عندما وصل بنيامين نتانياهو الى الحكم في اسرائيل على رأس حكومة ليكودية متطرفة طلبت عدة أطراف من العرب ان يتريثوا في اعلان موقفهم وان يعطوه فرصة حتى يثبت مواقعه ويرتب أمور بيته. فمنهم من ظن ان اثبات حسن النوايا سيدفع هذا الليكودي الى الخجل والتجاوب مع الكرم العربي المعهود... ان لم أقل السذاجة التقليدية!! ومنهم من قطع شوطاً بعيداً في عملية التنظير ليؤكد ان "الترياق" لا يأتي إلا من زعيم اسرائيلي قوي، ومن صفوف اليمين المتطرف بالذات، لأنه أكثر مقدرة على اتخاذ القرار وصد الهجمات واقناع الرأي العام ومجابهة الأطراف الأكثر تطرفاً وتعصباً. وضرب هؤلاء المنظرون مثلاً على ذلك تجربة مناحيم بيغن، الإرهابي الليكودي المتحجر مع اتفاقات كامب ديفيد مع مصر، وتجربة شريكه في الارهاب والتعصب الصهيوني اسحق شامير الذي قبل صاغراً مبادرة السلام الاميركية وحضر على مضض افتتاح مؤتمر السلام في مدريد بمشاركة نتانياهو بنفسه الذي كان المتحدث الرسمي باسم الوفد الاسرائيلي! كما يشير هؤلاء الى ان معظم الحروب شنتها حكومات عمالية، وأكثر المخططات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية وضعتها هذه الحكومات، مضيفين ان اسحق رابين كان صقراً محسوباً على اليمين اكثر من اليسار يستمد قوته من سمعته كجنرال سابق وشعبيته الواسعة، لذلك تجرأ ووقع على اتفاقات اوسلو مع الفلسطينيين ثم اتفاقية السلام مع الأردن وكاد يتوصل الى اتفاق مع سورية في شأن الجولان. ولكن اغتياله دفن آمال السلام لأن خليفته شمعون بيريز لا يملك لا القدرة ولا الشعبية ولا القوة اللازمة ولا الخلفية العسكرية لفرض قرار، ولهذا فإنه لم يكن بمقدوره المضي في عملية السلام حتى ولو فاز في الانتخابات العامة السابقة. ومع الأيام سقطت كل هذه النظريات والتحليلات، وصبر العرب امتد الى سنتين بدلاً من شهرين، كما كان مطلوباً في البداية، ومبادرات حسن النوايا لم تترك باباً الا وطرقته فلم تقابل إلا بالصد والتجريح والممارسات والاجراءات التي تصب كلها في خانة الإمعان في الإذلال والإحراج والتسويف وفرض الأمر الواقع شاء العرب أم أبوا. و"لعبة الانتظار" قديمة ومكشوفة مورست مع العرب منذ بداية نكبة فلسطين قبل 50 عاماً وحتى يومنا هذا، من انتخابات الى انتخابات ومن رئيس الى رئيس، ومن مبادرة الى مبادرة ومن الاممالمتحدة الى أوروبا وصولاً الى يد الراعي الأوحد، الولاياتالمتحدة، التي عرّاها نتانياهو أخيراً حتى من ورقة التوت، وكشف عورتها المتمثلة في العجز عن اتخاذ قرار حاسم تجاه اسرائيل من جهة وعن السيطرة الصهيونية على مقاليدها من جهة ثانية، ولا عزاء للرئيس كلينتون ولا لمن سبقه من الرؤساء ولا من سيلحقه. حتى بعد مدريد 1991، استمرت اللعبة بشكل ممجوج ومفضوح، فعندما سقط شامير في الانتخابات العامة طلب من العرب الانتظار لأن اسحق غير اسحق وان العمل غير الليكود، وعندما اغتيل رابين صدرت دعوات مماثلة، ثم تبين ان الأمر كله مجرد مماطلة ومناورة وكسب معركة الوقت كما كشف شامير نفسه