الصلة بين خطاب العنف وممارسات العنف هي الصلة بين السبب والنتيجة في علاقة فاعلي ثقافة العنف بالمنفعلين بها، فالخطاب الذي يجسِّد عنف ثقافة تختزل كل ما في الوجود اللانهائي للكون في تأويل ضيق وحيد للدين، لا ترى غيره، ولا تقبل سواه من غيرها، بل ترفضه وتمارس عليه قمعها، هو الخطاب الذي يتحول إلى دوافع انفعالية تنتهي إلى أفعال عنف ناتجة من هذه الدوافع، ومخرجة لها إلى حيز الوجود، وذلك في ممارسة عارية للعنف الذي سرعان ما يغدو إرهاباً قاتلاً. وأولى العلامات الدالة على ذلك هي ما ينبني عليه خطاب العنف من حسم حَدِّي في تحديد المباح وغير المباح، الحلال والحرام، ما يقال وما لا يقال. وثانية هذه العلامات هي تعدد أدوات توصيل هذا الخطاب ووسائطه التي ألفناها كما لو كانت بعض وجودنا اليومي، وكما لو كنا قد تطبعنا كل التطبيع بلوازمها ودوالها. وثالثة هذه العلامات هي تصاعد آليات هذا الخطاب في اتجاه هدفها النهائي المرتبط بممارسة العنف العاري. ويمكن بسهولة رصد العمليات التي ترتبط بهذه الآليات من منظور الهدف النهائي للخطاب. وأول ذلك آلية "الإشاعة" التي تقترن بعملية لغوية عمادها التحسين الدلالي الذي تنتقل فيه عدوى الحسن بين الدوال بواسطة المجاورة اللغوية، سواء على مستوى الإسناد النحوي أو الإضافة أو النعت أو الاتباع، وذلك في مقابل التقبيح الدلالي الذي تنتقل فيه عدوى القبح بين الدوال بواسطة المجاورة اللغوية نفسها، فضلاً عن المقابلة التي يبرز فيها النقيض قبح نقيضه أو حسنه. والمظهر العملي لذلك هو ما يتأثر به متلقي هذا الخطاب من عمليات التحسين التخييلي لمكونات التأويل الديني الذي تنتهي ثقافة العنف إلى التمسك به بوصفه التأويل الأوحد، وما يفضي إليه هذا التأويل من مواقف عملية، ترتبط بعمليات التقبيح التخييلي، تلك التي تصل إلى ذروتها بتكفير هذا الشخص أو ذاك، وهذا الكتاب أو تلك الرواية... إلخ. وحالة تكفير رواية "وليمة لأعشاب البحر" حالة كاشفة عن هذه الآلية، خصوصاً عندما نلاحظ أن تكفيرها اعتمد على عمليات تقبيح أولية لكل ما يتصل بها، وعمليات تحسين مقابلة لكل ما يقف نقيضاً لها. ولم تخل هذه العمليات من معنى "الاستيعاب" الذي يراوغ بحذف كل ما يمكن أن ينقض عملية التقبيح في الرواية، أو استبدال أحوال الصفات الموجبة فيها بما يردها إلى السلب في كل احتمالاتها وذلك بما لا يبقي في الرواية إلا كل ما يقبل التقبيح ويدعمه أو يؤكده. ويكتمل ذلك، بالطبع، بعملية "إقصاء" لكل ما هو مضاد لمفردات التقبيح في الرواية التي قصد إلى تكفيرها، وتعميم صفة بعض ما اقتطع منها على كل ما يتصل بها. ويعني ذلك القراءة على طريقة الوقوف بعد "لا تقربوا الصلاة" أولاً، وتعميم الناتج منها ثانياً، ووصل المستقبح من الأجزاء المقتطعة والمنزوعة من سياقاتها بما يجهز على معناها بكل ما يلازم عمليات التقبيح التي تنطوى على مقصد التكفير. وناتج العمليات السابقة هو القمع الذي تمارسه لغة الخطاب وتؤسسه في آن، حيث علاقات التقبيح التي تقذف بمفعوله إلى مزبلة الدلالات، وذلك بواسطة تأثير المجاورة للأقبح، أو التشبيه بالأبشع، أو الإضافة إلى المخيف، أو الإسناد إلى المحرم، الأمر الذي يترتب عليه نفور متلقي الخطاب من المجاور للأقبح دلالياً، ومن المشبه الذي انتقلت إليه عدوى المشبه به الأبشع، ومن المضاف نحوياً بسبب الخوف من