غلطة الاممالمتحدة الرئيسية في القيام بالتثبّت من الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان بموجب القرار 425 انها لم تضع الآلية الضرورية لمراقبة الخروقات والانتهاكات الاسرائيلية لخط الانسحاب الذي حددته. وخطأ لبنان الرسمي والاعلامي بمعظمه انه يطلق أنصاف الحقائق شعارات ويختلق ازمات ويكابر بحملات فيضيّع جوهر مواقفه الصحيحة في قشور المغالاة والمزايدات والبهورات. ولعل الطرف الاكثر وعياً في لبنان اليوم هو "حزب الله" الذي ربما تعلّم من ايران الفكر الاستراتيجي والنضج السياسي والتصرّف بمنتهى المسؤولية. فالسياسيون واصحاب المراكز حوّلوا لبنان الى علامة استعجاب، بعضهم مرتكباً اخطاء كبيرة غريبة على افراد بمثل هذا القدر من العلم والتقدير والاحترام، وبعضهم لغايات استهلاكية تقع في حساباتهم الشخصية السياسية، وبعضهم لأن تدريبه عسكري يرى الامور بالابيض والاسود حصراً. هذا بلد يفترض ان يكون في صدد التعافي بعدما عانى من احتلال لاكثر من عشرين سنة وخاض حرباً اهلية كشفت بشاعة الشخصية اللبنانية. وبدلاً من الفرز الدقيق لنوعية العلاقة في صميم الداخل بعد انتهاء الاحتلال وفي العلاقة مع سورية وهي تعبر مرحلة انتقالية مهمة وتتبنى الانفتاح، ان ما يحدث في لبنان يجعله يبدو دولة بوليسية تفرض الانغلاق. فليس صحيحاً ان حرية التعبير في الصحافة اللبنانية هي مقياس الديموقراطية لأن "دولة القانون" تمارس اساليب معهودة في انظمة الاحتواء. وهذا الاحتواء يتم اما بالتخويف او الاسترضاء او المزج بينهما. والنتيجة هي ذاته،ا اذ ان التهديد المبطّن يأتي مع ابتسامة او بهزّ الرأس توعداً. وهذه وسائل حكم عسكري. الأمر ملفت لأن لبنان السياسي والاعلامي يبدو كأنه يبحث عن "عدو" مرحلي اما تبريراً او مزايدة او غطاء لنواقص في البنية التحتية للهوية اللبنانية. هذا الاسبوع كان "العدو" الاممالمتحدة الى حين وصول الامين العام كوفي انان بيروت عندما اتضح ان "مصنع المعلومات" في "الثكنة الاعلامية" فبرك اتهامات خطيرة لصنع "عدو" الساعة ما لبثت ان زالت بعد اول جلسة من المباحثات. وفي الامر اكثر من عبرة وخلفية ودلالة. فأولاً، ان حق لبنان في تحرير كل شبر من ارضه ليس هبة من الاممالمتحدة، والاسرائيلي انسحب رغم انفه بعدما هزمته المقاومة الوطنية وفرضت عليه التراجع والموافقة على تنفيذ القرار 425. وعندما أبلغ وزير خارجية اسرائيل ديفيد ليفي الى كوفي انان شفوياً الالتزام بتنفيذ القرار ادركت الاممالمتحدة ضرورة الحصول على تعهد خطي بلا شروط مسبقة ولا مطبّات ولا تحايل قبل بدء مهماتها لتنفيذ القرار. وفي تنفيذ هذه المهمات عملت على تحديد خط الانسحاب هدفه الوحيد التثبّت من الانسحاب التام، وليس ان يكون بديلاً عن الحدود الدولية. ثانياً: بدلاً من الانخراط الجاد في توفير كل خريطة ووثيقة تجعل "خط الانسحاب" متطابقاً للحدود الدولية، قررت الحكومة اللبنانية في البدء ان تمتنع وتتغيّب عن المشاركة الفعلية في تحديد هذا الخط. ثم ارتأت ان تستدرك فساهمت بعجلة مما قد يكون اضطرها الى تقديم وثائق غير صحيحة. وبدلاً من الاعتماد على قانونيين وخبراء خرائط يضمنون للبنان كل شبر من اراضيه، شنّت حملة في شأن مزارع شبعا فيما كانت سورية اوضحت انها ليست في وارد ترسيم الحدود رسمياً مع لبنان لوضع مزارع شبعا في النطاق اللبناني، ولا في وارد اعادة التفاوض مع اسرائيل على اتفاقية فض الاشتباك والتي بموجبها انشأت