تابعت على شاشات التلفزيونات المختلفة، وفى الصحف والمجلات، صور تظاهرات طلاب الجامعة الأزهرية يوم الاثنين الثامن من آيار مايو وما تلاه، وأخذت أتأمل الضحايا في هذه الصور، وأنا أشعر بالحزن والأسى، فهاهم طلاب أبرياء، فقراء، بسطاء، دُفِعُوا دفعا إلى التظاهر والاصطدام بالشرطة، ليقع من يقع من ضحاياهم جريحا أو قتيلا، فيثير غضبة الانتقام العارمة عند البقية الباقية من الطلاب، ويشعل فتنة لا يعلم مداها إلا الله. ولا يهم أن يكون ذلك نتيجة معلومات مضللة واتهامات ملفقة، أذاعها بينهم من أراد استغلال حماستهم الدينية لأغراض سياسية دنيوية، لا علاقة لها بالدين الإسلامي السمح. فالأكثر أهمية عند مثيري الفتنة هو تحويل هؤلاء الطلاب إلى أدوات عنف يوجهونها إلى أعدائهم من مثقفي الاستنارة ومؤسسات الدولة المدنية والمجتمع المدني على السواء. وقد تواترت الأنباء عن المحرضين الحزبيين الذين أثاروا الطلاب وأوهموهم أن الدين الإسلامي انتهكه الكفار من مثقفي الدولة المدنية، كما تداعت المعلومات عن أولئك الذين وزعوا على الطلاب صور مقالات صحيفة "الشعب" المصرية المتطرفة التي تحض على قتل المبدعين، واستئصال المخالفين، واثارة غضبة المتدينين من الطلاب بإدعاء أن رواية كافرة اسمها "وليمة لأعشاب البحر" لكاتب سوري كافر، نشرتها مؤسسة ثقافية مصرية كافرة، ووزارة ثقافة لا عمل لها إلا نشر الكفر والإلحاد، العهر والفجور، وممارسة الخيانة الوطنية والدينية في الوقت نفسه. ولم يكتف المحرضون بتوزيع صور الصحيفة التكفيرية على الطلاب، وإنما علقوا هذه الصور بعناوينها التحريضية البارزة في كل مكان من الجامعة الأزهرية، ليراها كل من لم يتأثر بها من طلاب الجامعة التي ترى في نفسها حصنا للدين وقلعة للدفاع عنه. وفي توقد الحماسة الجارفة، ومشاعر الغضب المحتشدة في نفوس طلاب يعانون من أزمة اقتصادية خانقة، ووطأة التمرد المكتوم من الاحتجاج على الأوضاع السلبية الكثيرة للجامعة الأزهرية نفسها، تزايدت شرارة العنف، واتسع مداها، فاندفع الطلاب من مساكنهم الجماعية إلى الشارع المواجه لها منذ ليل الأحد السابع من آيار مايو مرددين الهتافات المدافعة عن الدين، والمعادية للدولة الكافرة، والمطالبة برؤوس الشخصيات الملحدة، منددة في الوقت نفسه بالكبار من مشايخهم الأزهريين الذين لا يدافعون عن الدين ولا يحاربون الملاحدة والمرتدين. وتجمعت قوات الأمن حول أسوار المدينة الجامعية، وواجهت الطلاب كي تردهم إلى مساكنهم. وحدث الاشتباك الأول الذي كان بمثابة الجولة الأولى التي حققت هدفها تماما في إثارة بقية الطلاب. وما إن جاء اليوم التالي حتى تصاعدت التظاهرات التي استمرت طوال اليوم، محتشدة، عاصفة، متفجرة بكل مظاهر العنف. ووقع من وقع من ضحايا الطرفين: قوات الأمن الذين استخدموا القنابل المسيلة للدموع والهراوات، والطلاب الذين اندفعوا مع رغبة التدمير التي تفجرت داخلهم، فحطموا ما وجدوه أمامهم من سيارات وممتلكات. وبالطبع، تم القبض على الكثيرين من هؤلاء الطلاب، الأمر الذي أثار زملاءهم الذين واصلوا التظاهر، وواصلوا الهتافات المعادية لكل أعداء الدين من الذين قيل لهم إنهم كفار وملاحدة. وأضاف