المضاف إليه، ومن المسند الذي يكتسب عدوى التحريم من المسند إليه، والعكس صحيح بالقدر نفسه. وتنتقل هذه اللوازم القمعية من العنف الذي تمارسه اللغة وتؤسسه إلى العنف الذي يمكن أن يؤسسه الافراد نتيجة هذا التأسيس. ويحدث ذلك حين تقوم الملفوظات اللغوية أو العلامات المثيرة المقترنة بها بتعدية الأفراد المتلقين لها إلى انفعال يؤدى إلى اقتراف فعل القمع العاري على الشخص أو الموضوع أو الموقف أو الحدث أو العمل الإبداعي أو الفكري الذي قذفت بها الآليات الخطابية إلى مزبلة الدلالات بالمعنى الديني أو السياسي أو بكلا المعنيين وغيرهما في آن. وهذا هو ما حدث، مرة أخرى، مع رواية "وليمة لأعشاب البحر" التي تم تقبيحها إلى الدرجة التي أشاعت الوهم بكفرها بين الذين أفلح تخييل خطاب العنف في تعديتهم من الانفعال إلى الفعل، وفي تحريكهم ضدها بواسطة الكلمات التي تحولت إلى أفعال، والشعارات التي تحولّت إلى مثيرات نجحت في تحقيق أهدافها. وأتصور أن العملية التي تحولت بها ممارسات العنف اللغوي إلى ممارسات عنف عاري، في حالة رواية حيدر حيدر، ليست سوى حلقة من سلسلة متصلة، تأخذ من غيرها الذي سبقها، وتفضي إلى غيرها الذي لا بد أن يتبعها عاجلاً أو آجلاً، ما ظل وقود التعصب لثقافة العنف يغذي الماكينة الجهنمية لخطاب العنف الذي لا يكف عن تعدية المنفعلين به إلى ممارسة العنف العاري للإرهاب الذي يقضي على كل شيء. والتلازم ظاهر بين ممارسة هذا النوع من العنف وإيذاء الأبرياء من حولنا، وذلك نتيجة التأثير المباشر وغير المباشر لخطاب العنف الديني الذي أدى إلى كثرة عدد القتلى من المواطنين الأبرياء الذين حصدتهم رصاصات المتطرفين وقنابلهم التي روعت المجتمع المصري باسم الاسلام الذي هو بريء من كل ما فعلوا، والذي أدى إلى اغتيال السائحين الأبرياء الذين كان قتلهم سبباً لكساد الاقتصاد المصري وإيقاع الضرر الفادح بالأسر العاملة بالسياحة، كما أدى إلى ضحايا مثقفي الاستنارة من طلائع المجتمع المدني الذين قتلوا مثل فرج فودة، أو تعرضوا للقتل مثل مكرم محمد أحمد ونجيب محفوظ، أو تهديدهم بالقتل، وهم أكثر من أن أحصيهم في هذا المقام، أو تم تقديمهم إلى المحاكم في قائمة طويلة لم تنته بحكم التفريق بين نصر أبو زيد وزوجته. ولا أدل عملياً على آليات خطاب العنف الذي أحاول توصيفه من مراجعة عناوين أعداد صحيفة "الشعب" التي أسهمت عناوينها مع بقية مفردات خطاب العنف في أغلب المقالات التي نشرتها الصحيفة في إشعال فتيل فتنة رواية "وليمة لأعشاب البحر" المظلومة، وذلك ابتداء من عدد التحريض الأول 28/4 وانتهاء بالعدد الأخير 16/5 قبل إغلاق الصحيفة، حيث نجد العناوين التالية: - "يا شعب مصر اغضب في الله". - "من يبايعني على الموت". - "اليوم مؤتمر الغضب في الله بمقر حزب العمل". - "وزارة الثقافة تواصل تحديها لمشاعر المسلمين والأقباط". - "لا إله إلا الله .. الجريمة مستمرة .. ثلاثية الثقافة في مصر .. الكفر والعهر والتطبيع". - "أعوان الوزير يدافعون عن رواية سب الدين ويقولون إن التطاول على الله قمة الإبداع". - "... لا مجال للهدوء والحل الوسط، والجنون في الدفاع عن الذات الإلهية هو عين العقل". - "يا أصحاب الحديث عن التنوير والظلامية الزموا الصمت هذه الساعة حتى لا يطويكم الطوفان". - "الرواية المشبوهة هي محاولة لجس نبض حرارة الإيمان لدى الشعب المصري استعداد لمزيد من الطعنات". - "نحن أمام تيار منظم بتمويل غربي لمواجهة الصحوة الإسلامية" - "معركتنا مستمرة لمواجهة أي عدوان على دين الله". - "يا أعداء الإسلام : الدولة لن تحميكم فساعة الطوفان لا عاصم من غضب الله". - "مظاهرات الأزهر رسالة واضحة وبداية فاتعظوا يا أولي الألباب". - "يا سيادة الرئيس: الفتنة تطل ... فأطفئها". - موقف الدولة ... "يعنى الآن مساندة الدولة للملحدين". وكلها عناوين تبدأ وتنتهي بالتحريض المباشر على ممارسة العنف العاري. ولذلك تتصاعد بتكرار كلمات مثل "الغضب" لتصل إلى الاستخدام المباشر للمبايعة على "الموت" الذي لا بد أن يكون الجزاء العادل للمفعول الذي يتولى خطاب العنف تحريض الناس عليه. وبالطبع، فإن فاعل الخطاب في هذه الحالة هو المتصف وحده بالإسلام، المحتكر الأوحد للدفاع عنه، ونائب المسلمين جميعاً في الحديث باسمه، أما من يخالفه فيقع موقع المجرم الكافر، فاعل "جريمة الكفر" الذي يتحدى مشاعر المسلمين والاقباط، والذي ينتمي إلى "تيار منظم بتمويل غربي لمواجهة الصحوة الإسلامية". وجزاء المجرم القتل، وجزاء من يدافعون عنه التهديد السافر، ابتداء من أعوان وزير الثقافة الذين دافعوا عن "رواية سب الدين"؟! وانتهاء بأصحاب الحديث عن التنوير الذين عليهم لزوم الصمت حتى لا يطويهم الطوفان، فلا سبيل لنجاتهم إلا إحدى اثنتين: "عليكم أن تلزموا الصمت في هذه الساعة، وتغلقوا أفواهكم النجسة، أو أن تهاجموا معنا ما جاء في الرواية". ويزيد من حدة معنى هذا التحذير ما يلازمه من الإشارة المباشرة إلى أن الدولة لن تحمي هؤلاء المثقفين "ذوي الأفواه النجسة". ويتصل بذلك التهديد بأن الدولة كلها لن تستطيع أن تفعل شيئاً في مواجهة الصحوة الإسلامية المنتصرة على الكافرين، والمستعدة لهم باستمرار، خصوصاً بعد إعلان أن "الحرب على الإسلام، يا أيها الناس، أصبحت سافرة، وعلنية" . ولم يعد أمام الغالبية العظمى من المسلمين إلا أن ترى أن نشر رواية حيدر حيدر هي "أمر تراق دونه الدماء". واللازمة المنطقية لتهديد أعوان وزير الثقافة من المثقفين تهديد الدولة نفسها بالتخلي عن هؤلاء جميعاً. والانضمام إلى جماعة الغاضبين في الله، فمظاهرات المتظاهرين وخطب وعاظ المساجد رسالة واضحة إلى هذه الدولة، وتهديد مباشر لها كي تتعظ، وكي لا تسند الملحدين، وكي تطفئ الفتنة التي يثيرونها، وإلا فهي المسؤولة عن طوفان الغضب الدامي الذي يبايع الغاضبون فيه بعضهم بعضاً على الموت، دفاعاً عما يرونه الحق، بلا عقل ولا روية ولا تردد، فلا مجال للهدوء والحل الوسط في اندفاعة الطوفان، والجنون في الدفاع عن الذات الالهية هو عين العقل. "أيها المتعقلون: في لحظة معينة يكون الجنون هو عين العقل ... ونحن الآن في مثل هذه اللحظة". ترى من ذا الذي يستطيع أن يواجه ترابطات هذا الخطاب من المواطنين البسطاء الذين قد تخدعهم مخايلاته، وتوقعهم في شباك تلبيساته؟ الإجابة مبذولة في طوائف الشباب والشابات الذين تظاهروا ضد رواية لم يقرأوها، واندفعوا في عنف عار لتدمير لممتلكات الأبرياء من المواطنين في الشوارع، مطالبين برؤوس المبدعين الذين أهاجهم عليهم خطاب العنف التكفيري، ذلك الخطاب الذي يدعو كل من يتوجه إليه، ويتأثر به، إلى ترجمة رمزية العنف اللغوي إلى حدِّية الفعل المادي للإرهاب الذي لا يتردد في إراقة الدماء.