جمعية أسر التوحد تطلق أعمال الملتقى الأول للخدمات المقدمة لذوي التوحد على مستوى الحدود الشمالية    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تطور علم أصول الفقه في صدر الإسلام . جمع القرآن ووحدت القراءات في عهد الخليفة الراشدي الثالث
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 2000

بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي الصبح "يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقينَ من ذي الحجة ... فلما كبَّر طعنه أبو لؤلؤة الفارسي ثلاث طعنات في وتينِهِ. فقال عمر: قتلني الخبيث..." السيرة النبوية لابن حبّان ص:495.
كان ذلك في سنة 23ه/644م، وعلى رغم الطعنات القاتلة صلى صلاةَ الصبح، وأوصى بالمسلمين خيراً "ثم قال: إني نظرتُ في أمر الناس فلم أرَ عندهم شقاقاً إلا أن يكون فيكم. وإنَّ الأمرَ الى السِّتَّة نفر: عثمان، وعلي، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عُبيد الله، والزبير بن العوام، فتشاوروا ثلاثاً..." ابن حبّان ص:496. وتمهيد الأوائل ص: 505-519 و"اشتور أهلُ الحلِّ والعَقْدِ بعْدَ عُمَرَ ثلاثة أيام، واتفقوا على مُبايعة عثمان بن عفان الأموي رضي الله عنه..." دول الإسلام، الذهبي ص:19.
بعدما أصبح عثمان بن عفان رضي الله عنه خليفة أرسل الى عمال الخراج" فكتب إليهم: "أما بعد فإنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ بالحقِّ، فلا يَقْبَلُ إلا بالحقِّ، خُذُوا الحقَّ، وأَعطوا الحقَّ به، الأمانة" الأمانة" قوموا عليها ولا تكونوا أوّل من يسلبها، والوفاء" الوفاء" لا تظلموا اليتيمَ ولا المُعاهدَ. فإن الله خصمٌ لمن ظلمهم". تاريخ الطبري ج5/ص44.
وقيل: أول ما كتبَ عثمانُ إلى عُمالِهِ: "أما بعد: فإن الله أَمَرَ الأئمة أن يكونوا رعاةً، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جُباةً. وإنَّ صَدْرَ هذه الأمة خُلقوا رُعاةً. لم يُخلَقوا جُباة..." الطبري ج5/ص44.
تؤكد مكاتيبَ الخليفة الراشد الثالث التزامه تطبيق السُّنّة، وكان نص بيعتِهِ على لسان عبدالرحمن بن عوف الزُّهري رضي الله عنه، الذي قال: "أما بعد: فإني نظرتُ في أحوالِ الناس، وشاورتُهم فلم أجدهم يُعْدَلون بعثمان. ثم قال: يا عثمان! نُبايعُكَ على سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخليفتين من بعدِهِ. قال عثمان: نعم. فبايعه عبدُ الرحمن، وبايعهُ المُهاجرون والأنصارُ وأُمراءُ الأجناد والمسلمون، وذلك لغُرَّة شهرِ المُحَرَّم" السيرة النبوية لابن حبّان ص:500.
سار الخليفة عثمانُ رضي الله عنه على طريق الهُدَى والرشاد، فتمسك بالتقوى، وتحرى العدلَ، وتابع الجهاد في سبيل الله. ففتح مدينة الرَّيْ "وفتح من الروم حصوناً كثيرة" تاريخ الخلفاء ص:172 للسيوفي وتابع الفتوحات "ففي سنة 27ه/648م غزا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قُبرس، فركب البحر بالجيوش ... وفيها فُتحت أرجان ... وافريقيا..." تاريخ الخلفاء ص: 173. وفي سنة ثلاثين فُتحت خراسان ونيسابور وما حولهما، وفتحت الحبشة سنة 33ه/653م "ولما فُتحت هذه البلاد الواسعة كَثُرَ الخراجُ على عثمانَ، وأتاه المال من كل وجه حتى اتخذ له الخزائن، وأَدَرّ الأرزاق..." تاريخ الخلفاء ص: 174.
إن الأوضاع الجديدة تطلبت اجتهاد الخليفة عثمان رضي الله عنه فأقطع القطائع، وحمى الحمى، وأمر بالأذان الأول في الجمعة، وفوَّض الى الناسِ إخراجَ زكاتِهم، واتخذَ صاحبَ شُرطة، وأمر بتخصيص معاش للمؤذنين، وهو "أوّلُ مَنْ جمع الناس على حرف واحد في قراءة القرآن الكريم" تاريخ الخلفاء، ص:183.