إلى حماسة الطلاب شعورهم أنهم أوقفوا الدولة كلها ولم يقعدوها طوال ما يقرب من أسبوع، وأصبحوا محط اهتمام الإعلام العالمي. وفى الوقت نفسه، أصبحوا هدفاً تتزايد أهميته لتحقيق المزيد من الإثارة الدينية، وموضعاً من جسد الأمة يتأثر التأثر المطلوب من الحقن التحريضي الذي ينتج أفعال العنف التكفيري. ولم يكن من قبيل المصادفة أنه في مساء اليوم العاصف للتظاهرات الاثنين - الثامن من آيار مايو عقدت صحيفة "الشعب" الناطقة باسم حزب العمل الذي أصبح الواجهة العلنية لجماعات "الإخوان المسلمين" مؤتمراً تحريضياً حاشداً، أُعْلِن فيه تكفير كل رموز الاستنارة المصرية، ابتداء من طه حسين وانتهاء بكُتاب المجتمع المدني اليوم، خصوصا أولئك المخالفين لدعاوى الدولة الدينية والمدافعين عن ضرورة وجود دولة مدنية، دولة تحترم أديان ومعتقدات كل مواطنيها، وتتسع بهوامش الممارسة الديموقراطية التي تعني - فيما تعني - احترام حرية التفكير والإبداع. وأعلنت الحرب على ما سمي بأنه "تيار منظم بتمويل غربي لمواجهة الصحوة الإسلامية". وقيل إن هذه "هي لحظة غضب، والغضب لله سبحانه مشروع ومطلوب، بل فريضة". وتكرر التنديد بوجود "عصابة ومنظومة فكرية" تهدف إلى تدمير الدين الإسلامي بموافقة الحكومة كلها. وذكرت أقوال وأحداث ملفقة على ألسنة "التنويرين الكبار" تؤكد كفرهم الصريح وعداءهم الالحادي للقرآن الكريم. ولم يتردد أستاذ للأدب العربي في أن يقول: "أخبرني من لا أتهم أنه دخل على أحد هؤلاء التنويريين الكبار جدا وأمامه لوحة وبرية وصورة من المصحف الشريف يقص منها الآيات، ويرصها رصاً حسب اختياره هو على اللوحة الوبرية، ثم يلتقط صورة لكل مجموعة ليخرج بقرآن جديد... ثم قال هذا التنويري: أليس ترتيبي هذا للقرآن أحسن؟...". ولا أريد أن أمضي في بقية الاستشهاد الذي لا فرق بين محتواه وهذيان الخيال المريض. فالأهم هو أن حملة الهجوم على "التنويريين" المساكين وصلت إلى ذروتها، واستخدم تكفير كتاب حيدر حيدر ذريعة للقضاء التام، والنهائي، على كل فلول التنويريين الذين يشيعون الفساد في الفكر والإبداع، وذلك تمهيداً لقدوم البديل السياسي المعادي للتنوير. ولذلك لم يفت أحد المؤتمرين الإشارة إلى أهمية تعريف الأمة برؤوس الكفر من التنويريين، رأسا رأسا، وأوصى الحضور بركعتين في الهزيع الأخير من الليل، والدعوة على التنويريين الملاعين "بأن يدمر الله خلايا عقولهم، وأن يشتت شملهم، ويرمل نساءهم... وأن يبتليهم بالأمراض والأوجاع التي يتمنون معها الموت فلا يجدونه". وفى النهاية، لم ينس المجتمعون مطالبة الحكومة بالإفراج عن المعتقلين من حزب "العمل" و"الإخوان المسلمين" في الوقت نفسه، وتهديد الدولة بأن "شباب الأمة عند الأزمات ينبري لأعداء الإسلام... وأن الإسلام سيظل قويا ما ظلّ يوجد مثل هذا الشباب". ولست في حاجة إلى القول إن الرسالة وصلت إلى هؤلاء الشباب المتفجرين بالعنف في الجامعة الأزهرية، وزادتهم عنفا على ما هم فيه من عنف بواسطة المحرِّضين الحزبيين الذين لم يقصروا في أداء مهمتهم، فتواصل العنف الطلابي، واستمرت التظاهرات في الأيام التالية. وهى الأيام التي دخلت فيها "الجماعة الإسلامية" إلى المعركة، مؤكدة أن رواية الكاتب السوري "داعرة فاسقة" تتهجم على القرآن الكريم، وأن نشرها هو جزء من مخطط "فرض عولمة الكفر والإلحاد على الأمة الإسلامية". ولم ينس بيان "الجماعة الإسلامية" تحية الطلاب الذين غضبوا في الله. وانضمت إلى "الجماعة الإسلامية" في مصر "الجماعة الإسلامية المسلحة" التي قيل إنها في أفغانستان، ودعا قائدها العسكرى الشباب المصري أن يحذوا حذو إخوانهم في جامعة الأزهر. وأكد في بيان تم توزيعه في القاهرة، كي يتلقاه الطلاب، أن تظاهرات الأزهريين تثبت أن الأزهر "سوف يكسر يوما قيوده، وعندها ستتحرر الأمة بتحرره". وحث البيان الطلاب على مواصلة التنديد برواية "وليمة لأعشاب البحر" التي كتبها كاتب ينتسب إلى "العلمانيين والزنادقة الملحدين" الذين هم سوس نخر في "جسد الأمة". وكان طبيعياً أن يستجيب طلاب جامعة الأزهر إلى ما لم ينقطع من وقود التحريض، وأن يواصلوا غضبتهم، ويعلنوا عن اعتصامهم، وعن الإضراب عن الطعام إلى أن يتم الافراج عن زملائهم الذين قبضت عليهم الشرطة. واستمرت صيحات المطالبة برؤوس الكافرين، وحرق الرواية الكافرة، والقضاء على رؤوس الإلحاد، وتولى البعض توزيع صور منشورات مكتوبة بخط اليد. وقد أتيح لي أن أقرأ واحدا منها، أتى به صديق يسكن في مدينة نصر، في مواجهة المدينة الجامعية، حيث قام الطلاب بتوزيع هذه المنشورات. ومن الأهمية بمكان أن أذكر نص هذا المنشور كما هو حرفيا، طبق الأصل، كلمة كلمة، وعلامات كتابة، مبقيا على أخطائه اللغوية وركاكة أسلوبه، فلا شيء أقدر من هذا المنشور على تصوير هوة المنحدر الثقافي المخيف التي نتجه إليها. يقول المنشور: "نحن طالبات وطلبه جامعة الأزهر نوجه نداء إلى كل مسلم ومسلمه أن يضموا صوتهم إلى صوتنا مطالبين معنا بأهدار دم الكاتب السوري اللعين ]حيدر[ الذي أصدر كتابا بعنوان ]وليمة لأعشاب البحر[ والذي يتطاول فيه على الذات الآلهيه ويقول ]أن الله وعل له قرون يهبط من السماء ليقابل عشيقته[ فطالبوا معنا بالأفراج عن أخواننا الطلبة مع عدم تعرضهم لأى أذى. وإقالة فاروق حسني وزير الثقافة. ونحب أن نعلمكم أننا قد تعرضنا أول أمس يوم الأثنين 8/5/2000 للضرب والسب والاذى من قوات الأمن فلا تصدقوا ما قالته وكالات الأخبار وفى وسائل الأعلام جميعاً. ونعرفكم أننا صامدون إلى النهايه كل ما نرجوه منكم هو الوقوف بجانبنا فالقضيه عامه وليست خاصه بطلبه وطالبات الأزهر فقط". وأعترف أنني، عندما فرغت من قراءة المنشور، شعرت بالأسف البالغ على الهوة الثقافية والتعليمية التي سقط فيها هؤلاء الطلاب، نتيجة نظام تعليمي لم يفلح إلا في ترسيخ قواعد التقليد والنقل الجامدة دون إعمال العقل، نظام تعليم كرَّسَ في عقول هؤلاء الأبرياء تصديق كل ما يقال دون دليل أو بينة، والمسارعة إلى الاتهام وإصدار الحكم بالإعدام على مؤلف رواية لم يقرأوها، رواية لم يسمعوا عنها سوى ما قيل لهم من فريق واحد دون غيره. ولذلك لم يفكر هؤلاء الطلاب في الاستماع إلى أصوات بقية التيارات المعارضة، أو حتى المطالبة بقراءة الرواية التي تصدوا للحكم عليها. وقلت لنفسي: أإلى هذا الدرك أوصل التعليم الأزهري طلابه وطالباته فقبلوا كل ما قيل لهم من تكفير للآخرين تحت راية الإسلام البريء من التكفير؟! أإلى هذا الحد يصدق هؤلاء الطلاب والطالبات قول المكفرين، أيا كان القول، وأيا كانت النتيجة؟ وهل وصلت بهم السذاجة العقلية والتضليل الفكري إلى درجة تصديق إمكان أن يقول كاتب في عالم عربى، أغلبيته مسلمة، مثل هذا الكلام الذي لا علاقة له برواية "وليمة لأعشاب البحر" من قريب أو بعيد؟ والحق أنني شككت في ذاكرتي فراجعت الرواية المظلومة رغم تأكدي من أن هذا الكلام الفارغ لا يوجد فيها، وانتهت المراجعة إلى التثبت من التأكيد. وسألت نفسي بعد ذلك: ولكن من أين جاء الطلاب بهذا الاتهام اللامعقول؟ وسرعان ما وجدت الإجابة في عناوين مانشيتات الصفحة الأولى من عدد صحيفة "الشعب" الصادر في صباح الخامس من آيار مايو قبل اندلاع التظاهرات بيوم وبعض يوم. وللأسف، لم يتوقف من كتبوا المنشور ليسألوا عن معقولية هذا الذي نقلوه وصدقوه عن الرواية المظلومة التي أصبحت فرصة للهجوم على كل معاني الدولة المدنية وقيمتها. ولم ينصحهم أساتذتهم بالتروي، وإنما تولى الكثيرون منهم صب الوقود على النار التي أشعلها المحرضون الحزبيون في نفوس الطلاب، فكانت تظاهراتهم ومنشوراتهم دليلا على عدم التعقل، ودليلا على الضحالة الثقافية، وعلى الفقر اللغوي في الوقت نفسه. ولذلك لم أملك سوى معاودة سؤال نفسي قائلا: أإلى هذه الدرجة من الإحساس الغليظ باللغة العربية - لغة القرآن الكريم الذي حفظه أو يحفظه هؤلاء الطلاب فيما يفترض - وصل هؤلاء الطلاب؟ ولكن أليست هذه اللغة الركيكة هى الصورة اللفظية لما في عقولهم من حشو لا علاقة له بالدين أو العلم؟ ولم أجد إجابة مقنعة عن كل الأسئلة التي طرحتها على نفسي سوى أن حملات التكفير لا يمكن أن تزدهر إلا مع الجهل من ناحية، ومع شيوع أفكار الإظلام في عقول الشباب من ناحية ثانية، ومع وجود أنظمة تعليمية عاجزة ومتدنية من ناحية ثالثة، ومع وجود أجهزة ثقافية ضعيفة الإمكانات، يحال بينها وبين الناس، وتحاصر أعمالها بتهم الكفر والإلحاد والإنحراف الأخلاقي والخيانة الوطنية من ناحية رابعة. وأضيف إلى ذلك جهاز إعلام يدفن عيونه في الرمل كالنعام، خائفاً من دخول مناطق شائكة من ناحية خامسة، ومع وجود مثقفين غلب عليهم الإنشغال بالصراعات الصغيرة، ونسوا أنهم جزيرة صغيرة محاطة بتيارات التخلف والتطرف من ناحية سادسة. وأخيرا مؤسسات حيوية للدولة لا تريد أن تتخلى عن سياسة رد الفعل، ولا هم لها سوى إبقاء كل شيء على ما هو عليه، وعدم التحرك إلا إذا وقعت كارثة، فإذا وقعت الكارثة انحصر التفكير في الاكتفاء بالإطفاء الموقت للحرائق دون مواجهة جذرية لمخزون الوقود المتزايد الذي تستمد منه الحرائق قوتها. ولقد كانت نتيجة ذلك أن شباباً كثيرين جداً، لا يختلفون كيفياً عن طلاب الجامعة الأزهرية، تحولوا إلى قنابل عنف، انفجرت في فرج فودة رحمة الله، كما انفجرت على هيئة سكين صدئة في رقبة نجيب محفوظ، وانفجرت في الأتوبيس الذي حمل السائحين الذين كانوا يزورون المتحف المصرى، كما انفجرت في مذبحة الأقصر التي دمرت الاقتصاد الوطنى المصرى لعامين. وها هى تنفجر، أخيرا، بطلاب الجامعة الأزهرية الذين أحالهم نظام تعليم