المتتبع للصراع العربي الإسرائيلي لا بد من ان تلفت انتباهه سياسة كسب الوقت التي تعتمدها إسرائيل في كسب المعارك، وتعد ذلك تكتيكاً مدروساً كونه كفل النجاح تلو الآخر للدولة العبرية. ولن نعود إلى بدايات الصراع مع إسرائيل وكيف كان أسلوب كسب الوقت، وما برح، أسلوباً تأسست عليه استراتيجيات المواجهة مع العرب. فالصهاينة عقب حرب النكسة شردوا أهل الأرض وقتلوا من قتلوا ثم أطبقوا عليها حتى آخر عقد السبعينات، أي بعد مضي نحو عشر سنوات على انتهاء الحرب، وهو وقت ليس بالقصير حدثت خلاله متغيرات، دفعت بالسادات إلى أن يشرع أبواب سلام مع الإسرائيليين "مشروط" باسترداد سيناء. ولو أن اليهود أرادوا ذلك السلام بعد الحرب مباشرة لما تحقق. فالعرب حينذاك ما كانوا مهيأين "نفسياً" للتفاوض فضلاً عن "تطبيع" ونحوه. إذاً فمسألة "عشر" سنوات وما واكبها من تقلبات في الأحداث، مكنت إسرائيل من تحقيق سلام مع أكبر دولة مواجهة ذات ثقل نوعي في الصف العربي في مقابل أرض كانوا احتلوها بالقوة والعدوان. فالصفقة لهم إذاً رابحة، وكانت أول خطوة في الطريق نحو مدريد. والمتتبع أيضاً يدرك كيف كان رد الفعل العربي من سلام السادات المنفرد مع إسرائيل... فكان مؤتمر بغداد، ونقل الجامعة العربية إلى تونس ومقاطعة مصر وما إلى ذلك من قرارات، أبدى العرب فيها إجماعاً غير مسبوق وسرعة اتخاذ قرار غير مألوفة البتة في كل ما من شأنه عزل مصر. ولكن بعد رد الفعل العربي ذلك بنحو عشر سنوات أو ما يزيد قليلاً، انقلب الأمر رأساً على عقب، اذ كان أولئك العرب في مدريد في لقاء "وجهاً لوجه" مع الإسرائيليين، وليس المجال هنا لمناقشة ذلك وتداعياته. ولكن كيف كسب الإسرائيليون الرهان على العرب كما كان على مصر السادات، أليس تكتيك "كسب الوقت" ذاك كان خلف "كسب الرهان"؟ وهكذا فالإسرائيليون انتظروا ظروفاً مساعدة فكانت حرب الخليج الأولى وأعقبتها الثانية التي سرعان ما دفعت بالعرب نحو مدريد بلا تردد، فكان أن بدأت هرولة غير متزنة، وإن بتعثر في أحايين، ما حدا بالإسرائيليين إلى ان يعودوا إلى "كسب الوقت" مرة أخرى، فهي الناحية الناجحة دوماً مع العرب، من خلال ما سَمّوه مع الأميركان ب"مسارات التفاوض". والمسار في اللغة قسم من الطريق، ومن مترادفاته المسرب أو الحارة، وما دام التحدث عن طريق، فالأمر مرتبط اذاً بمسافة، والمسافة لا تُقطع إلا خلال زمن، ومن علم الطبيعة نعبر عن علاقة المسافة بالزمن، بالسرعة التي قد تتفاوت بين مخفوضة وعالية. وهكذا فالحصيلة في كل الأحوال أننا نتحدث عن "وقت". ومن زاوية أخرى، فأي طريق يتسم بالطول لا بد من أن تكون عليه محطات للراحة والاسترخاء، ما يقتضي الانتظار، ويعيدنا بدوره إلى مسألة "وقت" مرة أخرى. ذاك هو السلام. فقد تحول مساراتٍ، فلسطينياً وسورياً ولبنانياً والبقية تأتي. ولإسرائيل الحق من دون غيرها في ان تنقل من مسار إلى مسار، بحسب مقتضيات السرعة التي ترغب فيها وعبر مسارب تختارها. فحين تضيق ذرعاً بالفلسطينيين تحول بوصلة الاتجاه إلى المسار السوري، والعكس صحيح، فبتنا نسمع بين الفينة والأخرى "تحريك المسار" الفلاني، وحصيلة ذلك كسب الوقت ليس إلا. فالوقت كفيل أن "يليّن" العقول القاسية ويقلب المفاهيم ويوهن العزيمة، وبدوره يلطف حدة الحوار ومزاج الشعوب أيضاً فتبدأ التنازلات. والدليل أن "اللهجة" العربية على مستوى الإعلام العربي أو حتى الشعوب نفسها، بدت متغيرة عنها قبل عشر سنوات. فالعدو الصهيوني أضحى "دولة" إسرائيل، ورئيس العدو بات السيد. ورفع الحرج في ذكر مصطلح التطبيع، بل ان ثمة دولاً عربية سعت إلى عقد صفقات اقتصادية من خلف الكواليس مع إسرائيل تحسباً لتطبيع مستقبلي كامل. وباتت "سياحة الإسرائيليين" إلى بلاد العرب عرفاً في قاموس "السياحة" العربية، وإن أطلت باستحياء وإخفاء إعلامي، لكنها البدايات يغلفها الحياء، ومع مرور "الوقت" تصبح أموراً مسلماً بها لا تستفز مشاعر أحد. وما دام عامل الوقت حقق للإسرائيليين مكاسب مع العرب، ها هم يماطلون لتعطيل المفاوضات ويقحمون قضية "المياه"، لأنهم يدركون أن عامل الوقت سيكسبهم "المياه"، لذا فلا غرابة أن يعمدوا إلى عرقلة سير المفاوضات في كل مسار متى سنحت الفرصة، فسياسة "كسب الوقت" أثبتت جدواها. لذلك منذ مؤتمر مدريد، ونحن نسمع عن "ضروب" من المفاوضات في كل مسار يطلق عليها محطات. فمفاوضات واي ريفر ومفاوضات جنيف والعجلة تدور وبالتأكيد فالوقت معها يمضي لتصاب الشعوب العربية بإحباط أكبر وبخيبة أمل لا تنتهي، فتقبل في نهاية المطاف بأي سلام تريده إسرائيل. حتى أن سياسة "كسب الوقت" بدت تأتي من داخل إسرائيل من خلال الانتخابات، فالعرب انتظروا طويلاً حتى ذهب نتانياهو، في حين كان الإسرائيليون يكسبون الوقت، وجاء باراك ولا بد من منحه بعض وقت وهلم جراً. وعلى المنوال نفسه، العرب الآن في حال انتظار حتى تنتهي انتخابات الرئيس الأميركي المقبل عل في مقدوره أن يأتي بما "لم تستطعه الأوائل"، فيبدأ هو مسلسل المفاوضات من جديد و"تحريك" المسارات وساعة الوقت تدور. والخوف أن تستمر إسرائيل في سلاح "الوقت" بعدما هزمت العرب عسكرياً حتى يفنى الجيل العربي الذي عرف "القضية" وعانى مرارتها، فيأتي جيل عربي جديد يكون نسي ذلك، فتغدو إسرائىل ضمن منظومة "الجامعة العربية"؟! * كاتب سعودي