يعتبر عهد عثمان رضي الله عنه عهد الرفاه والحضارة إذ تعددت مصادر الرزق مع اتساع دار الإسلام، وكان عثمان غنياً في الجاهلية والإسلام، واجتهد فأداه اجتهاده الى الأخذ بقوله تعالى: ]قُلْ مَنْ حَرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيباتِ مِنَ الرزق[ سورة الأعراف: من الآية 32. وبناءً على الأخذ بهذه الآية الكريمة وَسَّع عثمان رضي الله عنه على الناس، فَمَلَكَ الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - الضياع، وبَنَوا البيوت الفخمة في الحجاز والشام ومصر والعراق، وتعدّدت مساكنُ الواحد منهم، وكانت مكاسبَهم من طُرُقِ الحلال، ولذلك "لم يكن ذلك مَنْعِيّاً عليهم في دِينهم، إذ هي أموالٌ حلالٌ لأنها غنائِمُ وفُيُوءٌ، ولم يكن تصرفُهم فيها بإسراف إنما كانوا على قَصْدٍ في أحوالهم، كما قُلناهُ، فلم يكن ذلك بقادحٍ فيهم" وإن كان الاستكثارُ مِنَ الدنيا مذموماً فإنما يرجع الى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد. وإذا كان حالُهُم قَصْداً ونفقاتُهم في سُبُلِ الحقّ ومذاهبه، كان ذلك الاستثكار عوناً لهم على طُرق الحق، واكتساب الدار الآخرة..." مقدمة ابن خلدون ص: 205.
من اجتهاداته
اعتبر عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أراضي الصوافي فيئاً للمجاهدين حيث منحهم أربعة أخماسها، ووضع الخُمْسَ في بيت مال المسلمين تاريخ الطبري ج4/ص 31- 32. ولكن المجاهدين تركوا إدارة أرض الصوافي للوُلاة والأمراء على أن يوزع إنتاجها على المجاهدين، ولذلك منع عمر رضي الله عنه بيع أراضي الصوافي تاريخ الطبري ج4/ص32- 33.
اتسعت بلاد الإسلام في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه 13ه 634م - 23ه 643م واجتهد في مسألة أراضي الصوافي وأداه اجتهادُه الى اعتبارِ توزيعها من حقه حيث اعتبرها خاضعة لأحكام بيت مال المسلمين، ورأى عثمان رضي الله عنه أنّ عمارةَ الأرض وحراثتها "أردُّ على المسلمين، وأوفر لخراجهم من تعطيلها، فأعطاها مَنْ رأى إعطاءَه على أن يَعْمُروها كما يعمرها غيرُهم، ويؤدوا عنها ما يجب للمسلمين عليهم..." الأموال، ابن سلام ص: 262.
لم تكن غايةُ عثمانَ رضي الله عنه مخالفةَ الذين قبلَهُ، وإنما تغيرت الأحوال في زمانه فاتساع الأرض وتنوعها من أراض بعلية ومروية ومغمورة بالماء ومهجورة وسائبة. ذلك التنوع تطلّب أحكاماً شرعية استند إليها اقطاعُ عثمان رضي الله عنه أراضي الصوافي لأصحابه إذ "أَقْطَعَ الزبيرَ وخباب وابن مسعود وابن ياسر..." وغيرهم تاريخ الطبري ج3/ص:589. ولم يُنكروا عليه ذلك، فاعتبرت موافقتهم إجماعاً. وكُتُبُ التاريخ تُورِدُ أسماء صحابة آخرين أقطعهم الخليفة عثمان أراضي من الصوافي. كتاب الخراج أبو يوسف ص:62، وفتوح البلدان للبلاذري ص: 335، وسنن البيهقي ج6 /ص:145، وتاريخ بغداد للخطيب ج1 /ص19- 20.
وكانت غايةُ الخليفة من إقطاع أراضي الصوافي تعمير تلك الأراضي لأن تعميرَها "أردُّ على المسلمين، وأوفر لخراجِهم من تعطيلها، شريطة أن يُؤدوا حصَّةَ بيت المال" الأموال، ابن سلام ص: 261- 262. ولم يتوقف ذلك الأمر عند ذلك الحد بل سمح عثمان بمبادلة أراضي الصوافي بأراض أخرى عن تراض، كما كان يشتري أراضي لبيت المال وذلك بدفع ثمنها الى مالكها الأصلي تاريخ الطبري ج4/ ص281.
واستمر إقطاع أراضي الصوافي في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه تاريخ الطبري ج3/ص:589. كما استمر في العهد الأموي تاريخ دمشق، ابن عساكر ج2 ق1/ص:145. مما يدل على سُؤْدُدِ رأي عثمان وصواب الإجماع على إقطاع أراضي الصوافي.
توريث المبتوتة في مرض الموت
"رُوي أن عبدالرحمن بن عوف طلّق امرأته في مرض موته، فورَّثها عثمانُ - رضي الله عنه - وقال: فَرَّ مِنْ كتاب الله. وكان ذلك بمحضر مِنَ الصحابة من غير نكير. فكان إجماعاً منهم على ذلك". ايثار الانصاف سبط ابن الجوزي/ ص:169، 179. وهذا يعني: أن اجتهاد عثمان أداه الى اعتبار طلاق الرجل في مرض الموت من أنواع الفرار ممّا يترتب للزوجة من حقوق الميراث التي نصّ عليها الشرع الإسلامي، إذ جاء في القرآن الكريم قوله تعالى ]ولَهُنَّ الربع مما تركتم[ سورة النساء، من الآية: 12. ولذلك مَنَحَ عثمان زوجة عبدالرحمن بن عوف رُبْعَ ماله عملاً بالنص القرآني. ولم يعتبر طلاقَهُ طلاقاً شرعياً. وإنما اعتبره فراراً من الحكم المستنبط من النص القرآني. وفي هذه الحادثة نقف على قضيتين من قضايا أصول الفقه هما اجتهاد الخليفة عثمان رضي الله عنه" والإجماع على ترجيح اجتهاده لأن الصحابة لم يُنكروا اجتهاده. وهذا نموذج من نماذج أصول الفقه الإسلامي في ذلك العهد إذ كان يُطبّق الفقه عملياً على صعيد الواقع قبل تدوينه.
ومن صور اجتهاده ترجيحه بين النصوص القرآنية، في مسألة "نكاح الأخت في عدّةِ الأختِ عن طلاق بائن، أو ثلاث، أو نكاح فاسد..." إيثار الانصاف ص:138- 139. إذ "روي عن عثمان أنه قال: أحلَّتْها آية. وحَرَّمتها آية. والتحريم أولى" ايثار الانصاف ص: 139. والآية المحلّلة قوله تعالى: ]أو ما ملكت أيمانكم[ سورة النساء، من الآية: 3. والآية المحرِّمة قوله تعالى: ]وأن تجمعوا بين الأُختين[ سورة النساء من الآية: 23. وهكذا نجد أن الخليفة عثمان رجح التحريم لأنه أرجح في هذه المسألة. ومن صور اجتهاد الخليفة عثمان مسألة جمع القرآن واعتماد المُصحف الذي سمي في الزمن اللاحق: المصحف الإمام. وهو لم يكن أول من جمع القرآن. لكنه هو أول من ألزم الأمصار اعتماد المصحف الذي أجمع الصحابة على صحّتِهِ.وقد مرّ جمع القرآن بالمراحل الآتية:
1- جُمِعَ القرآن الكريم في عهد النبي - محمد صلى الله عليه وسلم - بطريقتين هما الحفظ والكتابة.
آ- الجمع بالحفظ: أي بالحفظ المُتقن، وأول مَنْ حَفِظ القرآن الكريم هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم - وكان الصحابة يحفظون القرآن الكريم. ولكن بعضَ الحُفّاظِ لم يتمكّنوا من عَرْضِ حفظِهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء لم يذكُرهم المُحَدِّثون والمؤرخون" واقتصروا على ذِكرِ أسماء الذين حفظوا القرآن كُلَّهُ وعَرَضُوهُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ: الخلفاء الراشدون الأربعة: "أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب. وحفظه من الصحابة: طلحة، وسعد بن أبي وقّاص، وحُذيفة بن اليَمَان، وسالم، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس، وعمرو بن العاص، وعبدالله بن عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبدالله بن السائب، وأُبَيُّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، ومجمع بن حارثة، وأمهات المؤمنين: عائشة، وحفصة، وأم سلمة، رضي الله عنهم جميعاً". كتاب المدخل الى أصول الفقه، شعبان اسماعيل ج1/ ص:222.
