منذ توقيع اتفاقات أوسلو للحكم الذاتي الفلسطيني المبرمة في ايلول سبتمبر 1993، وياسر عرفات يتحدث عن الدولة الفلسطينية التي ستولد بعد الفترة الانتقالية المحددة بخمس سنوات. ولقد برر قرار الموافقة على الاعتراف باسرائيل عبر عملية أوسلو، بالقول ان الحكم الذاتي ليس سوى مرحلة مؤقتة، وان الدولة الفلسطينية سترى النور في ختامها يوم الرابع من أيار مايو 1999. أي يوم الثلثاء المقبل. بعد مرور خمس سنوات على اوسلو، اكتشف عرفات ان اسرائيل لم تبدأ التفاوض حول القضايا الأكثر تعقيداً مثل: مصير اللاجئين ومستقبل القدس وترسيم الحدود ووضع المستوطنات. كما اكتشف ايضاً انه لم يحقق طوال هذه الفترة سوى السيطرة على ستين في المئة من قطاع غزة وعشرة في المئة من الضفة الغربية، مع استثناء كامل القدسالشرقية. وهكذا وجد أبو عمار نفسه يواجه مأزقاً سياسياً يصعب تجاوزه بالمواجهة، أو باعلان الدولة استناداً الى القرار الذي أتخذ عام 1988 ونال تأييد مئة دولة تنتمي الى العالم الثالث والى مجموعة عدم الانحياز. وحاول عن طريق الديبلوماسية الاستناد الى مرجعية القرار 181 الصادر عام 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين: عربية ويهودية. يومها وضع القرار حدوداً للدولة اليهودية لا تشمل أراضي استولت عليها اسرائيل في حرب 1948. كذلك اكد ان القدس يجب ان تبقى كياناً منفصلاً تحت نظام دولي خاص. ولما قدم المندوب الفلسطيني لدى الأممالمتحدة ناصر القدوة هذا الاقتراح الى الأمين العام كوفي انان، سارع السفير الاسرائيلي دوري غولد الى رفضه بحجة ان العرب في حينه اعترضوا على التوصيات وأقروا استخدام القوة المسلحة للاطاحة ببنوده. وقال غولد ان اتفاقات الهدنة التي عقدتها اسرائيل مع مصر ولبنان وسورية وشرق الأردن عام 1949 لم تتضمن أي اشارة الى القرار 181 الذي تجاوزته الأحداث بعد خمسين سنة. وطالب بالتركيز على القرار 242 على اعتبار ان أسس المفاوضات تشمل الأراضي التي استولت عليها اسرائيل في حرب 1967 بما في ذلك الجولان والضفة الغربية وقطاع غزةوالقدسالشرقية. ومع فشل هذه المحاولة واجه ياسر عرفات احراجاً آخر، يتعلق بموعد اعلان قيام الدولة الفلسطينية، وبكل ما يرافق هذا القرار من متاعب قد تعود بالقضية الفلسطينية الى المربع الأول. خصوصاً وان نتانياهو استند في تهديداته الى موقف قانوني يقول بأن اتفاقات أوسلو لا تشير الى حق الفلسطينيين في اعلان الدولة، ولكنها تحدد موعد نهاية المرحلة الانتقالية وبداية المرحلة الدائمة. ولكي تتحاشى الحكومة الاسرائيلية هذا الإشكال القانوني، سارعت الى ابلاغ السلطة الفلسطينية بواسطة الادارة الاميركية، موافقتها على تمديد المرحلة الانتقالية بعد 4 أيار، مع التأكيد بان الاتفاقات الموقعة تبقى سارية المفعول، وإنما من دون تحديد سقف زمني لانتهائها. في مواجهة هذا المأزق المحرج كان لا بد لعرفات من التنسيق مع الادارة الاميركية التي يعتبرها متعاطفة مع مواقفه، ولكنها غير قادرة على الجهر بذلك. وبعد مشاورات مكثفة اشترك فيها كلينتون واولبرايت وانديك وروس، تبلغت السلطة الفلسطينية الوقائع التالية: أولاً - ان اعلان الدولة في الرابع من ايار مايو سوف يستغله نتانياهو الذي حدد موعد الانتخابات في 17 منه، لكي يستفيد من القرار الفلسطيني ويوظفه لحساب اليمين الاسرائيلي. بالمقابل، فإن التأجيل قد يساعد "حزب العمل" في الانتخابات، الأمر الذي يمهد لتغيير نمط العلاقات التفاوضية على مختلف المسارات، ويهيئ الظروف لتطبيق اتفاقات اوسلو مع الجهة الاسرائيلية الملتزمة. ثانياً - من المؤكد ان حكومة نتانياهو ستتهم عرفات بعدم التقيد بشروط "واي ريفر" المطالبة بمنع التفرد بالقرارات الملزمة للطرفين. عندئذ يكون اعلان الدولة المبرر لانهاء اوسلو وتجميد الانسحاب من باقي الاراضي الفلسطينية التي تشكل 40 في المئة من قطاع غزة وأكثر من 70 في المئة من الضفة الغربية. ثالثاً- ان الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي تجد نفسها محرجة، ومضطرة الى عدم الاعتراف بهذه الدولة، بعد اتهام الجهة الفلسطينية بنقض الاتفاقات وتعطيل عملية أوسلو. السبب الرابع والمهم كان يتعلق بأثر قرار اعلان الدولة في الرابع من أيار، على مستقبل الحزب الديموقراطي وتوقع تراجع اللوبي اليهودي عن تمويل حملة آل غور في انتخابات العام الفين. ولقد أوحت الوزيرة اولبرايت للقيادة الفلسطينية ان كل ما بناه عرفات من علاقات متينة مع كلينتون في مؤتمر لندن واجتماعات "واي ريفر" يمكن ان تزول في حال استغلال اسرائيل لاعلان الدولة والادعاء بأن كلينتون شجعه على اتخاذ مثل هذا القرار. ومن المؤكد ان "اللوبي اليهودي" المختلف على اداء نتانياهو سيهرع لتأييده بحجة ان عرفات تفرد بإعلان الدولة من دون استشارة الفريق الآخر في المفاوضات. وحذرت اولبرايت الفلسطينيين من شلل الادارة الاميركية في هذه الحال، ومن اطلاق يد نتانياهو لمصادرة المزيد من أراضي الضفة، وتوسيع مساحة الاستيطان، ومحاصرة القدسالشرقية. مقابل التراجع عن دعوة جعلها ابو عمار لازمة في كل خطبه على امتداد خمس سنوات، كان لا بد من الحصول على ثمن مقنع يستحق التضحية بسياسة انتظار الدولة. ووعده كلينتون باعلان موقف رسمي تتكامل صياغته مع موقف دول الاتحاد الأوروبي. وبعث له برسالة وزعت في اجتماعات المجلس المركزي الذي عقد هذا الأسبوع في غزة يتعهد فيها الرئيس الأميركي بدعم الفلسطينيين لكي يتمكنوا من تحديد مستقبلهم كشعب حر على أرضه. واعتبر عرفات ان هذه الرسالة تشكل اوضح اعتراف اميركي صدر حتى الان بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وقال في دفاعه عن مضمونها ان كلينتون يعترف للمرة الاولى بحق الفلسطينيين في العيش الحر بعد تحديد عام واحد للتسوية عبر مفاوضات مسرعة. ورأى عرفات في موقف الرئيس الأميركي استكمالاً للموقف الذي تبناه الاتحاد الأوروبي في قمة برلين آذار/ مارس الماضي حيث ساند فكرة الدولة الفلسطينية مع تحديد سنة واحدة للتفاوض حول ترتيباتها. وكما انتقد كلينتون الأثر المدمر لسياسة الاستيطان على عملية السلام… كذلك فعل الأوروبيون عندما ضمنوا بيانهم الاعتراض على أعمال الاستيطان الاسرائيلي باعتباره يمثل خطوة منافية للقانون الدولي المطبق من طرف واحد. ويتميز البيان الأوروبي