ضجة مقلقة تلك التي أحدثتها بعض تيارات التعصب في القاهرة حول رواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر". وهي واحدة من الأعمال الأدبية التي لفتت انتباه نقاد الرواية العربية المعاصرة لما فيها من رؤية اجتماعية جذرية ودرجة عالية من التمرد على أوضاع التردى التي حاول الكاتب تجسيدها زمن كتابة الرواية التي نشرت للمرة الأولى سنة 1983. ظلت الرواية تشد انتباه المثقفين الذين قرأوها، ابتداء من تاريخ نشرها الأول منذ سبعة عشر عاما إلى اليوم، واحتفى بها نقاد كبار على امتداد الوطن العربي، وصدرت منها أكثر من طبعة في أكثر من قطر عربى، جنبا إلى جنب الطبعات الكثيرة لروايات حيدر حيدر الأخرى ومجموعاته القصصية، وأذكر منها "الرفض" 1970 و"الزمن الموحش" 1973 و"الوعول" 1978 و"التموجات" 1980 و"مرايا النار" 1982 و"الفيضان" طبعة ثالثة1986 و"غسق الآلهة" 1994 و"شموس الفجر" 1997. وكلها أعمال صنعت لصاحبها مكانته في الرواية العربية المعاصرة، ووضعتة في طليعة كتابها، ولكن بقيت "وليمة لأعشاب البحر" عملا متفردا بين أعماله العديدة. ولذلك كان من الطبيعي أن تعيد نشرها سلسلة "آفاق الكتابة" التي يشرف عليها الكاتب المصرى المعروف إبراهيم أصلان، ضمن منشورات الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، وذلك في سياق يضع الرواية إلى جانب غيرها من الأعمال الإبداعية العربية التي تسعى هذه السلسلة إلى إعادة نشرها، وتعريف الأجيال الجديدة بها. وبالفعل، صدرت الرواية في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بعد أن صدرت، قبلها وبعدها، أعمال يوسف الصائغ وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة وعلي جعفر العلاق من العراق، ومحمد شكري ومحمد الأشعري وسالم حميش وأحمد بوزفور من المغرب، وكاتب ياسين ومالك حداد ومحمد ديب من الجزائر، ومحمود المسعدي وصلاح الدين بوجاه من تونس، والطيب صالح من السودان، وهدى بركات وحسن داود ووديع سعادة وعباس بيضون من لبنان، وسعد الله ونوس وممدوح عدوان وزكريا تامر ومحمد الماغوط من سورية، وغالب هلسا وإبراهيم نصرالله من الأردن، وعبدالرحمن منيف ونبيلة الزبير من السعودية واليمن، وغيرهم.. وغيرهم من مبدعي الأمة العربية. ونفدت الرواية من الأسواق في أيام معدودة قبل أن ينصرم العام الماضي. ولم يلتفت أحد إلى بعض الغمز الديني الذي قام به بعض صغار الصحافيين الذين وجدوا في هذا الغمز، للأسف، مصدرا للإرتزاق وجذب الانتباه. ومع ذلك لم يحدث هذا الغمز أثرا ملحوظا، وخصوصا بعد أن دافع عن الرواية كتاب بارزون منهم خيري شلبي وإبراهيم عبدالمجيد، وكلاهما كاتب رواية خبير بتقنياتها الفنية. ولكن، فجأة، بعد أن نسي الجميع أمر الرواية، هبت عاصفة بالغة العنف من إحدى جرائد المعارضة التي ترفع رايات الدين لمصلحتها السياسية، وأخذت هذه العاصفة شكل حملة تكفير لم تشهدها الصحافة المصرية من قبل، حملة استخدمت فيها أفظع جمل التكفير الظالم، وأقسى عبارات الحض على القتل، وأقصى ما يمكن تخيله من عبارات السباب والقذف والتجريح التي يعاقب عليها القانون، وذلك في لغة تنال من كل الأطراف، ابتداء من الرواية التي وسمت بالكفر والإلحاد وإهانة الأديان، هي وكاتبها الذي انهالت