عندما قال انه كان ينوي يوم ذهب الى مدريد إطالة عمر المفاوضات لأكثر من عشر سنوات حتى تتاح له فرصة اكمال خطط التهويد في القدس وغيرها واستيعاب ألوف المستعمرين في مستعمرات استيطانية تقام في الأراضي العربية المحتلة. ونفذ رابين الخطة نفسها، ثم استغل بيريز الفترة الانتقالية لينفض يديه من الالتزامات ويجمد مسيرة السلام بدعوته لانتخابات مبكرة. ويختلف نتانياهو عن الآخرين انه واضح وصريح ويملك "أجندة" معلنة واستراتيجية محددة نشر تفاصيلها في كتابه ثم أعلنها في بياناته الانتخابية وساء عليها في الفترة المنقضية من حكمه من دون لف ولا دوران ولا مداورة، فقد جاء على رأس فريق صهيوني متكامل ومنسجم عكس التوقعات لتنفيذ خطة اعادة عربة حلم اسرائيل الكبرى الى "السكة" بعد ان قيل انه دفن يوم قبول اسرائيل بمبادرة الرئيس بوش والمشاركة في مؤتمر مدريد للسلام. ولهذا فإنني اختلف مع من يعتبر مواقف نتانياهو مناورة أو يستغرب أو يفاجأ بقراراته وتعنته، فهو جاء ليدفن اتفاقات السلام وينقذ ما يمكن انقاذه من حدود "اسرائيل الكبرى"، ويبني المستوطنات ويضم القدس نهائياً ويشق الصف العربي ويدعم قدرات الجيش الاسرائيلي ويشل الادارة الاميركية ويمنع أي تدخل أوروبي أو دولي في مسيرة السلام ويتنصل من التزامات اسرائيل واستحقاقات اتفاقات السلام وبالتالي فرض امر واقع جديد يقوم على شطب مبدأ الأرض مقابل السلام وفرض مبدأ الأمن مقابل السلام، أو تقزيم العملية كلها لتصبح السلام مقابل السلام... أو مقابل لا شيء!! فقط رضا اسرائيل وسكوتها عنا. وهذا أمر قد يسكت عليه العرب فترة ولكنهم لا يمكن ان يسكتوا عليه الى الأبد، لأن عملية تقزيم مفهوم السلام وصلت الى حد الاستخفاف بكل القيم والسخرية من الشرعية الدولية والدخول في بازار تنازلي مهين تصبح فيه كل العروض السابقة من مبادرات وقرارات دولية واتفاقات كامب ديفيد واوسلو وغيرها حلماً من الاحلام، كما يجعلنا "نترحم" حتى على مشروع ألون الذي طرح منذ أكثر من عشرين عاماً! ولو سألنا عن أسباب هذه التدهور الرهيب لاحتجنا الى مجلدات، فالقائمة طويلة ولكن حكمة "يا فرعون من فرعنك... قال لم أجد أحداً يردني" تلخص الموقف كله! ومن هذه الأسباب على سبيل المثال: ضعف العرب وتمزقهم وتفرقهم وقبولهم التفرد باتفاقات وتطبيع وما شابه بدلاً من الاستمرار في تعزيز الصف الواحد سواء ضمن دول الطوق أو على المستوى العربي الأشمل! إضافة الى الشرخ الذي أحدثه الغزو العراقي للكويت عام 1990 وما نجم عنه. سيطرة اللوبي الصهيوني بالكامل على مراكز القرار في واشنطن، من الكونغرس حتى البيت الأبيض وتقييد يدي الرئيس الاميركي والادارة الاميركية بالفضائح والضغوط وغيرها. شل قدرة روسيا وأوروبا والدول العظمى وعزلها عن أي قرار دولي ولا سيما في مسيرة السلام في الشرق الأوسط بزعم عدم ازعاج الراعي الاميركي أو التحذير من مغبة كسر احتكاره بعد حصوله على "تلزيمات" المنطقة كلها؟ تحويل الأممالمتحدة الى مؤسسة لا قيمة لها وتفريغ الشرعية الدولية من أي معنى ونزع اسنان وأظافر قراراتها الشرعية الدولية ثم استغلالها حسب الظروف والمصالح والحاجات وفق سياسة ازدواجية المعايير. والآن ماذا يمكن ان يفعل العرب إزاء هذا الواقع المر وهل من أمل في تحريك المسارات وصولاً الى سلام عادل وشامل ودائم ينطلق من مرجعية مدريد والمبادئ الاساسية للمبادرة الاميركية التي وافق عليها الجميع؟ في ظل غياب عامل استخدام القوة والمحاذير الكثيرة من جهة، وتعثر مسيرة السلام ووصولها الى طريق مسدود من جهة ثانية يبدو الأمل ضئيلاً، ولكن هناك أمل واحد قد يظهر النور في نهاية النفق المظلم وهو اعادة ترتيب البيت العربي وتجميع أوراق القوة العربية وتوحيد الصف لمواجهة الجميع بموقف موحد. فالسلطة الوطنية الفلسطينية باتت مقتنعة باستحالة المضي في تقديم التنازلات وتأكدت من خطأ التفرد والأخطار التي تسببت بها خطة جرها لعقد اتفاقات اوسلو بعيداً عن الموقف العربي الموحد. فبعد ان كانت قضية فلسطين، قضية عربية اسلامية تهم الجميع قزمت لتصبح قضية ضيقة تتعلق بنسب وانسحابات مشروطة وشروط ما أنزل الله بها من سلطان قد تؤدي الى اضاعة الحق والأرض في آن واحد لو تمت الاستجابة لها. والأردن الذي وَعِدَ بأنهار اللبن والعسل وسيل الاموال والمساعدات ومرحلة الرخاء فوجئ ان معاهدة السلام لم تقدم له سوى الاخطار الداخلية والخارجية، من دون ان تنفذ اسرائيل تعهداتها او تتدفق الاموال الموعودة. ولهذا تتجدد المطالبة بالعودة الى الاصول والجذور والثوابت. لأن الأردن في الاساس لم يقم بالمال أو بالثروات، ولم يثبت دعائمه الا لتبنيه رسالة قومية عربية محددة تحمل راية الاسلام والعروبة ولا بد من تصحيح المسار لاستيعاب المسألة التاريخية في جذورها وفي العودة لرص الصف العربي والتنبيه للخطر الصهيوني والدعوة لدرئه قبل فوات الأوان. فالمسألة ليست خلافات في الاجتهاد ولا في وجهات النظر بالنسبة للسلام بل في قضية استيعاب الخطر الصهيوني لا سيما في الحقبة الليكودية الراهنة، ووقف التطبيع مع العدو وسحب أية ورقة من يده تشجعه على التعنت وشق الصف العربي. وربما يمكن القول ان اكبر متضرر في العملية هو الأردن حيث يستهدف الصهاينة كيانه ويتحدثون عنه جهاراً كوطن بديل للفلسطينيين رغم توقيعه معاهدة السلام ومشاركته في المناورات الاسرائيلية - التركية. وما العمليات الارهابية التي يتعرض لها الأردن، والمؤامرات والتصريحات التي تهدد وحدته الوطنية سوى بدايات للمؤامرات الصهيونية الكبرى مما تستدعي وقفة حازمة ضد التعنت الصهيوني، وكشف أبعاد المؤامرة ومنع نتانياهو من التمادي في تعنته، والعودة الى التنسيق العربي. ولا شك ان الجو السائد الآن يسير في الاتجاه الصحيح بعد انطلاق المبادرة السعودية لتوحيد الصف العربي وإزالة الخلافات العالقة ورفع الصوت عالياً وموحداً ضد الظلم والتعنت الصهيوني. فقد جاءت جولة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس الحرس الوطني السعودي في وقت تقف الأمة العربية على مفترق طرق، وهي في أمس الحاجة الى