دون دعم دولي وعربي وإقليمي قوي، على الموافقة على عرض التسوية الذي يوشك الرئيس الأميركي اوباما على بلورته وطرحه على أطراف الصراع، ولذلك فإن من الضروري، على ضوء كل العناصر التي جرى عرضها، البدء بإجراء مراجعة صريحة وشاملة للخيارات الفلسطينية اذا ما عرضت عليها «فرصة» اوباما الجديدة للتسوية، على أن يتضمن ذلك حسابات الكلفة التي سيتحملها الشعب الفلسطيني وأرضه في كل حالة، والاجابة بكل صراحة ومسؤولية عن كل الأسئلة التي يجرى اخفاؤها عادة في ضجيج الشعارات والمزايدات بين الفصائل، ويبدو أن هذه المهمة أكبر وأخطر من أن تترك للقيادات الفلسطينية الراهنة، والمشكلة أن الوضع العربى العام ليس افضل حالاً حتى يدعى لتحمل مسؤولياته تجاه القرار الفلسطيني الذي يجب أن يؤخذ في شكل سياسي عقلاني، فضلاً عن التعقيدات المتصلة بتدخل بعض القوى الاقليمية في المسألة الفلسطينية واستغلالها بانتهازية لمصلحة اجنداتها الخاصة. * رئيس منتدى الشرق الاوسط – القاهرة