للمرة الأخيرة يحاول رئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك تحريك عملية السلام في اطار جدول زمني لا يتعدى الثلاثة اشهر. ولقد استخدم لهذه الغاية اجواء البلبلة السياسية التي أشاعتها عمليات "حزب الله" لتجديد قرار الانسحاب من الجولان وجنوب لبنان بحجة ان ميزان القوى لن يستمر لصالح اسرائيل. وبعكس شمعون بيريز الذي برر قرار التنازل عن المناطق المحتلة بالحصول على ازدهار اقتصادي يوفره مشروع "الشرق الأوسط الجديد"... استخدم باراك عبارات التخويف من اتساع موجة الارهاب في حال أحجمت اسرائيل عن تحقيق وعد شامير ورابين وبيريز ونتانياهو، أي الوعد الذي اختبأ وراءه رئيس الوزراء ليؤكد ان أسلافه الأربعة أعربوا في الماضي عن استعدادهم للانسحاب الى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. واتهمه شارون بالكذب والتضليل وتلطيخ سمعة سابقيه بهدف تبرير رضوخه الكامل لشروط الأسد. المعلقون الاسرائيليون في غالبيتهم لم يصدقوا أسباب الانعطاف التي عزاها باراك الى الالتزام بخط من سبقوه من زعماء الحزبين الرئيسيين. وكتب هؤلاء يتهمونه بقصر النظر والرعونة لأن سورية ربحت حرباً لم تخضها، وجنت ثمار عمليات المقاومة اللبنانية من دون ان تضطر الى زجّ قواتها في المعركة. وكانت النتيجة ان "جوليات الجبار" الذي تفاخر اسرائيل بأنها تمثله بأساطيل السفن والطائرات والقنابل الذرية، قد سقط بحجر مقلاع الراعي حسن نصرالله. ويبدو ان هذا الحجر ذهب بعيداً باتجاه الضفة الغربية ليصيب ليونيل جوسبان ويجرح سمعة فرنسا بطريقة لم تعرفها منذ حرب الجزائر. ولم يحدث ان حصدت عمليات المقاومة اللبنانية منذ انطلاقها عام 1984 دعماً شبيهاً بالدعم الذي منحها إياه الزعماء العرب. خصوصاً وان تقيدها بشروط "تفاهم نيسان"، وعدم سقوطها في الفخ الذي نصبه لها الاسرائيليون بعد ضرب المحطات الكهربائية، قد اكسباها موقع المقارنة بأسلوب "الفيتكونغ" في حرب فيتنام. تلك الحرب التي خسرتها أميركا على شاشات التلفزيون، وفي شوارع واشنطن ونيويورك، قبل ان تخسرها في الادغال بعد سقوط 56 ألف قتيل. وكما استخدم معارضو حرب فيتنام التظاهرات والمشاهد المرعبة لتأليب الرأي العام ضد ادارتي جونسون ونيكسون، كذلك استخدم "حزب الله" افلاماً اعلامية مصورة أثناء حدوث العمليات بهدف نقل الوقائع والفظائع بأمانة الى المشاهد الاسرائيلي والأوروبي والأميركي. وبفضل الاسلوب الاعلامي الداعم لحرب التحرير، كسب "حزب الله" معركة الشارع العربي، واستمال عطف الدول المشاركة في "تفاهم نيسان" ما عدا الولاياتالمتحدة طبعاً. ولقد استفادت سورية من احتضان المقاومة اللبنانية بحيث استخدمتها ورقة ضغط لاسترجاع الجولان. في حين فشل ياسر عرفات في توظيف زخم الانتفاضة لجني مكاسب افضل من المكاسب التي جناها في اتفاق أوسلو، بعكس حسن نصرالله الذي انتزع من الدول الكبرى اقراراً بأن نشاط "حزب الله" ليس عملاً ارهابياً - كما وصفه جوسبان - بل عملاً شرعياً اعترفت بحق ممارسته كل الدول بمن فيها اسرائيل. وقد تكون هذه هي المرة الأولى التي تعترف الدولة العبرية بهذه الشرعية وتقبل بأن يوصف وجودها في لبنان ب"الاحتلال". هل نضجت طبخة التسوية في اسرائيل لكي يقدمها باراك الى الحكومة، مطالباً باتخاذ قرار تاريخي قد تفلت فرصته الى الأبد؟ تحدث إيهود باراك على امتداد ساعتين عن المصير المظلم الذي تنتظره اسرائيل في حال رفضت "وديعة" رابين، وقررت في الاستفتاء الشعبي البقاء في مرتفعات الجولان. وقال في معرض التخويف ان اجهزة الأمن أبلغته بأن "حزب الله" تسلم شحنة من الصواريخ المرسلة من إيران عبر سورية، يصل مداها الى مدينة حيفا. وفي نظره ان الانسحاب من دون اتفاق مع دمشق يضاعف نشاط المقاومة اللبنانية، ويكثف ضرباتها ضد قرى الجليل الأعلى. وزير الأمن شلومو بن عامي كان أكثر الوزراء انتقاداً لاقتراح رئيس الوزراء، وأول المطالبين بوقف المفاوضات على المسار السوري. ولقد دعا في كلمته الى ضرورة تجاوز المحادثات مع دمشق، والانصراف الى المسار الفلسطيني. واستشهد بتصاريح وزير الخارجية ديفيد ليفي وقوله بأن المفاوضات مع سورية ستفشل خلال شهرين على أبعد تقدير. وحجته بأن الدور الاقليمي لسورية يقوى ويشتد في حال النزاع... ويضعف ويتقلص في حال السلام. وانبرى الوزير الروسي الأصل ناثان شيرانسكي لتأييد هذا الاقتراح، وقال ان كبير المفاوضين السوريين الوزير فاروق الشرع تبنى مقالات التحريض في صحف دمشق، وعبّر عن موقف بلاده المتشدد في مؤتمر اتحاد الكتّاب. وادعى شيرانسكي ان الرئيس الأسد لا يريد نجاح المفاوضات بدليل انه أوصد كل أبواب الحوار عندما اشترط اعتراف باراك بوديعة رابين، وطالبه بتنفيذها تحت تهديد صواريخ "حزب الله". مصادر سورية مأذونة انتقدت ادعاءات بن عامي وشيرانسكي، مؤكدة ان التزام باراك بوديعة رابين كان شرطاً اساسياً لاستئناف المفاوضات المعطلة. وفي رأي الصحف السورية ان رئيس الوزراء اسرائيلي هو الذي تراجع عن وعوده على مختلف المسارات. لقد اعلن انه سينسحب خلال سنة من لبنان، ثم فاجأ الجميع بالقول ان التواريخ ليست مقدسة. صرح بأنه سيبرم اتفاقاً مع السلطة الفلسطينية في شباط فبراير… ثم اتضح لياسر عرفات ان شباط يأتي في ايار مايو. ومثل هذا التردد في تحديد الاهداف ينم عن وجود شخصية متقلبة الاهواء، خصوصاً وان الدروس الاولى للقادة العسكريين تشدد على اهمية تقدير امكانات العدو وقدراته. واستناداً الى هذه القاعدة أعطى العسكري حافظ الأسد اشارات ايجابية فشل باراك في توظيفها لانه رجل ضعيف تعوزه شجاعة القائد القادر على اتخاذ القرار. واكبر مثل على ذلك تردده في اقالة رئيس الاركان شاؤول موفاز الذي اقنع المجلس الوزاري المصغّر بجدوى ضرب البنية التحتية في لبنان، لأن النتيجة - حسب تصوره - ستوقف نشاط "حزب الله"، وتجبر الدولة اللبناية على فصل مسارها عن المسار السوري. وجاءت النتيجة مخالفة لكل توقعات موفاز، الامر الذي استند اليه يوري أفنيري ليكتب مقالاً في "معاريف" يدعو فيه باراك الى تقليد الرئيس هاري ترومن. والمعروف ان ترومن أقال بطل الحرب العالمية الثانية الجنرال ماك ارثر لأنه أصرّ على ادارة حرب كوريا بمنأى عن تدخل البيت الابيض. بعد مرور ثلاثة اشهر تقريباً