عليه أقذع ألوان السباب، مرورا بالسلسلة التي نشرت الرواية مع المشرف عليها الروائي إبراهيم أصلان، والمشرف على هيئة قصور الثقافة الناقد السينمائى علي أبو شادي، وانتهاء بوزير الثقافة الذي جعل الوزارة وكر "العهر والكفر والتطبيع". ودعا كاتب المقال الاستهلالي في هذه الحملة - العاصفة القراء إلى مبايعته على الموت، انتقاما من الكاتب ومحرر السلسلة والمشرف على قصور الثقافة والوزير في وقت واحد. وعرفت الصحافة المصرية، للمرة الأولى في تاريخها المعاصر، سبابا من قبيل: "الفاجر بن الفاجر، الفاسق بن الفاسق، الكافر بن الكافر، مؤلفا وطابعا وناشرا" ومثل ذلك كثير، كما عرفت أوصافا من قبيل: "كتاب فاسق داعر وكافر نشرته هيئة لابد أن تكون فاسقة داعرة كافرة، تحت رئاسة مسؤول لا بد أن يكون داعرا فاسقا كافرا". واتسع نطاق الحملة لتشمل خطباء لعنوا الرواية وكاتبها والمسؤولين عن نشرها من دون أن يقرأوا الرواية للأسف. وكان ذلك في موازاة دخول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى المعركة، وإصدار بيان حاد اللهجة يتهم الرواية بالإساءة إلى الخالق - جلَّ وعلا - من دون مراجعة الرواية نفسها. ودعا البيان النائب العام إلى التدخل الفوري. وتقدمت مجموعة من المنتسبين إلى جماعات التطرف ببلاغات إلى النائب العام نفسه بهدف إقامة دعاوى حسبة على كاتب الرواية والمسؤولين عن نشرها. وواصلت صحيفة "الشعب" تصعيد حملتها بالدعوة إلى عقد لقاء حزبي، حضره بضع مئات من أتباع الحزب الذين طلب منهم إعلان غضبهم، والإسهام في تكفير رواية لم يقرأوها، والحض على قتل كاتب لم يعرفوه. وتواصلت عاصفة التكفير التي لا تزال تؤججها الصحيفة نفسها، تلك التي لم تتردد في النيل من كل من حاول - أو يحاول - الدفاع عن الرواية ودفع التهم الباطلة عنها، ووصف هؤلاء المدافعين بأنهم من ذوي الأفواه "النجسة"!؟. وتصاعدت حملات التكفير لتشمل التوجيهات الحزبية لقواعد الإخوان المسلمين في صفوف الطلاب في جامعة الأزهر التي لم ينشغل طلابها بالامتحانات بعد، وتوزيع صور المقالات التحريضية على الطلاب والطالبات لإثارة حماستهم الدينية بعبارتها التخييلية التكفيرية التي لا تخفي مغالطاتها على أي قارئ عاقل للرواية. ونجحت التوجيهات في إثارة مجموعة من الطلاب والطالبات في جامعة الأزهر، سرعان ما أثاروا غيرهم، فخرجوا في مظاهرات اصطدمت بأجهزة الأمن إلى الحد الذي تساقط معه جرحى ومصابون كثيرون من الطرفين، ولم يفت المتطرفين من الطلاب تهديد وزير الثقافة بالقتل إذا لم يستقل أو يُقَلْ على الفور. وانتهى يوم الاثنين وقوات الأمن تحاصر المدينة الجامعية للأزهر وكلياته المختلفة تحسبا لأيّ طارئ، وحل هدوء نسبي أتاح القيام بمحاولات متعددة لتهدئة الطلاب والطالبات، خصوصا بعد أن قبض على المحرضين، وبعد أن اتصل رئيس الجامعة برئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب وتشاور معهما في مواجهة الأزمة، كما تشاور مع غيرهما من المسؤولين. ومضى الليل المشحون بالتوتر، وأصبحت مدينة القاهرة وهي تتوجس قلقا من تكرار المظاهرات. وأضاف إلى هذا القلق صدور عدد جديد من أعداد جريدة "الشعب" يحمل المزيد من التحريض، والكثير من الإثارة الدينية، استعدادا لتصعيد آخر تتعدد أشكاله: حملة توقيعات تتجه إلى رئيس الجمهورية، تحريك مظاهرات أخرى، توجيه الأتباع والأنصار من الخطباء. ولم يحدث في تاريخ مصر الحديث، منذ أن حدثت أزمة كتاب "الشعر الجاهلى" لطه حسين سنة 1926، أن تصاعدت حملة تكفير كتاب وكاتب إلى هذا الحد. حتى حملة تكفير نصر أبو زيد لم تأخذ هذا البعد، وظلت في دائرة المحاكم، إلى أن انتهت بالحكم الظالم الذي سعى إلى التفريق بين هذا المفكر المتميز وزوجه، ولم تخرج قضية نصر إلى أبعد من ذلك، فلم تصحبها مظاهرات طلابية في جامعة دينية، أو حملة عاصفة تهدف إلى إقالة وزارة وتهديد حكومة بأكملها. ولم تشهد قضية نصر كذلك هذا الإلحاح الذي لا نزال نشهده من التحريض المباشر على قتل الكثيرين. وذلك كله في موازاة استعراض قوة بالغ الدلالة في تحديه سلطة الدولة المدنية ومحاولة النيل من هيبتها. والمفارقة الدالة في الموقف كله أن الكتاب الذي استخدمه صانعو العاصفة لإثارة الفتنة ليس كتابا مصريا لكاتب مصري كما هو المعتاد في حملات التكفير المصرية، ولم يصدر قبل أسبوع أو أسابيع قليلة فيستفز الذين يقرأونه للمرة الأولى، وإنما هو رواية لكاتب سوري معروف في كل الأوساط الأدبية العربية، ولم تعترض دولة عربية، فيما أعلم، على روايته التي صدرت قبل سبعة عشر عاما، ونفدت طبعتها التي أصدرتها الثقافة الجماهيرية في مصر قبل ستة أشهر أو يزيد. هذه المفارقة تثير انتباه العقل الذي لا ينساق إلى منطق الاتّباع، ويبحث وراء الظواهر عن أسبابها الحقيقية غير المعلنة، فمن غير المنطقي أن يسكت، طويلا، هؤلاء الذين يحاولون إيهام غيرهم أنهم وحدهم المدافعون عن الإسلام الذي يأمر بما لا يعرفونه من المجادلة بالتي هي أحسن. وليس من المعقول أن يترك هؤلاء فرصة إعادة نشر هذه الرواية - ذريعة الفتنة - منذ حوالى ستة أشهر، ولا يتحركون إلا بعد أن تختفي تماما من الأسواق وتمضي أشهر عدة على نفادها. ولا يتفق مع الفطنة أن يشعل هؤلاء عاصفة قد لا تبقى ولا تذر في مصر بسبب رواية صدرت قبل أكثر من سبعة عشر عاما، ولم تعترض عليها دولة عربية نشرت فيها، أو يشجبها ناقد، بل على العكس استحسنها نقاد مرموقون على رأسهم: علي الراعى ومحمود العالم وفاروق عبدالقادر ومحمد برادة وغيرهم. وليس من حسن التأتي أن يستهل عاصفة تكفير الرواية طبيب تحاليل لم ينجح أدبيا، سبق له نشر رواية بعنوان "القصر العيني" يمكن أن يجتزئ المجتزئون منها جملا ليست أقل إثارة من الجمل التي ابتسرها من رواية "وليمة لأعشاب البحر" ابتسارا، من دون مراعاة لسياق أو وجهة نظر كلية أو حتى أمانة في تقديم كل وجهات النظر التي تحتويها الرواية، وذلك بهدف قراءتها على طريقة "لا تقربوا الصلاة" من دون إكمال الآية الكريمة. إن ظواهر الأمور في حالة تكفير "وليمة لأعشاب البحر" تنبئ عن بواطن مسكوت عنها من الدوافع التي حرّكت هذه العاصفة التكفيرية التي هبّت عليها، والتي دفعت صناعها إلى المسارعة بها، والاندفاع فيها أياً كان الثمن. وما يعنينى، في هذا المقال، وما أريد توضيحه وتأكيده، هو ما تنطوي عليه هذه العاصفة التكفيرية من علامات، تكشف عن دوافعها الحقيقىة من ناحية، وعن سياقاتها التحتية من ناحية ثانية. دافع سياسي ويبرز من هذا المنظور أمران لهما دلالاتهما التي لا ينبغى إغفالها