توضحت مواقف المعنيين بانسحاب اسرائيل من جنوبلبنان طبقاً للقرارين 425 و426 اثناء جولة مبعوث الأمين العام للامم المتحدة، تيري رود لارسن، في المنطقة بصورة ايجابية ومفيدة لأكثر من طرف وفي أكثر من مجال. لبنان تصرف على المستوى السياسي بجدية على رغم ما ينتاب طاقمه الفني من تقصير وما يحيط بعض طروحاته من اعتباطية. وسورية تعمدت وقف اللغط والانطباع اللذين رافقا مواقفها فوضعت النقاط على الحروف وفتحت الباب اعلى احتمالات أوسع. والمساهمة العربية، خصوصاً في لقاء تدمر وما يتبعه من جهود حثيثة وراء الكواليس، برهنت وعياً لالتقاط الفرص واستدراك المطبات. والمواقف الأوروبية، بالاخص الفرنسية تبنت اسلوب الحزم مع الجميع لتحريك المواقف خارج بوتقة التلاعب والتحايل أو التردد والمزايدة. ولم تتوان الديبلوماسية الاميركية عن لعب دور اساسي ومعظمه بعيداً عن الأضواء. وحرص الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان على الاتصال المباشر اليومي بأصحاب القرارات حرصاً على دقة المرحلة الحساسة وتهيئةً لما يتبعها. وهكذا بات في سيرة منطقة الشرق الأوسط حدث فريد رهن التنفيذ. الحدث فريد أولاً لأن اسرائيل، للمرة الاولى في تاريخها، تتراجع عن سياسة فاشلة، وتنهزم امام مقاومة، وتنصاع لقرار لمجلس الأمن من دون قيد أو شرط بعدما رفضته لفترة 22 عاماً. والحدث فريد ايضاً لأن الاممالمتحدة في موقع يمكنها من ان تقول نعم أو لا. فإذا قررت اسرائيل التلاعب أو التحايل في مسألة "جيش لبنانالجنوبي"، فإن الامم لمتحدة على استعداد لأن تنبهها الى ان الورطة ورطتها، والمسألة ليست رهن المقايضة أو المساومة، والدول المساهمة في قوات "يونيفيل" غير مستعدة لملء الفراغ الأمني بعد انسحابها، والخيار خيارها بين تنفيذ دقيق للقرار 425 وبين انسحاب أحادي هو من شأنها وليس من شأن الاممالمتحدة. الحدث فريد أيضاً، لأنه تزامن مع مرحلة دقيقة في عملية السلام للشرق الأوسط، والأوجه الأخرى الملفتة في الحدث لها علاقة بمعنى التضامن العربي وأساليب التعبير عنه اذ انه خرج عن الغوغائية والمزايدة واخذ بعداً واعياً للتكتيك والاستراتيجية. وما المساهمة السعودية والمصرية والعمانية وحتى الأردنية بوسائلها وتعابيرها الخاصة، سوى نقلة في فكر التضامن العربي واسلوبه، ليس فقط مع لبنان وانما بالذات مع سورية. قد يقال ان تجنب الإقبال على وعود اسرائيلية بلا اثباتات هو الذي أدى الى ايضاح الالتزامات الاسرائيلية. وفي ذلك كثير من الصحة. فكما يتجاهل كثيرون الفضل السوري في دعم المقاومة اللبنانية لدرجة ايصالها الى الاحتفاء بقهر الاحتلال، كذلك يطيب للبعض تجاهل مساهمة الموقف السوري المشكك في النيات الاسرائيلية في فرض نقلة نوعية عليها الى حد اضطرها للإفصاح عن تفاصيل واضحة لغاياتها وخطواتها. نعم، ان النصر والفضل الأول للمقاومة اللبنانية بلا أي شك. ونعم، ان المواقف السورية الأولية افتقدت الحماسة لتحقيق الانسحاب الاسرائيلي باعتباره احادياً ذا دلالات. ولكن بعدما توضح لدمشق ان اسرائيل ستنسحب طبقاً للقرارين 425 و426 بلا شروط ولا مطالبة بضمانات، اعادت النظر، وحسناً فعلت بإيضاحها المواقف في ضوء ما جدّ من تطورات وبتصحيحها الانطباعات. العقبتان الاساسيتان الآن امام تحقيق التنفيذ الكامل والدقيق للقرارين 425 و426 هما مزارع شبعا الواقعة أصلاً في المثلث اللبناني - السوري - الفلسطيني والتي طُرحت في عملية الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، ومسألة "جيش لبنانالجنوبي" وهو ذراع تابعة للاحتلال الاسرائيلي. مزارع شبعا، على رغم ما وصلت اليه من عقبة رئيسية بسبب المطالبة اللبنانية بها كقضية جوهرية في الطروحات ليست اليوم مشكلة أو مسؤولية اسرائيلية وانما هي مسؤولية ومشكلة لبنانية - سورية تتعلق ليس فقط بترسيم الحدود بينهما، وانما تتعلق ايضاً بقوات حفظ السلام الدولية في جنوبلبنان والجولان. هذه المزارع التي تقارب مساحتها 25 كيلومتراً مربعاً تقع الآن تحت ولاية القوات الدولية لفض الاشتباك بين سورية واسرائيل والتي انشأت قبل 26 عاماً في اعقاب حرب 1967 واحتلال اسرائيل الجولان والمزارع. ومجلس الأمن يجدد روتينياً، منذ ذلك الحين، ولاية قوات "اندوف" بلا أي تصعيدات سياسية أو تعديلات. لبنان يقول ان هذه أراض لبنانية ويتقدم