على توقف المفاوضات السورية - الاسرائيلية، اعلن ايهود باراك عن استعداده للانسحاب الى خطوط الرابع من حزيران يونيو 1967، كما يطالب الرئيس حافظ الاسد، وانتقد نتانياهو هذا الاعلان لانه اعتراف باستسلام اسرائيل امام ارادة "حزب الله"، وتمهيد للانسحاب من الجنوب بعد توقيع اتفاق مع دمشق. ومع ان المفاوضات مجمدة حالياً مع سورية، الا ان شارون كشف عن نيّة باراك استئنافها لان معسكرات الحدود الشمالية أنهت عملية تثبيت الاسلاك الشائكة ورسمت للمقاولين التعديلات الجديدة الممتدة على مسافة 40 كيلومتراً. ومن المؤكد ان تعديل الحدود في ثمانية مواقع سيخلق مشكلة مع الدولة اللبنانية لأنه حوّر الحدود المتعارف عليها. ويزعم الوسيط الاميركي ان هذه المواقع موقتة بانتظار الاتفاق على المواقع الثابتة في الجدار الامني. التحرك العربي الذي قام به الرئيس المصري حسني مبارك وولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، أعطى الموقف التفاوضي السوري دعماً اضافياً، وعزز دور المقاومة اللبنانية في تصديها للاحتلال. ولقد جاءت هذه الخطوة لتذكّر بلقاء الاسكندرية الملك فهد، الرئيس مبارك، الرئيس الاسد الذي مهّد في حىنه لانعقاد مؤتمر القمة العربي الطارئ. صحيح ان الاجواء الاقليمية كانت مختلفة عام 1996… ولكن الصحيح ايضاً ان تعاون مصر والسعودية وسورية يعطي القضايا العربية زخماً سياسياً دولياً اول ما تمثّل في حرب 1973. اضافة الى المعاني السياسية التي يحملها اجتماع وزراء الخارجية العرب في بيروت، كأن المقاومة اللبنانية احيت الدور المعطّل للجامعة العربية. ولقد رأى وزير خارجية سورية فاروق الشرع في هذا التحرك العربي سبباً لزيادة شكوكه في صدقية الالتزام الذي وعد باراك بتنفيذه. وفي تصوره ان تبني موقفي لبنان وسورية من قبل الدول العربية، احدث صدمة لدى الحكومة الاسرائيلية التي تراهن دائماً على التشرذم العربي. السؤال المطروح حالياً يتعلق بالالغام المزروعة في طريق باراك، وما اذا كان بمقدوره تمرير مشروع السلام في ظل مشروع قانون يشترط حصول اي اتفاق مع سورية على غالبية مطلقة. وتسلح رئيس الوزراء بنتائج الانتخابات مليون و800 ألف ناخب ليقول ان الشعب حمّله رسالة السلام… وان الغالبية في البرلمان تنتزعها منه، ويبدو ان باراك اصبح اسير رابين في قرارين مهمين: الاول: يتعلق ب"الوديعة" والثاني يتعلق بقانون اجترحه رابين يتطلب حصول الحكومة على 61 في المئة من الاستفتاء المطلوب للمصادقة على الانسحاب. ولقد استُبدل قانون رابين بقانون جديد صوّت عليه 60 نائباً يفرض الحصول على غالبية مطلقة، وبما ان باراك لم يحصل على اكثر من 35 في المئة داخل الكنيست… وبما ان شعبيته تدنت بنسبة ثلاثين في المئة، فان نجاح المفاوضات مع سورية لا يؤكد نجاح رئيس وزراء اسرائيل في تطبيق مشروع السلام. والسبب ان نتائج الاستفتاء لن تمنحه الموافقة على الانسحاب من ارض الجولان مقابل حصوله على السلام مع سورية. وهكذا يكون باراك قد أضاع فرصة اخرى لانه تأخر في حسم موقفه… ولأن المعارضة نجحت في تأليب الرأي العام ضده! * كاتب وصحافي لبناني