في حديثه الخاص الى مجلة "تايم" هذا الاسبوع، اعلن ايهود باراك انصراف حكومته الى معالجة الشأن الفلسطيني، واصفاً قرار الانسحاب بأنه مجازفة محسوبة، وليس مغامرة هوجاء. وقال باراك ايضاً انه ترك باب التفاوض مع دمشق مفتوحاً، على رغم اقتناعه بأن القيادة السورية مشغولة حالياً بترتيب البيت الداخلي، "ولهذا عبرت عن ردود فعلها بخصوص موضوع الانسحاب من خلال موقفين متعارضين: الأول - وهو رسمي معلن - يؤيد تنفيذ القرار 425 وعودة الهدوء والأمن الى الجنوب اللبناني... والثاني - وهو غير معلن - يمهد الاجواء لاستئناف العمليات المسلحة ضدنا بواسطة عناصر لا يصعب كشف هويتها، الأمر الذي يضع مسؤولية أعمالها على عاتق لبنان وسورية". ويستخلص من هذا التهديد المبطن ان ايهود باراك يتوقع مواصلة المقاومة اللبنانية لنشاطها العسكري، بدليل ان الأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله لم يسقط خيار الكاتيوشا، بعكس الوزير السوري فاروق الشرع الذي أعلن في لشبونة ان بلاده تعارض أي تصعيد عسكري بعد انسحاب اسرائيل من الجنوب، كما تؤيد كل جهد تقوم به الاممالمتحدة بهدف دعم مطالب لبنان العادلة وانهاء الاحتلال. على رغم تعاطي سورية مع موضوع الانسحاب المنفرد بكل ايجابية وتفهم، إلا ان القيادتين في اسرائيل والولاياتالمتحدة شككتا في دوافع هذا التصرف السياسي، وتناوبتا على اعلان حملات التهديد والوعيد. وبلغ خطاب التحذير ذروته في مؤتمر "ايباك" السنوي حيث تبارى آل غور وجورج بوش الابن في توجيه نبرات متشددة تجاه دمشق. وحمّل المرشح الديموقراطي في خطابه الرئيس حافظ الأسد مسؤولية إجهاض عملية السلام في المنطقة، الأمر الذي أجبر منافسه الجمهوري على رفع درجة المغالاة في التودد لاسرائيل وانتقاد خصومها من عرب وايرانيين. ولقد استغرب المراقبون في واشنطن انتقال عدوى الحماسة هذه الى كبار الموظفين واعضاء ادارة كلينتون من أمثال الوزيرة مادلين اولبرايت والسفير مارتن انديك. ففي تصريح هادف اعتبر الاثنان ان الولاياتالمتحدة تنظر الى سيادة لبنان على كل أراضيه كأولوية ملحّة. ومن موقع الحرص على تطبيق القرار 520 المطالب بانسحاب جميع القوات الاجنبية من الأراضي اللبنانية، كررت اولبرايت ما أعلنته في مجمع "الفوروم" في بيروت من "ان لبنان يجب ان يكون دولة حرة خالية من أي سيطرة لقوات أجنبية". وردت الدولة على هذا الطرح الملح بأن القوات السورية موجودة في لبنان بطلب من حكومته، وباتفاق بين البلدين. كما جدد الدكتور سليم الحص رفضه لأي تدخل خارجي في شؤون لبنان، وانتقد واشنطن لأنها تساوي بين مهمة العدو اسرائيل ومهمة الشقيق سورية. الإدارة الاميركية تخالف منطق الحكومة اللبنانية بسبب توسط واشنطن عام 1976 لإقناع دمشق بضرورة ارسال قواتها الى لبنان منعاً لاجتياح اسرائيلي متوقع. ومع ان كاتب سيرة الرئيس حافظ الأسد الصحافي البريطاني باتريك سيل يعتبر تشجيع سورية على التورط في المستنقع اللبناني "فخاً" نصبه هنري كيسنجر مع سفيره في الأردن دين براون... الا ان مذكرات اسحق رابين تفسر موضوع التدخل من زاوية مختلفة تماماً. فهي تتحدث عن ظروف الحرب اللبنانية، وعن احتمالات نجاح المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في الاستيلاء على الحكم. وحذر كيسنجر يومها من مخاطر تغيير التوازنات الاقليمية، موحياً لاسرائيل بأن "كوبا" شرق أوسطية ستنشأ على حدودها بدعم من موسكو. وكتب رابين انه ووزير خارجيته ايغال الون وقادة الوحدات، اقتنعوا بأن ما فشل الفلسطينيون في تحقيقه عام 1970 في الأردن، يمكن ان ينجح في لبنان. لذلك قرروا التدخل لمنع قيام نظام تحكمه المنظمات