بارقة أمل تعيد لها تلاحمها ووحدتها لمواجهة هذه المرحلة الحرجة تمهيداً لعقد قمة عربية، لا فرق ان كانت مصغرة أو شاملة، فالمهم هو الإعداد الجيد والنتائج المرجوة منها خاصة وان الأمير عبدالله حدد الأسس والثوابت بكل وضوح وصراحة وهي: "رفض أي حل يتجاهل الحقوق العربية الكاملة والمشروعة ولو رضي عنه العالم أجمع". وهذا تحذير أولي رافقه تحذير آخر لاسرائيل من "الإفراط في الثقة الى حد التهور والاعتبار من التاريخ وان الحق لن يضيع مهما طال الزمن". وتحذير ثالث من "ان الاخفاق سيولد التطرف في المنطقة" مع مطالبة الولاياتالمتحدة ودول العالم بدعم الحلول الشرعية العادلة. هذه المواقف الواضحة للأمير عبدالله تصلح لأن تكون الأساس للموقف العربي الموحد في الوقت الذي يزداد فيه الحديث عن القمم حتى تنجح في رأب الصدع وتوحيد الصف وو ضع صيغة موحدة للأهداف والأساليب والممارسات من حيث الاستراتيجية والتكتيك مع خلق تيار شعبي مناهض للتطبيع ومطالبة واشنطن وأوروبا والدول الكبرى باتخاذ موقف حازم وحاسم يضع حداً لهذا التعنت الصهيوني. ولكن، هذه المواقف تستدعي أيضاً خطوات حاسمة ومبادرات تحرج اسرائيل وترمي الكرة الى ملعب الولاياتالمتحدة والقوى الفاعلة. ففي غياب عامل القوة يمكن القيام بمثل هذه الخطوات والمبادرات بعد توحيد الموقف العربي بإعلان مبادرة عربية صاعقة على الملأ تنص على الاستعداد الفوري والتام لتوقيع معاهدات سلام شاملة وكل ما تتطلبه التزامات السلام من شروط وتبعات اضافة الى اقتراح اتفاقية أمنية اقليمية شاملة تضمن أمن جميع دول المنطقة وتنبذ العنف وتحارب الارهاب، واتفاقية اخرى للتعاون الاقتصادي بعد اتمام مسيرة السلام الشامل والدائم، مع عدم التخلي عن الثوابت العربية ومبادئ الأرض مقابل السلام وقرارات الشرعية الدولية ومن دون اي تفريق بالحقوق أو الأراضي على ان لا يتم أي تقدم في هذه المجالات قبل حل جميع قضايا السلام الشامل. وهذه المبادرة يمكن ان تتبناها الدول العربية جمعاء كموقف عربي موحد، أو ان تعلن من خلال قمة اعلان دمشق أو القمة العربية الشاملة او المصغرة ويقوم وفد من الملوك والرؤساء العرب بإبلاغها للولايات المتحدة والدول الأخرى كمبادرة عربية تقلب المائدة في وجه الجميع وتحرج نتانياهو. وهي في الأساس موجهة للرأي العام العالمي والاسرائيلي بالذات خاصة وان نتانياهو كسب شعبية كبرى بسبب تصديه لما زعم انه ضغط اميركي، وتحول الى بطل قومي اسرائيلي. ولا شك ان المبادرة العربية التي يجب ان تعلن في مؤتمر صحافي عالمي مدروس لن ينجم عنها اي ضرر إن لم تحقق فائدة ما، لأن الموقف صعب والطريق مسدود ولا بد من استخدام كافة الأوراق لكشف الزيف الصهيوني وتنفيس الاحتقان لشق الصف الاسرائيلي واضعاف موقف نتانياهو في أية انتخابات مقبلة. إنه مجرد اقتراح، وخطوة من جملة خطوات يمكن ان يتخذها العرب في المرحلة المقبلة، فالمهم هو محاصرة نتانياهو ومنعه من الاستفراد بتقرير مصير السلام... ومصير المنطقة... وربما مصير العرب... لا قدر الله!