فور تعيينها وزيرة للخارجية الاميركية، انتقدت مادلين أولبرايت تحركات سلفها وارن كريستوفر، لأن رحلاته المكوكية المتواصلة الى الشرق الاوسط لم تنجح في ردم الهوة السياسية القائمة بين المتخاصمين. واكدت انها ستلغي برنامج هذه الرحلات، وتتوقف عن زيارة المنطقة ما لم تتفق الاطراف المعنية على حل مقبول يشجعها على استئناف دور الوساطة. بعد مرور اسبوعين تقريباً على اعلان هذا الموقف الرسمي المشروط، اضطرت اولبرايت الى قطع زيارتها للشرق الاقصى، والعودة الى واشنطن بهدف الاشراف على معالجة ازمة طارئة بين الفلسطينيين والاسرائيليين. وأرسلت دنيس روس على عجل الى المنطقة لكي يعبّد لها الطريق الديبلوماسي الذي سلكه سلفها كريستوفر اكثر من عشرين مرة من دون ان يظفر بالحل المرضي لمختلف الافرقاء. وبعد زيارتها الاولى لاسرائيل والضفة الغربية اقتنعت أولبرايت بأنه من المتعذّر معالجة القضايا العالقة من دون تدخّل الوسطاء. ولكن هذه القناعة لم تساعد على احداث التقدم المطلوب، بدليل ان مهمتها الاستثنائية التي أتُفق عليها بين كلينتون وعرفات، ستصطدم بعقبات كثيرة يصعب تذليلها. ذلك ان السلطة الفلسطينية ترفض العرض الاميركي القاضي بضرورة عقد قمة ثلاثية في واشنطن قبل تنفيذ الانسحاب الثالث من الضفة الغربية. وهي تتوقع من اولبرايت مساعدتها على اقامة علاقات سلام حقيقية مشروطة بالانسحاب شبه الكامل من كل المناطق التي احتُلت عام 1967. ويستند الفلسطينيون في موقفهم على سوابق التسويات السلمية بين اسرائيل ومصر والاردن، اضافة الى انسحابها الاخير من لبنان والعروض الاسرائيلية لسورية. والملاحظ انه في جميع هذه الحالات نفّذت اسرائيل انسحابها من سيناء بنسبة مئة في المئة، كما اعربت عن استعدادها للانسحاب من 98 في المئة من مرتفعات الجولان. من هنا ينبع الموقف الفلسطيني الرسمي الذي يطالب بسريان هذه السوابق على الضفة الغربية وقطاع غزة. وتعترف القيادة الفلسطينية ان مطلبها ليس جامداً، وانها تستوعب حقيقة وجود كتل استيطانية كبيرة في الضفة تدّعي اسرائيل انها أُنشئت لأسباب امنية. لذلك تدور المفاوضات التي أجراها دنيس روس هذا الاسبوع حول تبادل مناطق حدودية، والفصل بين السيطرة الامنية والسيطرة المدنية، واستئجار مناطق لمدة مئة سنة. كما تدور ايضاً حول تسوية خلاف تاريخي - ديني - قومي ممثل بقضية القدس. وتركزت نقطة الانطلاق في هذه التسوية على ضرورة اعادة ترسيم حدود مدينة القدس بحيث يقع معظم الاحياء العربية خارج عاصمة اسرائيل، على ان تضم اليها المستوطنات المحيطة بها. وبعد الترسيم يُصار الى اعلان اتفاق لانشاء سلطتين محليتين تتمتعان بطابع قومي واضح، مع معابر مفتوحة بينهما تؤدي الى الاماكن الدينية في المدينة القديمة. ياسر عرفات طالب بأن تكون الاحياء العربية داخل القدس - بما في ذلك الاماكن المقدسة - تحت السيادة الفلسطينية الكاملة، وان تكون البلدة القديمة عاصمة دولة فلسطين. ووافق على ان تشكل السيادة الاسرائيلية الحي اليهودي وحائط المبكى وباب المغاربة. اضافة الى الاحياء الغربية للمدينة ومستوطنات معاليه ادوميم وغيلو وراموت. ويبدو ان واشنطن موافقة من حيث المبدأ على اعادة ترسيم الحدود بطريقة تؤمن تعديل الميزان الديموغرافي، وانتقال الاحياء العربية الى السيادة الفلسطينية، بينما تحتفظ اسرائيل بالمناطق اليهودية تحت سيطرتها. وتردد في اسرائيل ان السفير الاميركي مارتن انديك حاول اقناع رئيس الحكومة باراك بهذا العرض متذرعاً بالحجة القائلة ان اتفاق انهاء النزاع التاريخي لا يصبح نافذاً من دون حل مشكلة القدس. ايهود باراك يرفض تقسيم القدس، ويفضل ارجاء حل هذه القضية المعقّدة الى اجل بعيد ريثما تهدأ النفوس ويحدث الاختلاط بين الشعبين الأثر الايجابي المطلوب لتمرير مثل هذا المشروع الشائك. وهو يؤمن بأن غالبية اعضاء الكنيست ستسقط الاقتراح، خصوصاً وان الامر يحتاج الى اكثرية 61 في المئة من النواب والشعب. كما يرى ان القانون الاسرائيلي لا يسمح بتنفيذ اتفاق تبادل المناطق، بسبب صعوبة تحقيقه على الارض اولاً… وبسبب الخوف من فتح هذا "الصندوق المقفل" ثانياً. وعليه يرى باراك انه من الافضل تقسيم الحلول الصعبة، والاكتفاء باعلان الدولة الفلسطينية على ان تكون عاصمتها الموقتة "رام الله" بانتظار ترميم الهوة بين الشعبين وايجاد مناخ صالح لاعادة النظر في موضوع القدس. وهو يستند في هذا العرض الى المثال الالماني على اعتبار ان "بون" بقيت العاصمة الموقتة مدة تزيد على نصف قرن، الى ان سمحت الظروف باستعادة برلين. ولكن هذا العرض قوبل بانتقاد صحيفة "هآرتس" التي حثت باراك على الاقتداء بشارل ديغول الذي أخرج فرنسا من ورطة الجزائر على الرغم من معارضة المستوطنين والجيش. وقالت الصحيفة ان مثل هذا القرار التاريخي يحتاج الى زعيم تاريخي وليس الى ضابط صغير يرضيه الاستمرار في الحكم ولو على حساب نشر الفوضى. وقابلت صحف المعارضة اليمينية هذه المقارنة بالسخرية، مؤكدة ان قرار تقسيم القدس سيسقط في الكنيست ولن يصل الى الاستفتاء الشعبي. وقالت ان الائتلاف الحكومي غير قائم على اساس الحسم التاريخي المتعلق بتقسيم البلاد، وانما على اساس الحسم المتعلق بالانسحابات من لبنان وسورية. ولقد فشلت الحكومة في مهمتها، وأعطت الفلسطينيين ذريعة لتأجيج الشارع وتقليد النموذج اللبناني. يتوقع المراقبون ان تكون زيارة مادلين اولبرايت هي الاخيرة الى المنطقة، الا اذا نجحت في اقناع باراك وعرفات بضرورة التخلي عن مواقفهما المتصلّبة. وهي مواقف تميزت بالتطرّف، يصعب التغلّب عليها من دون التدخل الاميركي المؤثر. وهو أمر مستبعد الحدوث خلال مرحلة الانتخابات لأن الحزب الديموقراطي بحاجة الى مساعدات "اللوبي اليهودي" ودعمه الاعلامي. ومعنى هذا ان الضغط الاميركي سيُمارس على الجانب الفلسطيني باعتباره الجهة الأضعف. وتوقعت الصحف الاميركية ان تنجح اولبرايت في حلحلة الموقف الفلسطيني المتشدد وذلك عن طريق التلويح بحلّ قضية اللاجئين. وتحمل وزيرة الخارجية في هذا السياق مشروعاً متكاملاً يقضي بالسماح لمئة الف لاجئ بالعودة الى الضفة خلال مدة خمس سنوات، على ان يتم ذلك تحت شعار "جمع شمل العائلات". ويحتوي المشروع ايضاً على رزمة مساعدات مالية تقدر بمئة بليون دولار تؤمن اميركا منها ما نسبته 25 في المئة. وستوزع هذه الاموال تحت بند التعويض وذلك بهدف تأهيل اللاجئين، ومساعدتهم على تحسين ظروفهم المعيشية داخل البلدان التي يقيمون فيها. وسيحصل الفلسطينيون على اربعين بليون دولار تُدفع بالتقسيط خلال عشرة اعوام. وكذلك ينال الاردن اربعين بليون، باعتباره الدولة المستوعبة لاكبر عدد من لاجئي 1948 و1967. اما حصة لبنان فتُقدّر