الفلسطينية على الحدود الشمالية. ولكي يحول الأسد دون تنفيذ هذه الخطة الخطرة، آثر هو التدخل بهدف إلغاء المبررات الاسرائيلية، وقد اقنعه الملك حسين اثناء زيارته الخاطفة لدمشق بأن الولاياتالمتحدة لا تمانع في دخول القوات السورية. وتتحدث مذكرات رابين عن مساهمة سفراء الأردن واسرائيل واميركا في لندن، وانتدابهم لوضع ما يسمى ب"الخطوط الحمر". ويستفاد من هذه الخلفية ان القوات السورية دخلت الى لبنان بموافقة - اميركية - على رغم اعتراض كوسيغين على ذلك - وبقيت في لبنان بموافقة جيمس بيكر الذي اعترف في كتابه "سياسة الديبلوماسية" بأن حرب الخليج أجبرته على غض النظر عن تغلغل سورية في لبنان مقابل اشتراكها في قوات التحالف ضد صدام حسين. وعليه ترى الإدارة الاميركية ان الظروف السابقة التي قادت الى الدخول السوري والاجتياح الاسرائيلي قد زالت بزوال الاسباب الخارجية والداخلية التي فرضتها. أي الاسباب التي استوجبت انشاء منطقة عازلة بحراسة جيش لبنان الجنوبي لتحول دون حدوث مجابهة مباشرة بين الجيشين السوري والاسرائيلي. وكان من نتيجة سياسة النزاع بالواسطة ان بقيت سورية واسرائيل خارج خطوط التماس العسكري، في حين استمر قتالهما عبر الجيوش البديلة، أي بواسطة المقاومة اللبنانية الممثلة لسورية وايران والدولة اللبنانية مقابل "جيش لبنان الجنوبي" الممثل لاسرائيل. وفي ضوء هذا التوازن الذي اختل بعد الانسحاب المفاجئ، سقطت كل الحسابات الموضوعة لدعم هذه المعادلة... وسقط معها اتفاق تفاهم نيسان 1996. وكان من الطبيعي ان تطالب الدول المشتركة والضامنة لتفاهم نيسان، بضرورة احلال الجيش النظامي محل الجيوش غير النظامية، خصوصاً بعد تفكك جيش انطوان لحد وهرب أنصاره. وتعرض هذا الاقتراح لممانعة "حزب الله" الذي أعلن رفضه القاء السلاح قبل تحرير كل شبر من الأرض اللبنانية، بما فيها مزارع شبعا. هذا ما أكده الأمين العام السيد حسن نصرالله لمجلة "الوسط"، ثم كرره رئيس كتلة "حزب الله" النيابية ابراهيم أمين السيد في الجلسة الاستثنائية التي عقدت في "بنت جبيل". واعتبر مبعوث الامين العام للامم المتحدة تيري لارسن ان هذا الكلام لا يسهل نجاح مهمته، خصوصاً انه يتناقض مع الموقف المرن الذي قدمه الوزير السوري فاروق الشرع. وفي رأي كوفي انان ان المزارع تخضع لولاية قوات "اندوف" الفاصلة بين الجيشين السوري والاسرائيلي على ان يُحدد مصيرها في القرار 242 وليس في القرار 425. وبما ان دمشق لم تحزم أمرها بشأن موضوع مزارع شبعا... وبما ان "حزب الله" يضع استرجاعها شرطاً للتراجع عن الحدود الى بيروت... وبما ان الحكومة تجد دائماً المبررات لعدم ارسال الجيش الى موقعه الطبيعي، فإن فرنسا تظل متخوفة من احتمال حدوث نزاع مفاجئ تفتعله اسرائيل لتغيير الوضع على أرض الواقع. ولقد أرسلت واشنطن هذا الاسبوع الى باريس اشارات غير مطمئنة تفيد ان جناح الصقور في القيادة العسكرية الاسرائيلية يميل الى اجراء تصعيد من شأنه ان يقود الى الانفجار. وترى الادارة الاميركية ان التلكؤ في ارسال الجيش الى الجنوب يصب في مصلحة بقاء الجيش السوري في لبنان، على اعتبار ان الدولة عاجزة عن بسط سيادتها على كل أراضيها. ان مجرد التثبت من ذلك، سيزيد من صيحات المطالبين بانسحاب القوات السورية، وبضرورة تطبيق القرار 520. وهذا ما ترفضه دمشق لأنه يجردها من آخر أوراقها التفاوضية على الجولان، تماماً مثلما شوش الانسحاب الاسرائيلي المفاجئ المخطط الاستراتيجي القاضي بإجبار ايهود باراك على التنازل في الجولان مقابل تهدئة الجنوب اللبناني. وبما ان قواعد اللعبة قد تغيرت، فإن استئناف العمليات بواسطة "حزب الله" أو المنظمات