فعلاً، لم تعد اسرائيل "ترى في المرآة سوى نفسها"، كما قال رئيس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية العقيد جبريل الرجوب. انها لا ترى الشعب الفلسطيني في المرآة، أو الواقع، شريكاً لها في عملية السلام على أسس الشرعية الدولية. قادتها يرفضون مجرد الاستماع الى اقتراح بإرسال لجنة تحقيق دولية للنظر في أسباب عمليات القتل الموجهة ضد الفلسطينيين منذ "زيارة" شارون الاستفزازية المشؤومة الى الحرم القدسي، ويرفضون قطعاً قبول دخول قوات دولية للفصل بين جيش الاحتلال الاسرائيلي والمدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. ان اسرائيل ترفض "تدويل" التعامل مع الواقع الوحشي الذي انشأته في الأراضي الفلسطينية، وتحاول دعايتها، المؤيدة أميركياً، أن تصور ما يجري كما لو كان شأناً داخلياً، الأمر الذي يعني عدم الاعتراف بأنها قوة احتلال وبالتالي - حسب منطقها - فهي تتصرف ضمن "أرض اسرائيل". لقد صبر الفلسطينيون حتى عيل صبرهم، ففي النهاية، عندما آن أوان دفع الاستحقاقات النهائية وفقاً لاتفاقات أوسلو، وكان يفترض ان يحدث هذا في كامب ديفيد، لم يقدم رئيس الوزراء ايهود باراك الذي صورته الدعاية الأميركية - الاسرائيلية، بأنه "الأكثر سخاء" بين القادة الاسرائيليين، سوى لاءاته المتغطرسة: لا لعودة اللاجئين أو الاعتراف بالمسؤولية عن تشريدهم وتجريدهم من حقوقهم وممتلكاتهم، لا لتقسيم القدس أو إعادة شطرها الشرقي الى الفلسطينيين، لا للعودة الى حدود ما قبل حرب حزيران يونيو 1967، ولا لتفكيك المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة. إزاء "سخاء" باراك هذا المقرون بدعم أميركي كامل له، وبعد تدنيس مجرم الحرب شارون الحرم القدسي، تفجر الاحباط الفلسطيني غضباً وعادت اسرائيل الى منطق القوة والبطش والقتل. انتهت بهذه الممارسات والسياسات الاسرائيلية عملية السلام التي حرفها باراك عن سكة قرارات الشرعية الدولية وساعدته واشنطن في دفنها. لقد بدأت الآن مرحلة جديدة من الغطرسة الاسرائيلية هي مرحلة فرض "حل" اسرائيلي بالقوة تحت ستار عملية "الفصل" العنصري بين الفلسطينيين والاسرائيليين. انه ليس "فصلاً" يترك للفلسطينيين خيار التحرر من الاحتلال والتمتع بالاستقلال في الأراضي التي ينبغي على اسرائيل الانسحاب منها بموجب قرار مجلس الأمن الرقم 242. انه فصل للفلسطينيين بعضهم عن بعض في مراكزهم السكانية الكبرى، وفصل لهم عن العالم الخارجي مقروناً - وهذا ما هو ليس أقل خطورة - بتعزيز الاحتلال العسكري الاسرائيلي للمناطق المصنفة "ب" و"ج" في الضفة والقطاع. والذي يعنيه هذا، وفقاً للخطط التي كشفتها صحف اسرائيلية، هو الاحتفاظ بالسيطرة الاسرائيلية الكاملة على 60 في المئة من الضفة الغربية الى حين "التسوية النهائية" التي قد تأتي أو لا تأتي. وقد أكد كبير المتحدثين العسكريين الاسرائيليين البريغادير جنرال رون كبتري أمس ان "المهم بالنسبة الى الجيش ... عدم التحضير لنشر قوات قصير الأمد بل التحرك باتجاه اجراءات طويلة". وأمس قال وزير الخارجية المصري عمرو موسى ان عملية السلام انتهت وفقاً للمعايير السابقة بعد الانتفاضة، وأن البحث جار عن أسس جديدة "ترسم اطاراً للحل النهائي كما يتصوره العرب". ولكن بماذا سيرسم هذا الاطار؟ وكيف يمكن العرب أن يردعوا اسرائيل؟ ان الاجابة عن هذين السؤالين لا تنفع فيها العموميات والاكتفاء بانتقاد اسرائيل، بل تتطلب اجراءات عملية ذات صدقية، والا فإن اسرائيل لن ترى في المرآة أثراً للعرب.