قوات "اندوف" لمراقبة فضّ الاشتباك في الجولان. فلم يكن امام الاممالمتحدة سوى خيار مرور خط الانسحاب بين منطقتي عمليات "اندوف" و"يونيفل" في لبنان نظراً الى المواقف السورية العملية. ورغم هذا فإن "الخط الازرق" لا يمنع لبنان من استعادة مزارع شبعا عند ترسيم حدوده مع سورية، عندما يشاء الطرفان. ثالثاً، ان الاعتراض على خط الانسحاب المعروف بالخط الازرق، او ب"خط لارسن"، اشارة الى مبعوث الامين العام تيري رود لارسن، اتى من الجانبين على لارسن وفريقه، فرئيس وزراء اسرائيل ايهود باراك اتهم في اتصال مع كوفي انان المبعوث لارسن بالاحتيال والتواطؤ مع اللبنانيين والسوريين واوشك على المطالبة بطرده بسبب قرية الغجر وغيرها من تفاصيل خط الانسحاب. ومن جهة لبنان أُطلقت حملة على لارسن وأنان بتهمة "الخديعة" زعمت ان تقرير 16 حزيران يونيو الى مجلس الامن اعلن التثبّت من الانسحاب الاسرائيلي الى خط الانسحاب قبل اكتماله. فقامت ضجّة سياسية واعلامية صوّرت الاممالمتحدة "عدواً" للبنان، ناسبها ان يكون لارسن "كبش الفداء" فيها، خلطت بين الجذور والقشور، ومحت الفارق المهم بين خط الانسحاب وبين الخروقات والانتهاكات الاسرائيلية له. وهنا تأتي اخطاء الاممالمتحدة والنواقص المخيفة في هيكليتها، ومصادر تقصيرها السياسي. فقد كان على دائرة حفظ السلام التي تشرف على القوات الدولية ان تضع آلية مراقبة للخروقات والانتهاكات تمكّن قوات "يونيفيل" من التحرك بسرعة خصوصاً ان اسرائيل تقوم منذ فترة ببناء بنية تحتية امنية جديدة على جانبها من خط الانسحاب. اهمالاً كان او مماطلة او قصر نظر، فإن الامين العام للامم المتحدة مسؤول عن التقصير في وضع آلية فاعلة لمراقبة الانتهاكات على خط الانسحاب. وهذا التقصير جعله يبدو كأنه يعطي الصدقية للخروقات كما ساهم في اللغط والخلط عدم التمييز بين خط الانسحاب وبين الخروقات. عليه ان يبادر فوراً ويصدر التعليمات الى دائرة حفظ السلام وقائد "يونيفيل" للعمل مع الحكومة اللبنانية لايجاد آلية فاعلة لمراقبة الانتهاكات كي تتحرك "يونيفيل" وتبعث تقارير الى مجلس الامن فور وقوع خروقات. قد لا يحسن ان تكون الآلية في اسلاك شائكة على خط الانسحاب لما تنطوي عليه من ايحاء بحدود مرسّمة، وقد لا توافق الحكومة اللبنانية على نشر القوات الدولية الى خط الانسحاب الا بعد التحقق من عدم تكرار الخروقات. الا ان ايجاد آلية مراقبة في صلب مهمات قوات "يونيفيل" ويجب الاتفاق عليها فوراً ان كان بصيغة مراقبين بمهمات خاصة على خط الانسحاب او غيرها. ففي غياب هذه الآلية ستبقى الانتهاكات في الخطاب السياسي للامين العام "مزعومة" الى حين التحقق منها، في حين يجب عليه ان يتبنى خطاباً سياسياً جلياً في تنديده بالخروقات واعلانها غير مقبولة والتحرك في مجلس الامن بسرعة لاتخاذ الاجراءات. فليس في مصلحة الاممالمتحدة ان يؤدي تقصيرها الى اعتبارها "عدواً" كما ليس في مصلحة لبنان ان يهرول الى تصوير الاممالمتحدة "عدو الساعة" كلما استنسب ذلك لغايات غير تلك المتعلقة بخط الانسحاب او بالخروقات. الازمة الحقيقية لها علاقة بأكثر من كوفي انان او تيري لارسن والتحفظات عليهما، مصطنعة كانت او لاسباب ملموسة، انها ازمة الفرز الداخلي وفي الجوار. واللبنانيون، على عهدهم مستمرون في المزايدة والافراط بدءاً بمعنى الانسحاب الاسرائيلي وانتهاء بمستقبل العلاقات مع سورية. اي عاقل ومنطقي يدرك ان تنفيذ القرار 425 ليس على