بعشرة بلايين دولار، ومثلها حصة سورية. اما آلية التنفيذ فستُناط بمؤسسة جديدة تكون بديلة من "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين"، تنحصر مهمتها بدفع التعويضات وتوزيع الحصص المالية على الجماعات والافراد. على الصعيد السياسي تحمل اولبرايت عرضاً قديماً يتوقع ان تحصل حكومة باراك على ما نسبته 72 في المئة اذا جرى استفتاء على اساسه. ويتألف العرض من ثلاثة عناصر: اولاً- انهاء الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني. ثانياً- ابقاء معظم المستوطنات تحت السيادة الاسرائيلية. ثالثاً- القدس الموحدة تبقى ايضاً تحت سلطة اسرائيل. اما الاستفتاء فيتم حسب النموذج الفرنسي الذي طرحه ديغول عام 1962 حول موضوع الانسحاب من الجزائر. يومها اعلن الرئيس الفرنسي ان خسارته في الاستفتاء تعني استقالته! يقول عرفات انه لا يستطيع تجاهل المزاج العام في الشارع الفلسطيني، وانه ليس بمقدوره تأجيل موعد تنفيذ المرحلة الثالثة والاخيرة من اعادة الانتشار في الضفة الغربية حسبما كان مقرراً في 23 حزيران يونيو. وبما ان الفريقين اختلفا على مساحة الارض التي سيجري تسليمها، فقد انتظر ابو عمار وصول اولبرايت لكي يبحث معها هذا الامر قبل ترتيب قمة ثلاثية بينه وبين كلينتون وباراك. ويبدو انه اخذ تفويضاً من مجلس الوزراء الفلسطيني لاجراء محادثات تتعلق بمختلف المسائل المطروحة بخصوص الوضع النهائي. وهو يصرّ على اعلان الدولة الفلسطينية قبل شهر ايلول سبتمبر متسلّحاً باعتراف ما يزيد على 130 دولة. ولكن القيادة الفلسطينية تحذّره من عواقب التورط في هذا الاعلان قبل ان تنفّذ اسرائيل انسحاباتها وتعيد له الارض. ومثل هذه المغامرة غير المحسوبة قد تترك له ميني - دولة على ارض موزّعة، مقطّعة، لا تزيد على 20 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وعليه تتوقع اولبرايت ان يبدي عرفات بعض المرونة بشأن القضايا الصعبة مثل القدس واللاجئين. ويستدلّ من مواقفه المُعلنة انه رفض الاقتراح الاسرائيلي المتعلّق بقبول اعلان الدولة الفلسطينية مقابل التخلي عن القدسالشرقية، عاصمة لفلسطين. ولكنه وافق على تبادل المناطق بحيث تعيد اسرائيل حوالى 200 كلم مربع من سيادتها الى السيادة الفلسطينية، على ان تدفع تعويضاً لقاء المناطق التي ستنتقل الى السيادة الاسرائيلية في الضفة الغربية. وصلت اولبرايت الى المنطقة لتقول لباراك وعرفات انه ليس لديها المزيد من الوقت، لأن ادارة كلينتون ستفقد فعاليتها بعد شهر… ولأن رجال الكونغرس سيتفرّغون للعمل الانتخابي. وكل تسويف يؤجل الاتفاق للعام المقبل. وعليه يحاول الفلسطينيون دفع تنفيذ قضايا التسوية الدائمة، وفي طليعتها الانسحاب الثالث ومشكلة الاسرى للحصول على اكبر قدر من الانجازات قبل اعلان الدولة الفلسطينية المستقلة. ومن جهة اخرى يسعى الاسرائيليون الى اطالة مدة المحادثات المرحلية بحجة ان هذه المسائل ستُحل تلقائياً في التسوية الدائمة. ومعنى هذا ان الفريقين يحاولان تحسين مواقعهما قبل نهاية ولاية كلينتون على امل حدوث تطورات مفاجئة تؤدي إما الى فرط الائتلاف الحكومي في اسرائيل، وإما الى تحريك الانتفاضة حسب النموذج اللبناني للمقاومة. وبين هذين الخيارين تنشط اولبرايت لمنع تحقيقهما حرصاً على استمرار عملية السلام! * كاتب وصحافي لبناني.