بسندات ملكية لبنانية لنحو 70 في المئة من الأراضي وبوثائق أوقاف تؤكد الهوية اللبنانية لمزارع شبعا. ولبنان يقول ان هناك وثائق سورية - لبنانية وقعت عام 1949 - 1950 تثبت الهوية اللبنانية للمزارع والتوافق على استخدامها من جانب سورية، لكن هذه الوثائق "ضائعة" أو "مفقودة" أو موجودة عند السوريين. وسورية تقول ان هذه مسألة تخص لبنان وسورية ولا دخل لأحد فيها نظراً الى العلاقة المميزة بين الطرفين المعنيين. فإذا كانت الأراضي لبنانية أو سورية، فهذا ليس شأن اسرائيل أو غيرها طالما ان هناك اعترافاً بأنها أراض محتلة. مشكلة الاممالمتحدة انها في حاجة الى خط عملي للحدود الدولية التي يجب ان يتم الانسحاب الاسرائيلي الى ما ورائها بموجب القرار 425. فهل ان مطالبة لبنان بمزارع شبعا جاءت كمفاجأة للامم المتحدة ضمن تلك الحدود الدولية بموجب 425 أم انها أراض تتعلق بمسألة مختلفة ذات علاقة بالحدود السورية - اللبنانية غير المرسمة؟ سورية ولبنان ليسا بصدد ترسيم الحدود رسمياً بينهما، الا اذا اتخذت الحكومتان اليوم قراراً بذلك. فإذا ارادت سورية هذا الترسيم بما يضع مزارع شبعا تحت سيادتها أو تحت سيادة لبنان، تُحلّ المشكلة. في غياب ذلك، توجد مشكلة اخرى لسورية ولبنان على السواء، وهي تلك المتعلقة بقوات فض الاشتباك "اندوف" وقوات حفظ السلام "يونيفيل". وإذا أصرّت دمشق وبيروت على ان تتضمن الحدود اللبنانية الدولية مزارع شبعا، سيكون على الاممالمتحدة ان تعالج خطأ وضع مزارع شبعا تحت ولاية "اندوف"، ما يتطلب طرح ولاية هذه القوات بين سورية واسرائيل على الطاولة. الصيغة الأكثر واقعية هي ان يقوم مجلس الأمن، باقتراح من الأمين العام وبموافقة ضمنية أو صريحة من لبنان وسورية، بتحديد الخط العملي للانسحاب الاسرائيلي الى الحدود الدولية الواقعة ضمن ولاية "يونيفيل" شرط الايضاح الكامل بأن ذلك الخط العملي ليس حكماً مسبقاً على الحدود التي ترسم بين دول في منطقة مزارع شبعا تحديداً. فهذه عقبة قابلة للحل والاخراج بما لا يهضم الحقوق ولا يعرقل الانسحاب الاسرائيلي الكامل. لكن المشكلة الأساسية والخطيرة تتعلق بالعقبة الأخرى أي بالنيات الاسرائيلية نحو "جيش لبنانالجنوبي". الاممالمتحدة، كما أكد رود لارسن، بالغة الوضوح في هذه المسألة اذ ترى انها مسؤولية اسرائيل ولا مجال ابداً للمناورة بصددها. فاسرائيل صنعت هذا الجيش كملحق واحتياطي لقوات الدفاع الاسرائيلي، وتنفيذها القرار 425 يقتضي سحب القوات الاسرائيلية بملحقها واحتياطها اللبناني وتفكيك هيكيليته كجيش ومؤسسة عسكرية بلا جيوب ولا أسلحة يتركها الانسحاب وراءه. أما فرنسا، المرشحة الأولى لمساهمة كبيرة في تعزيز قوات "يونيفيل" من 4500 الى 7000 عنصر، فهي حازمة مع اسرائيل في هذه المسألة وترفض المنطق الاسرائيلي الركيك والمريب الذي يراوغ بين الاستعداد لاستيعاب "جيش لبنانالجنوبي" وبين حق من يختار البقاء في لبنان والاحتفاظ بأسلحة إما للدفاع عن النفس أو للمساومة في اطار العفو. طروحات قائد "الجنوبي" اللواء انطوان لحد مزجت بين التلميح بالانتحار الجماعي والتهديد بتعطيل الانسحاب والمطالبة بالعفو، وكأن من حق العمالة لقوات الاحتلال لعشرين سنة العفو عن الخيانة. انها طروحات بائسة فيها الكثير من الوقاحة. وردّ الحكومة اللبنانية عقلاني يرفض "الانتقام أو التشفي" ويميز بين المقاتلين بدرجات مسؤولياتهم وبين العائلات. وموقف الحكومة يوحي بأن صيغة "جزين" هي أفضل الصيغ فيسلّم من يريد البقاء في لبنان نفسه الى العدالة وتصدر المحاكم العسكرية احكامها طبقاً للقوانين. والمهم ألا يقع اي تقاعس في المواقف الدولية الرافضة منطق التحايل والمراوغة الذي تلفظ به اسرائيل، وليس هناك ما يوحي بأي تقاعس في هذا الصدد. رغم ذلك، من المفيد للبنان ان يتواجد في الاممالمتحدة هذا الاسبوع بفريق فني وسياسي وخبراء كي يساهم مع الأمانة العامة في وضع الخطط والتصورات ليس فقط لخطوات الانسحاب وانما لما يتبعه. فقوات الأمن الداخلي أو الدرك ستعود تدريجاً الى القرى بعد تثبت الاممالمتحدة من الانسحاب، وهناك دراسات لمشاريع اعادة اعمار وتأهيل الجنوب والتعيض عن الاحتلال يجب تفعيلها مثل مشروع "البرنامج الانمائي للامم المتحدة" بقيمة 350 مليون دولار وفكرة عقد مؤتمر دولي لمساعدة لبنان تقدمها الدول المانحة.