الاطلاق سلاماً بين لبنان واسرائيل، فلا حاجة للبنان الى اختلاق ازمات لئلا يسود انطباع بغير ذلك. ان التطبيع والسلام ما بين لبنان واسرائيل لن يحدث الا مع التواقيع اللبنانية والسورية والاسرائيلية على اتفاقات سلام. وتلازم التواقيع اللبنانية والسورية مستمر حتى في غياب تلازم توقيت الانسحابات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية والسورية. واذا كانت الحكومة اللبنانية تريد ان تعالج مطالبة بعض الاوساط اللبنانية بأن يحدث تلازم بين انسحاب القوات الاسرائيلية والقوات السورية من لبنان، عليها ان تفعل ذلك بكامل المسؤولية والجرأة على القرارات بلا اختباء وراء معادلات و"فبركات". عليها ان تتصرف كدولة تحسن توظيف فرصة استعادتها سلطتها في البلاد لتتصرف بتماسك ورؤية وتكتسب سمعة الجدية بعيداً عن سمعة المهاترات. ولأن الاصوات المنادية بانسحاب فوري للقوات السورية سخيفة كما تلك التي تعتبر تنفيذ القرار 425 سلاماً، فمن الضروري ايضاح معالم العلاقة اللبنانية - السورية في اعقاب زوال الاحتلال الاسرائيلي للبنان وتدريجية خروج القوات السورية منه طبقاً لمنطق استعادة الدولة اللبنانية سلطتها على البلاد. ولأن في دمشق اليوم توجهاً انفتاحياً، فإن التوقعات من القيادة السورية تشمل ايضاحها معالم العلاقة مع لبنان. فهناك انطباع لدى البعض بأن التصرفات والبدع اللبنانية باختلاف الاعداء تأتي تلبية لرغبات سورية فيما المؤشرات لا تدعم الانطباع، والايضاح مفيد خصوصاً اذا كان القصد مساعدة الدولة اللبنانية على اقامات علاقة صحية لها مع ابناء البلد. هذا لا يعني ان يحدث تطابق في الآراء سواء بالنسبة الى نوعية العلاقة السوري - اللبنانية او بالنسبة الى العلاقة بين الحكومة و"حزب الله" مثلاً. فتوجه كوفي انان الى لقاء الشيخ حسن نصرالله في مقره اعتُبر من وجهة نظر البعض اضعافاً لشرعية الدولة من خلال تشعيب المسؤولية بدلاً من حصرها في القنوات الحكومية الرسمية. ورأى القائلون بهذا الرأي ان السابقة ستؤثر سلباً في علاقات الحكومة الرسمية مع الجهات الوطنية خارج الحكومة بغض النظر عن تبني الدولة للمقاومة. وجهة النظر الاخرى ان لقاء انان ونصرالله هو لقاء الشرعية المتبادلة كما هو براغماتية تنفيذية للاتفاق بين "حزب الله" والاممالمتحدة على التعاون بما هو في مصلحة لبنان من دون زعم اي صلاحيات تتجاوز الدولة. وهذا الرأي يشير الى مستوى الوعي والمسؤولية الذي تميّز به "حزب الله" منذ تراجع اسرائيل منهزمة، وحقه الذي اكتسبه بأن يكون لاعباً اساسياً على الساحة اللبنانية بغضّ النظر عن المناصب والألقاب. ومع الأخذ في الاعتبار الرأي الاول، فان عقد الاجتماع قرار حكيم وتوقيته جيد فيما تصنع الدولة نفسها. ومع تسجيل التحفظات على دلالات اضفاء كوفي انان بعد الشرعية على الدور الايراني في لبنان، فإن الموقف الذي عبّرت عنه القيادة الايرانية اثناء زيارة انان الى طهران انطوى على التوجه الى وقف التدخل في لبنان، على الاقل في هذه المرحلة. وقد قال وزير خارجية ايران، كمال خرازي لكوفي انان لدى البحث في اجتماع بين انان ونصرالله: "ستتمتع باللقاء"، وأنان تمتع وأُعجب بنضج هذه الشخصية في بحر لبنان المليء بالتناقضات. والنضج حاجة ماسة للبنان الرسمي والاعلامي في هذا المنعطف، وإلا فان هدر الكفاءات سيؤدي الى انزلاق حزين في كهوف الانغلاق المظلمة المضاءة بصورة مصطنعة تعمي عن الاقرار بالواقع وتخترع التسليات.