عن هؤلاء الحفاظ أخذ عدد كبيرٌ من الصحابة والتابعين في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والبصرة، والشام وغير ذلك من بلاد الإسلام. التحبير، السيوطي ص: 151- 151.
ب- الجمع بالكتابة: كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لم يتعلم الكتابة، ولذلك اتخذ كُتَّاباً يكتبون له ما يُريد كتابته. "وكان أُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت يكتبان الوحي بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم. ويكتبان كُتُبَه الى الناس..." تخريج الدلالات السمعية للخزاعي ص: 181. ومن الذين كتبوا القرآن الكريم "بين يَدَي الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الراشدون الأربعة، معاوية بن أبي سفيان، وأَبّان بن سعيد بن العاص، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس، وغير هؤلاء..." المدخل، شعبان اسماعيل، ج1/224. فقد كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن الأرقم الزُّهري تخريج الدلالات السمعية ص: 181. وخالد بن سعيد بن العاص، المصدر السابق نفسه ص: 174. وعبدالله بن سعد بن أبي سرح المصدر السابق نفسه، ص 179 - 180.
تفاوتت درجات كُتّاب الوحي، يأتي في المقدمة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ثم زيد بن ثابت، وأبي بن كعب. "وكان زيد ألزم الصحابة لِكتابِ الوحي. وكان أُبي وزيد يكتبان الوحي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة كَتَبَ من حضر من الكُتّاب..." تخريج السمعية ص: 171.
إن ما كتبه هؤلاء من القرآن الكريم بقي متفرِّقاً في الأدوات التي كتبوا عليها، من عُسُب النخيل، وألواحِ الحجارةِ، والجلود، والعظام. ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في كتاب واحد، لأن القرآن نَزَلَ مُنجّماً. أي: مُتَفرّقاً. وفيه الناسخ والمنسوخ، وترتيب سياق السُّورِ والآيات كان توقيفياً يقتصر على ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم. وإضافة الى ما سبق كان الاهتمام موجهاً الى حفظ القرآن بالصدور، لا إلى كتابته في السطور، وسبب ذلك أن الحفظَ ممكنٌُ للأُميين والكُتّاب أما الجمع في السطور فيقتصر على عدد من الذين يتقنون القراءة والكتابة. وإضافة الى ما سبق إن الفترة الفاصلة بين نزول آخر القرآن ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قصيرة جداً.
2- جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه.
وقعت حرب اليمامة سنة 12 ه/633م بين المسلمين والمرتدين، وكانت أشرس معاركها معركة عَقرَبَة التي انتهت في "حديقة الموت" التي شهدت مصرع مسيلمة الكذاب والمرتدين. واستشهد عدد كبير من الصحابة بينهم "سبعون" كتاب الجامع ص: 300 من حُفّاظ القرآن.
بعد حرب اليمامة أشار عمر بن الخطاب على الخليفة أبي بكر الصديق بجمع القرآن الكريم وكتابته خشية ضياعه فكلّف الخليفةُ زيدَ بن ثابت بجمع القرآن فجمعه من الرِّقاع ومن الحُفَّاظ ودوّنه في صُحُف سلمها الى الخليفة أبي بكر فبقيت عنده حتى وفاته، ثم انتقلت الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبقيت عنده حتى استشهد فحُفِظَتْ عند ابنته حَفْصَة أم المؤمنين. وبقيت عندها حتى طلبها منها الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه.
3- جمع القرآن الكريم في عهد عثمان.