الفلسطينية سيقود الى ضرب المصالح السورية في لبنان مباشرة. وتقول الصحف الاسرائيلية ان هيئة الاركان وضعت نظرية أمنية جديدة تستند في الحماية الى التكنولوجيا الحديثة والى قدرة الطيران على ردع من تصفهم بعناصر القوة في لبنان، أي سورية وايران. المعارضة الاسرائيلية الممثلة بزعماء ليكود والاحزاب الدينية المتطرفة، تستعد لشن حملة سياسية ضد "حزب العمل"، لأنه تخلى عن أرض محتلة من دون ان يقبض الثمن سلاماً، كما حصل مع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية. والمعروف ان اسرائيل قامت باحتلالها الواسع في حرب 1967 لتقايض الأرض بالسلام. ولكنها في المسألة اللبنانية تراجعت عن تطبيق هذا المبدأ، وتخلت عن التزاماتها الأمنية، الأمر الذي قد ينسحب على مرتفعات الجولان ايضاً. من هنا نبعت حاجة باراك الى رفع نبرة التهديد ليعطي الانطباع بأنه حاول تقليد نتانياهو في مشروع "لبنان أولاً"... وانه بانسحابه المنفرد يحاول فصل المسارين وفصل المصيرين، ولكن سورية لم تتأثر بالتهديدات الاسرائيلية التي اعتبرتها مادة مخدرة للاستهلاك المحلي. ويرى كوفي انان الذي يستمد قوته من ثقة سورية واسرائيل بدور الاممالمتحدة، ان التريث الفرنسي في المشاركة بقوات حفظ السلام، ناتج عن تقدير الرئيس جاك شيراك بأن الأزمة قابلة للانفراج. وفي تصوره ان سورية ستقدم ضماناتها الأمنية وتسمح بإرسال الجيش اللبناني الى الجنوب، في حال فُتح باب التفاوض على الجولان أو جددت اميركا دعمها لبقاء القوات السورية في لبنان. مع تغير قواعد اللعبة في الجنوب، يتساءل الجميع عن الاستراتيجية الجديدة التي ستعتمدها دمشق لمنع الصدام العسكري؟ يجمع المحللون على القول بأن سياسة التريث والانتظار ستكون هي المنطلق الأساسي لاستراتيجية المرحلة المقبلة. وقد سبق للنظام السوري ان طبق مثل هذه السياسة في أعقاب الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982، وانتظر مدة سنة قبل ان يشهر سلاح التحدي الممثل بالمقاومة اللبنانية. ومن المؤكد ان انشغال الرئيس حافظ الأسد بترتيب الوضع الداخلي، سيؤخر الى حد ما بلورة استراتيجية جديدة تستند الى قرارات المؤتمر القطري التاسع المنوي عقده في 17 الجاري. ومن المتوقع ان يتم تعيين الدكتور بشار الأسد عضواً في قيادة حزب البعث ونائباً للرئيس، ومعنى هذا ان الدكتور بشار سيضطلع بمهمات رسمية اضافية تسمح له بتوطيد نفوذه في مختلف المواقع السياسية منها والاقتصادية والعسكرية والحزبية. والى ان تنتهي سورية من استكمال حركتها التصحيحية الثانية، فهي الآن ماضية في زيادة فرص التعاون الاقتصادي مع العراق. وربما تتوقع حصاراً من نوع آخر اذا استمرت في رفضها تلبية حاجات الاممالمتحدة في الجنوب اللبناني. وقبل ان تُفاجأ بإقامة جدران العزلة الدولية، قررت تنشيط عمليات التنسيق مع بغداد لعل التحول الجديد يعفيها من انتظار مسيرة التطورات. ويبدو ان العراق كان يتوقع حدوث مثل هذه الخطوة بدليل أنه أصلح أنبوب النفط المعطل، وجلس منذ ستة اشهر ينتظر الإشارة لاستئناف الضخ الى بانياس. ويربط المراقبون بين توقيت الانفتاح السوري على العراق وبين التقدم الحاصل في المفاوضات السرية على المسار الفلسطيني. وتؤكد واشنطن ان الاتفاق الاسرائيلي - الفلسطيني سيستكمل بصيغته النهائية خلال هذا الشهر، وان عرفات وباراك وعدا كلينتون بأن ينهي ولايته بإعلان الصيغة النهائية لاتفاق سيطرح على الاستفتاء. والى ان تنفذ الحكومة الاسرائيلية وعدها لكلينتون، تبقى سورية منتظرة دورها الاقليمي الجديد في مرحلة الانعطاف الاسرائيلي التي شهدت تخليه عن الأرض من دون سلام! * كاتب وصحافي لبناني