عن رسالة كلينتون بتأكيد حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفي اقامة دولة. ويبدو ان المواصفات التي اطلقت على الدولة الفلسطينية لم ترق للصحف العربية التي انتقدتها بشدة لأنها موضوعة بطريقة تمنع قيام الدولة. فالبيان الأوروبي يصف الدولة الفلسطينية المطلوبة بأنها "ديموقراطية، وقادرة على الاكتفاء بذاتها، ومسالمة". والاكتفاء الذاتي يعني انه يجب ان تكون الدولة ذات وضع جغرافي يؤمن الانتاج والاتصال الحر بين المناطق المزروعة بالمستوطنات. أما بالنسبة لصفة "المسالمة" فان ذلك يعني تجريدها من السلاح بحيث لا يشكل وجودها في المستقبل خطراً على أمن اسرائيل المدججة بالسلاح النووي. ومعنى هذا ان دول الاتحاد الأوروبي أقرت بحق الفلسطينيين في دولة فوق أرضهم، ولكنها حددت من جهة أخرى مواصفات هذه الدولة بطريقة ترضي مصلحة اسرائيل، وتحول دون قيامها اذا كانت تتألف من عناصر مخالفة لما ذكره البيان "بالمواصفات المطلوبة". اما بالنسبة لتحديد السقف الزمني بعام واحد، فان ذلك لا يلزم سوى كلينتون الذي يضطر للتعامل مع هذه القضية بكثير من التأني والحذر. كما لا يلزم الولاياتالمتحدة بالتوصل الى تسوية عادلة، ما دام ميزان القوى يميل لصالح اسرائيل الرافضة أي تعاون حول المواضيع المتعلقة بالقدس واللاجئين والمستوطنات وترسيم الحدود. بعد تبلغ ياسر عرفات الموقف الأميركي - الأوروبي، قام بحركة انعطاف مبرمجة زار خلالها ثلاثين دولة على إمتداد فترة دامت اكثر من شهر ونصف. وجمع خلال هذه الجولة المرهقة مواقف الدول الكبرى التي طالبته بضرورة ارجاء اعلان الدولة الفلسطينية، في الرابع من ايار، خشية ان يستغلها نتانياهو لضرب عملية السلام. ومع ان عرفات كان مقتنعاً بجدوى التأجيل لأسباب موضوعية تتعلق باعتراف الدول الكبرى، الا انه وظف الاجماع الدولي لصالح تمديد المرحلة الانتقالية على اعتبار ان القضية الفلسطينية تخص مؤيديها كما تخص أصحابها. وهو بهذا العمل كان يريد التملص من مسؤولية التفرد بقرار خطير على هذا المستوى. كما يريد بالتالي الايحاء الى المجلس المركزي الفلسطيني بأن المناخ الدولي لا يسمح باتخاذ خطوة ناقصة قد تنسف عملية السلام برمتها. ولكي يبيع كلينتون وزعماء العالم موقف التأجيل وانما بثمن باهظ جداً فقد ارسل عرفات للادارة الأميركية نسخة عن المذكرة التي قدمتها له في "رام الله" الفصائل الفلسطينية الثمانية المنضوية في إطار منظمة التحرير باستثناء الجبهة الشعبية وجبهة التحرير العربية. وتتضمن المذكرة أربع نقاط أساسية: اولاً - عدم تمديد الحكم الذاتي والمرحلة الانتقالية بأي شكل من الأشكال. ثانياً - ضرورة إعلان سيادة دولة فلسطين في التاريخ المحدد على أرضها في حدود ما قبل الرابع من حزيران يونيو 1967 بما فيها القدس العربية استناداً الى وثيقة الاستقلال الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني عام 1988. ثالثاً - وقف الالتزام بكل القيود التي تتعارض مع مبدأ السيادة او تنتقص منه. رابعاً - التمسك بحق الشعب الفلسطيني الرابع من أيار الذي لم يستشر في الوقت الذي تمت استشارة الهند