جُمعَ القرآن الكريم خشيةَ انقراض الحفّاظ في أيام الخليفة أبي بكر الصديق. وفي أيام عثمان رضي الله عنه ظهرت فتنةٌ كبرى سبّبها اختلاف القراءات التي اشتهرت في البلدان الإسلامية حيث تعصّب الطلاب لأساتذتهم من الصحابة، وعمّت فتنة الخلاف. فأخذ أهل الشام بقراءة أُبي بن كعب وأخذ بعض أهل الكوفة بقراءة عبدالله بن مسعود مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة: ج2/11. وبعضهم الآخر أخذ بقراءة أبي موسى الأشعري، كما أخذ بقراءته أهل البصرة مفتاح السعادة لطاش كبرى زادة ج2/12. وتعددت القراءات وظهر التعصُّب حتى وصل الحجاز، فجَمَعَ الخليفة عثمان بن عفان أعلام الصحابة، وطرح عليه رأيه الذي يقتضي استنساخ المصحف وإرسال نُسخٍ منه الى الأمصار، وحمل الناس على نص قرآني موحد. فوافقه أهل الحل والعقد فانعقد الإجماع على إقرار رأي الخليفة الذي أدّاه إليه اجتهاده لأن جمع القرآن وحمل البلاد على نصٍّ موحد يحقق مصلحة الأمة الإسلامية، ويدرأ عنها فتنة الخلاف والتناحُر. وهذه المسألة تدل على اجتهاد عثمان وإجماع الصحابة على تأييده والأخذ برأيه. ومن هنا يتأكد اعتماد الإجماع والعمل بالشورى أيضاً، وكل ذلك من صميم أصول الفقه.
شرع عثمان في تنفيذ رأيه في أواخر سنة 24ه 645م وأوائل سنة 25ه 646م حيث عهد بمهمة نسخ المصحف في نسخ عدة الى أربعة من الصحابة الحفّاظ، وهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام. واعتمد النُّساخ على الصحف التي جمعها أبو بكر وانتقلت الى عمر وكان النّساخ يعرضون ما يكتبون على حُفاظ الصحابة، الذين كانوا يُقرون ما يُستَنْسخ من آياتِ الذكر الحكيم. ويشهدون أن ما يُستنسخ عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عرضة، ولم يُنْسَخْ، وكُتب القرآن خالياً من النقط والشكل كي تُقرأ على سبعة أحرف أي: القراءات لأن القراءات السبع مفتاح السعادة 2/24- 51 متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعد اعتماد نص موحد في ثماني نسخ، أمر عثمان رضي الله عنه بإتلاف كافة النصوص الأخرى لحسم النزاع، ومنع إدخال ما ليس من القرآن في القرآن كالتفسير الذي كان يُدونه الصحابة بين السطور. كما أمّن عملُ عثمان منعَ إدراج النصوص المنسوخة في سياق غير المنسوخ، وبذلك قدَّم عثمانُ رضي الله عنه للمسلمين خدمة جليلة تجلت في صيانة كتابهم عن التحريف والتزوير، ووصلنا القرآن بفضل ذلك العمل بصورة صحيحة ساهمت في توحيد الأمة الإسلامية على اعتماد كتاب واحد تمهيد الأوائل ص: 533، ومناهل العرفان 1/248- 256 وأرسل الخليفة عثمان مصاحف الى مكة والشام والبصرة والكوفة واليمن والبحرين، واحتفظ بمصحف لنفسه سمّي المصحف الإمام، ووضع مصحفاً في المدينة المنورة.
يتضح مما سبق أن علم أصول الفقه كان موجوداً في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ مارس الخليفة الاجتهاد وأداهُ اجتهاده الى استنباط أحكام شرعية تم اعتمادها من قِبَلِ الفقهاء، لأنها مستنبطة بحسب الأصول الشرعية. وليست الأمثلة التي أوردناها هي كل ما استنبطه عثمان فهنالك مسائل أخرى تمهيد الأوائل، ص: 530- 543.
على رغم الخدمات الجليلة التي قدمها الخليفة عثمان الى الإسلام والمسلمين، حَقَدَ عليه ضعاف الإيمان وتكاتفوا وهاجموا منزله وحاصروه 49 يوماً، ثم قَتَلَهُ سَوْدان ان حِمران المُرادي مشاهير علماء الأمصار، ص: 23- 24. وكان ذلك سنة 35ه 656م "وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ذي الحجة..." مشاهير علماء الأمصار، ص: 24.
استشهد عثمان وخلّف صوراً واضحة من اجتهاده تؤكد اعتباره من علماء أصول الفقه الأولين الذين اجتهدوا فأصابوا وأخذ اللاحقون الصالحون باجتهاده الذي أغنى أصول الفقه الإسلامي في مرحلة ما قبل التدوين.
* زميل باحث في مركز الدراسات الإسلامية، كلية الدراسات الشرقية والافريقية، جامعة لندن، ساواس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.