لو كان أنصار الجدل الهيغلي اعدموا الحجج التي تبرهن صحة منهجهم لوجدوا في الشيشان ضالتهم. فهناك أدى التراكم الكمي للمشكلات المتوارثة عن العهدين القيصري والسوفياتي الى تحول نوعي تجسد في الحركة القومية التي قادها جوهر دودايف مطلع التسعينات. وغدت هذه الجمهورية مسرحاً لوحدة وصراع المتناقضات محلياً واقليمياً ودولياً، وأخيراً، فإن "نفي النفي" أو نقض النقيض صار حرفة للساسة والعسكريين من الجانبين. وكان آخر برهان في هذا السياق الجنرال غينادي تروشيف قائد قوات القوقاز الذي أعلن يوم الاحد ان "الحرب انتهت" واقسم ايماناً غليظة بأن الطيران الروسي لن يقوم بأي غارات على الأراضي الشيشانية لانتفاء الحاجة، اذ ان "العصابات" صارت مجرد "شراذم" ويكفي ان تستخدم ضدها وحدات من رجال الشرطة المدربين على مكافحة الاجرام. الا ان نفي النفي جاء صبيحة الاثنين على هيئة صواريخ وقنابل ألقتها أسراب المقاتلات الروسية فيما كانت القيادات العسكرية الفىديرالية تحذر من "حشود" للمقاتلين قرب المدن الكبرى في الشيشان. ولم يعد أحد يدري ما إذا كانت الحرب انتهت أو ابتدأت والأرجح انها "انتدأت" جامعة بذلك النقيضين. وأغلب الظن ان نقض النقيض في الشيشان لا صلة له بهيغل، بل انه يعكس رغبة موسكو في توجيه رسالتين متقاطعتين. في الأولى تبلغ الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي ان المركز الفيديرالي بدأ خطوات حثيثة نحو السلام وبذا فإن على الأوروبيين ان يسحبوا مطالبتهم بوقف الحرب وانتهاك حقوق الانسان. وفي الرسالة الثانية اشعار الى "المتعنتين" داخل الشيشان يفيد بأن الكرملين لن يرضخ لأي ضغوط وسيواصل القصف والغارات الى حين استسلام أو "إبادة" الطرف الآخر. وهذه النقائض الكثيرة توحي بأن موسكو لا تملك خطة متكاملة أو حتى تصوراً واضحاً لسبل الخروج من الورطة الشيشانية، ويبدو انها تميل الى اعتماد برنامج ل"شيشنة" النزاع. وفي هذا السياق اسندت رئاسة الإدارة الموقتة الى المفتي احمد الحاج قادروف الذي كان أعلن الجهاد ضد روسيا في الحرب الأولى ثم صار حليفاً لها في الثانية بعدما اختصم مع الرئيس اصلان مسخادوف. وجوبه تعيينه باستنكار حلفاء موسكو التقليديين في الشيشان، فقدم عدد كبير من موظفي الإدارة الموقتة استقالة جماعية فيما وجه 12 من محافظي المدن والبلدات الذين عينهم المركز الفيديرالي رسالة الى الرئيس فلاديمير بوتين للمطالبة بالتراجع عن قرار تعيين قادروف. وعلى الجانب الآخر من المتاريس صدرت عن المقاتلين الشيشانيين تهديدات بتصفية "الخونة" وطالب مسخادوف بمقاطعة المتعاونين مع المركز الفيديرالي طالما الحرب مستمرة. وبذا تهيأت عناصر احتراب شيشاني - شيشاني على محاور عدة، ولعل هناك في موسكو من يأمل بأن الحرب الاهلية يمكن ان تكون مخرجاً من الورطة، ولكنها في الواقع ستصبح شرارة يندلع منها حريق اكبر مما شهده القوقاز حتى الآن.