والصين. ولكي لا يُتهم ابو عمار بأنه استشار كل زعماء العالم ولم يستشر الشعب الفلسطيني، فقد دعا الزعيم الروحي لحركة "حماس" الشيخ أحمد ياسين للمشاركة في اجتماعات المجلس المركزي الفلسطيني، إضافة الى شخصيات مستقلة معارضة مثل الدكتور حيدر عبد الشافي. ولقد طالب الكثيرون من الأعضاء بضرورة إعلان الدولة وعدم الاتكال على الوعود الأميركية التي تجاوزتها اسرائيل طوال الخمسين سنة الماضية. وقدم البعض أدلة كافية عن تملص الادارات الأميركية المتعاقبة من الالتزامات، وخصوصاً تملص كلينتون من التعهدات التي قدمها سلفه جورج بوش في مؤتمر مدريد. ووصف احد الأعضاء الطابع البريدي الذي اصدرته السلطة الفلسطينية هذا الأسبوع بأنه "مجرد تملق للدولة الأكثر انحيازاً لاسرائيل". ويمثل الطابع صورة الرئيسين بيل كلينتون وياسر عرفات وقد أسقطت من بينهما صورة نتانياهو في ذكرى توقيع اتفاق "واي ريفر". والمؤكد ان عرفات أمر باصدار هذا الطابع كتدليل على امتنانه للرئيس الأميركي الذي يعتبره نصيراً له في "واي ريفر" وفي مجمل المواقف الأخرى. ويقول المحللون ان عرفات رهن القضية الفلسطينية منذ تولى مسؤوليات القيادة بعد أحمد الشقيري، وجعلها مرتبطة بالسياسة السوفياتية في الشرق الأوسط. وكان يعتبر دول عدم الانحياز ودول المنظومة الاشتراكية الغلاف العالمي الذي يحمي القضية الفلسطينية ويؤمن استمرارها ضد اسرائيل والانحياز الاميركي الفاضح. ولقد عانى الكثير من نتائج انهيار الدول المؤيدة للقضية، ونجح بعد محاولات مضنية في التغلب على العوائق السياسية التي باعدته عن واشنطن. واستطاع بعد "اوسلو" ان يؤسس لعلاقاته الجديدة مع كلينتون قواعد ثابتة أدت الى انقاذ عزلته الدولية، والى عدم السماح لنتانياهو باستفراده او اسقاطه. وهو يتبجح بالنجاح الذي حققه عبر الضمانات الأميركية التي ساعدته على منع تهميش القضية الفلسطينية، الأمر الذي دفعه الى مكافأة كلينتون بتأجيل اعلان الدولة. ولقد اتهم داخل المجلس المركزي بأنه يبالغ في تأثير الموقف الأميركي على مستقبل الفلسطينيين، علماً بأن الضمانات الأميركية والدولية لا يمكن ان تغني عن تغييب الوضع الفلسطيني الداخلي. من هنا يرى المراقبون ان ياسر عرفات قد لعب هذه المرة ورقته الأخيرة، وان عواقب الاقدام على خطوة التأجيل قد يدفع ثمنها غالياً على المستوى المحلي… لا فرق أكان الفوز من نصيب نتانياهو ام من نصيب باراك الذي وصف رسالة كلينتون بأنها "وعد بلفور فلسطيني". ومن المتوقع ان يعلن عرفات الدولة اذا فاز نتانياهو في انتخابات 17 ايار، ولكنه حريص على منح باراك فرصة التأجيل بانتظار تنفيذ وعوده. وكما تعاونت مختلف الأحزاب الاسرائيلية لتنفيذ "وعد بلفور الاسرائيلي"، من المتوقع ان تتعاون احزاب اليمين واليسار في اسرائيل لمنع تحقيق وعد ما يدعى زوراً "بوعد بلفور الفلسطيني". ذلك ان الفلسطينيين يطالبون باسترداد وطنهم على أقل من نصف أرضهم… بينما تطالب اسرائيل بأن يساعدها المجتمع الدولي على حماية الوطن الذي سرقته من أهله. ومن المفروض ان يكمل عرفات خلال عام واحد ما عجز عن تحقيقه خلال خمس سنوات! * كاتب وصحافي لبناني.