بحال. الأمر الأول هو أن الدافع الحقيقي لهذه العاصفة التكفيرية دافع سياسي بالدرجة الأولى وليس دافعا دينيا، كما أراد صانعو العاصفة إيهام الجمهور الذين سعوا إلى استفزازه دينيا، كما سعوا إلى تضليل بعض الأتقياء الذين انتزعوا لهم بعض الجمل الموهمة من سياقات الرواية، تماما كما سعوا إلى تحريك الطلاب والطالبات من المنتسبين إلى حزبهم لتحريك زملائهم وزميلاتهم، سعيا إلى الإثارة والتدمير، واستغلالا للمشاعر الدينية في تحقيق غرض سياسي حزبي غير نبيل، لا علاقة حقيقية له بالدين الذي لا يعرف سوى حسن الظن بكتابة المسلمين. وليس من قبيل المصادفة أن هذه العاصفة بدأتها صحيفة "الشعب" بعد أيام من صدور حكم بالسجن على رئيس تحريرها واثنين من محرريها، بعد أن ثبت للقضاء المصري المشهور باستقلاله إدانتهم في ما يدخل تحت باب جرائم النشر التي تتضمن السب والقذع اللذين يعاقب عليهما القانون. وكان رئيس التحرير نقل نشاط هجومه التكفيري إلى بعض ما ترجمه المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة المؤتمر الذي عقده في ذكرى مرور مائة عام على صدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة". وهو الكتاب الذي يثير القضية التي لا تزال تزعج المجموعات الأصولية المعروفة بتعصبها وتأويلاتها المعادية للمرأة. وما كاد رئيس التحرير يقوم بتنفيذ الحكم، ويترك موقعه موقتا في الجريدة الداعية إلى دولة دينية، حتى بدأت هذه الجريدة في استئناف هجومها على الطلائع الثقافية للدولة المدنية، وتصعيد المعركة وتوسيع نطاقها إلى أبعد حد. وليس أكثر إثارة من الأعمال الإبداعية في تحقيق هذه الغاية، فهي حمالة أوجه بطبيعتها، وقابلة لأكثر من تأويل في حال ثرائها الأدبي ويمكن التربص ببعض عباراتها أو جملها، واقتطاعها من السياق للتخييل بتهم الكفر والإلحاد، ومن ثم إثارة مشاعر المواطنين الأتقياء، وتحريضهم ضد الدولة المدنية التي يراد القضاء على طليعتها الثقافية، تمهيدا للقضاء على الدولة المدنية نفسها. وتتمثل الفائدة المباشرة الأولى من إثارة عاصفة تكفيرية، حول عمل أو أعمال إبداعية، داخل هذا الإطار، في إشباع رغبة الانتقام المباشر السريع من الحكومة المدنية، والتنفيث عن الغضب المكتوم الذي غذى ردود الأفعال العصابية والعبارات العدائية والتحريضات الجنونية التي تجسّدت في الخطاب التكفيري لهذه العاصفة. وأقل أوجه هذه الفائدة الإطاحة بالمؤسسات الثقافية للدولة المدنية، وإحداث وقيعة بين الدولة ومؤسساتها الثقافية من ناحية، وبين جمهور الأمة وطلائع مثقفيه المستنيرين من ناحية ثانية. ولا معنى لتبرير خطاب العنف المجنون الذي لجأ إليه صناع هذه العاصفة إلا بإرجاعه إلى دافعه العصابي الانتقامي الذي يرى جنون الهجوم على الخصوم عين العقل في إثبات صحة الدعوى السياسية الحزبية التي تتمسح في الدين. ويكتمل الهدف من هذه الفائدة المباشرة بإضافة أمر آخر، وهو اقتراب موعد انتخابات مجلس الشعب المصري الجديد، وخصوصا بعد أن أوشكت دورة المجلس الحالي على الانتهاء. وبدأ الاستعداد للانتخابات المقبلة، كما بدأ كل فصيل سياسي في مصر "التسخين" استعدادا للمعركة الانتخابية التي أصبحت على الأبواب. وخير وسيلة لفتح الأبواب السياسية المغلقة هي إثارة