متخلف إلى قنابل موقوتة من العنف الجاهل أو جهل العنف بلا فارق كبير. ولا مفر من تأكيد "الجهل" في هذا المقام. فالتعليم الأزهري لا يزال يكتفي بأدنى الدرجات في التعليم العام والجامعي على السواء، ولا يجد الطلاب الذين ينتسبون إلى هذا التعليم نسقاً عقلانياً مفتوحاً، يصل بينهم وبين التراث العقلاني العظيم لحضارتهم الإسلامية، فيظل أغلب هؤلاء الطلاب أسيري ثقافة نقل وتقليد تعادي العقل، ولا تشجع على الاجتهاد أو الاختلاف. والنتيجة هي شيوع الجهل الذي يتكاثف كما تتكاثف الظلمة، والتعصب الذي ينمو أسرع من ورد النيل القاتل، والاندفاع إلى العنف الذي ينتظر إشارة، فكل شيء ممكن مع غياب الوعي وغلبة الجهل. ولا أجد أبلغ دليل على ما أقول من شهادة عيان أوردتها صحيفة "أخبار الأدب" في عددها الصادر في صباح يوم الأحد الموافق الرابع عشر من آيار مايو الجاري، حيث يذكر الكاتب الروائي عزت القمحاوي في مقاله فى الصفحة الحادية عشرة أنه كان بجوار صديقه الروائي محمد البساطى في سيارة الأخير، عائدين من لقاء في أتيليه القاهرة للفنون، عندما فوجئا بإشارات تحويل المرور في الشوارع المحيطة بجامعة الأزهر في مدينة نصر، كما فوجئا بتظاهرات الطلاب تقطع شارع يوسف عباس إلى شارع الطيران، والأمن على مقربة يسيّج المكان. وكان ثلاثة من الطلاب قد تخلفوا قليلا عن زملائهم لسبب لا يليق ذكره في هذا المقام، فأنزل القمحاوي زجاج السيارة وسأل أحدهم: ما الذي يحدث؟ فأجابه قائلا: إن فاروق حسني كتب رواية ضد الإسلام. فقال له القمحاوي: يا خبر! أين نشرها؟! فجاء زميله مصححا: لا.. لم يكتب رواية، هو واقف مع رواية لكاتب سوري اسمه حيدر حيدر. وعاد القمحاوي ليسأل: قرأتموها؟ قال الطالب الأول: لا. فرد القمحاوي: ولكن كان ينبغي أن تقرأها أولا، ربما لم تكن كذلك. قال الطلاب جميعا - وكان ثالثهم قد انضم إليهم - لكن الأساتذة قالوا هذا، والدكتور أحمد عمر هاشم رئيس الجامعة رئيس لجنة الشؤون الدينية في مجلس الشعب كتب مقالا ضدها. وما يعنيني في الحكاية كلها هو دلالتها التي تتصل بما أريد تأكيده من تحوّل هؤلاء الطلاب المساكين، الأبرياء، إلى أوعية يصب فيها أساتذة التطرف ما يريدون، وإلى أبواق تنقل ما يقال لها بأصوات أعلى، وإلى ضحية نظام تعليمي يصوغ عقولهم على شاكلته، فيغدو هؤلاء الطلاب كيانا مستعدا لقبول أفكار التكفير بلا طلب للدليل أو البينة، أو حتى رغبة في قراءة الكتاب الذي قيل لهم: كفروه فكفروه، إلعنوا كاتبه وطالبوا برأسه فلعنوه وطالبوا برأسه، هددوا بالقتل وزير الثقافة وأعوانه الفجرة الكفرة فهددوا، ذلك لأنهم تعودوا اتّباع ما يقال لهم والمضي في تنفيذه، خصوصا إذا كان هذا الذي يقال يخايلهم بالمدافعة عن الدين والهجوم على الملحدين. وهل يستطيع طالب - صيغ عقله على هذا النحو - إلا الاستجابة المتحمسة، خصوصا إذا قيل له: اغضب في الله لدين الله، فالإسلام أهين، والمقدسات استباحتها رواية كتبها "فاجر بن فاجر، وفاسق بن فاسق، وكافر بن كافر"؟!. ورحم الله أزهر رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده ومصطفى عبدالرازق والشيخ شلتوت وغيرهم من مستنيري المشايخ الذين مضى زمانهم.