المشاعر الدينية عند شعب يغلب عليه الإيمان، ولا يقبل إهانة الأديان أو ازدراءها، ويتعاطف على الفور مع كل من يدافع عنها، ويتصدى للخارجين عليها. وتلك فرصة ذهبية، تعرفها الفصائل السياسية المتاجرة بالدين، كما تعرفها مجموعات الضغط التي تتخذ من تأويلاتها الدينية أقنعة تخفي بها حقيقة أغراضها السياسية المباشرة وغير المباشرة، فتسعى إلى كسب تعاطف المواطنين بحجة الدفاع عن دين الأغلبية. وعندما تضع هذه الطوائف نفسها موضع حامي حمى الأديان، حسب تفسيراتها المغرضة، وتضع المؤسسات الثقافية للدولة المدنية موضع المهاجم للأديان والعميل لأعدائها، حسب تأويلاتها التخييلية، فإن هذه الطوائف تأمل اكتساب استحسان الناخبين وتأييدهم، كما تأمل في تقويض قواعد الدولة المدنية ممثلة في مؤسساتها الثقافية التي تعمل على إشاعة الاستنارة، وخلخلة المجتمع المدني ممثلا في طلائع مثقفيه من المبدعين والمفكرين. هكذا، غدت الأعمال الإبداعية والفكرية التي نشرتها المؤسسات الثقافية في مصر، ولا تزال، نقطة انطلاق للحركة الحزبية السياسية التي تستعد فصائلها لدخول الانتخابات المقبلة تحت شعارات الدين الذي يبرأ من التعصب والتطرف. وأتصور أن إثارة العاصفة التكفيرية حول رواية "وليمة لأعشاب البحر" - في هذا الظرف - هي بعض عملية "التسخين" الانتخابي التي لن تقتصر على هذه الرواية، والتي لابد أن تمتد إلى غيرها من الأعمال الإبداعية والفكرية، تلك الأعمال التي ليست مقصودة في ذاتها، وإنما من حيث هي وسيلة لتحقيق ما يجاوز الدين والإبداع والفكر إلى مصالح السياسة التي هي الهدف الأول من هذه العاصفة التكفيرية وغيرها. ولا غرابة، إزاء هذه الانتهازية السياسية، في أن تدعو صحيفة "الشعب" المثقفين إلى مؤازرتها في مطالبة الدولة بالإفراج عن مسجونيها الثلاثة، دفاعا عن حرية الرأى، هذا في الوقت الذي تطالب فيه الصحيفة نفسها بإهدار دماء مسلمين أبرياء، لا رقيب على إيمانهم سوى خالقهم، ولا جريمة لهم سوى أنهم كتبوا أو نشروا أو ساعدوا على نشر أو أشرفوا على نشر رواية وصفها واحد أو حتى آحاد قلائل بالكفر، بعد أن انتزع منها بعض الجمل التي تواجهها في الرواية جمل أخرى تضبط المعنى الكلي للنص الروائي، علما بأنه في مقابل هذا الواحد أو حتى الآحاد القلائل هناك كثيرون من المتخصصين الذين ينفون الكفر عن هذه الرواية، ويرون فيها عملا لا يتعارض في كليته ومجمل علاقاته مع قيم الإسلام الجليلة. ولا عجب، في الوقت نفسه، أخيرا، أن تعلن الصحيفة نفسها أنها حامية الإسلام، دون غيرها، وأنها تنذر نفسها للهجوم على من تراهم هي أعداء للإسلام، كي تصدر عليهم ما يشاء لها هواها السياسي من أحكام بالإعدام، أو أحكام بالإقالة من المناصب الرسمية والحياة الدنيوية على السواء، علما بأن الإسلام الذي تدّعيه هذه الصحيفة ترك الناس أحراراً في اختيار معتقداتهم، ودعاهم إلى الاختلاف في اجتهاداتهم، ونصحهم بالمجادلة بالتي هي أحسن، كما أمرهم بأن يتبينوا إذا جاءهم فاسق بنبأ كي لا يصيبوا قوما بجهالة. ولولا ذلك ما اعتمد فقهاء الإسلام المبدأ السمح الذي يستبدل حسن الظن بسوء الظن في كتابات المسلمين وأقوالهم، أعني المبدأ الذي يؤكد أنه: "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر".