لم يحظَ الموقف العربي الرسمي ازاء الانتصار الأول الحقيقي للعرب في المواجهة مع اسرائيل إلا بتغطية رسمية باهتة وخجولة، تمثلت في رسائل وبرقيات التهنئة للدولة اللبنانية وزيارات للجنوب المحرر لعدد محدود من المسؤولين العرب ومن ايران والاعلان عن تقديم بعض المساعدات المالية للمساهمة في اعادة اعمار الجنوب من باب رفع العتب ومداراة التقصير. وعلى الصعيد الاعلامي جاءت التغطية قاصرة ومحدودة ولا تتناسب مع اهمية الحدث، ويبدو ان مخاوف وشكوك قد اعترتها، مبعثها طبيعة المقاومة اللبنانية وانتماؤها الجهة "طائفيتها" أو اسلاميتها، وارتدت في غالب الأحيان طابعاً اكاديمياً محايداً من جانب مثقفين يجيدون التنظير والعراك اللفظي أكثر مما يجيدون العمل والفعل والمبادرة في استغلال هذا الحدث من اجل رفع مستوى الوعي الشعبي والمشاركة القومية وفتح باب الحوار والسؤال حول مختلف جوانب الصراع في المنطقة ومسيرة التسوية والمزالق الخطيرة التي انحدرت إليها. اما على الصعيد الشعبي، وباستثناء المسيرات والمظاهرات التضامنية في بعض مناطق السلطة الفلسطينية التي جرت على الضد من رغبة السلطة في ضوء تصريحات عرفات المنحازة ضمنياً إلى الموقف والتفسير الاسرائيلي للانسحاب من لبنان، غابت المسيرات ناهيك عن الاجتماعات واللقاءات الشعبية مع استثناءات محدودة اهمها الاعلان عن بدء فعاليات تضامنية مع الشعب اللبناني من جانب اللجان الشعبية لمقاومة التطبيع في منطقة الخليج التي مقرها الكويت. وعلى رغم شعور العرب عموماً بالاعتزاز ونشوة الانتصار في هذا الزمن العربي الرديء الذي يتبارى فيه المهرولون صوب اسرائيل طمعاً في رضائها أو بالأحرى في ارضاء الولاياتالمتحدة الداعمة الأساسية لإسرائيل فقد وصلت المهانة إلى درجة تفاخر بعض المثقفين العرب صراحة بأنهم من أنصار التطبيع التطويع والانفتاح مع اسرائيل باعتباره يمثل ذروة الواقعية والفطنة في زمن العولمة ووحدانية الهيمنة الأميركية على المستوى الكوني، ووصل الأمر إلى أن قائداً بارزاً في السلطة الفلسطينية يصرح بأن انسحاب اسرائيل من جنوبلبنان جاء في سياق تنفيذها لقرار مجلس الأمن 425 وتناسى "سيادته" أن اسرائيل تجاهلت على امتداد وجودها تنفيذ كافة القرارات الصادرة عن الأممالمتحدة بدءاً من قرار التقسيم ومروراً بقرار حق العودة للاجئين إلى قراري 242 و 338 ويبدو بأن السلطة الفلسطينية التي توصلت إلى توقيع اتفاق أوسلو المشؤوم مع اسرائيل من خلال اعتماد دبلوماسية الغرف السرية من وراء ظهر الشعب الفلسطيني وقواه الأساسية والفاعلة وجدت نفسها في مأزق حقيقي بعد وصول التسوية إلى طريق مسدود بفعل التعنت والمراوغة وسياسة الابتزاز التي تمارسها اسرائيل ورفضها التزحزح عن مواقفها وسياستها المعلنة أو ما سمي بلاءات باراك الشهيرة وهي لا تفريط بالقدس عاصمة أبدية لاسرائيل ولا لوقف الاستيطان أو تفكيك المستوطنات ولا للانسحاب من كل الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67 ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين وهو ما يعني عملياً حتى لو تم الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في سبتمبر المقبل قيام كيان فلسطيني بدون مضمون حقيقي، محدود السيادة على الأرض والحدود والاقتصاد والمياه، لكن له مطلق الصلاحية في مواجهة شعبه والتحكم في معيشة وأمن وحرية المواطنين الفلسطينيين وبالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. إعلان اسرائيل قبولها بتنفيذ قرار 425 بعد اثنين وعشرين عام على احتلالها للجنوب سوى تأكيد على أن اللغة الوحيدة التي تفهمها اسرائيل هي لغة القوة والمواجهة المستندة إلى إرادة شعبية حرة متحررة من الخوف، وفي هذا السياق هل نستطيع أن نلغي من الذاكرة أن انتفاضة الحجارة الفلسطينية التي استمرت عدة سنوات على الرغم من سياسة "تكسير العظام" التي انتهجها "بطل السلام" اسحاق رابين هي العامل الرئيسي داخلياً إلى جانب افرازات حرب الخليج الثانية خارجي التي دفعت اسرائيل إلى قبول الدخول في مفاوضات التسوية مع العرب وفقاً لصيغة مدريد 91 وكان قرار تجميد الانتفاضة الثمن الذي دفعته القيادة المتنفذة في منظمة التحرير لتمرير اتفاقات أوسلو 1993 التي مثلت اختراقاً اسرائيلياً حاسماً للمسار الفلسطيني وهو ما سمح لإسرائيل الاستفراد بالمسارات العربية المختلفة وفقاً لأجندتها الخاصة مستهدفة فرض مزيداً من الاذلال والتراجع عن الثوابت الفلسطينية والعربية والحقوق القومية والتاريخية الشرعية بحجة الواقعية واختلال ميزان القوى بين العرب واسرائيل لصالح الأخيرة. صحيح أن ميزان القوى مختل لمصلحة اسرائيل وحماتها ولكن هل هنالك في الأصل كفة تعادل وفقاً للحسابات الفنية والعسكرية البحتة بين قوات الاحتلال بصورة عامة وبين الشعوب المستعبدة والقوى المكافحة من أجل الاستقلال والعدالة، والحرية؟ كيف نفهم ونقيم إذن في هذه الحالة انتصار الشعوب المستضعفة في معارك التحرير الوطني في قارات آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا ويحضر إلى الذهن هنا انتصار الشعب الفيتنامي الذي احتفل قبل فترة بذكرى مرور ربع قرن على تحرير جنوبفيتنام المحتل وسقوط عاصمتها سايغون هوشي مينه حالياًَ على رغم أنه واجه أكبر قوى عسكرية في التاريخ الولاياتالمتحدة ولنا في انتصار شعب جنوب افريقيا بقيادة مانديلا على نظام الفصل العنصري الأبارتيد بعد ما يزيد عن قرنين من هيمنة وسيطرة البيض على حساب مصالح ووجود الأقلية السوداء. وعلى الصعيد العربي مثل انتصار الشعب الجزائري على الاستعمار الفرنسي بعد أكثر من 130 عاماً من السيطرة الاستعمارية المباشرة مفخرة للعرب. نذكر هذا ونحن نعرف بأن دول المركز استطاعت إلى حد كبير من استعادة نفوذها وسيطرتها في معظم البلدان التي تحررت من براثن الاستعمار وتسلطه لأسباب وعوامل داخلية وخارجية عديدة. من الواضح أن العنصر المفقود لدى الجانب العربي هو الإرادة السياسية في المواجهة والتصدي وعقم السياسات المتبعة. ومع ان الأنظمة العربية على امتداد الصراع الطويل مع إسرائيل رفعت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" وأولوية التصدي للقضية الفلسطينية باعتبارها محور الصراع في المنطقة، غير أنه تحت هذا الشعار تمت مصادرة حقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية ومارست الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تضخمت ونمت بصورة سرطانية هيمنتها المطلقة وابتلع المجتمع السياسي الدولة المجتمع المدني والأهلي أو منعت تشكله بصورة مستقلة وطبيعية ووقفت وراء ذلك الطبقات والفئات القديمة التي استعادت مواقعها بالتحالف مع الفئات والشرائح الجديدة الكمبرادورية حيث أصبحت في موقع القرار السياسي والاقتصادي ضمن العلاقات الأبوية القديمة المستحدثة وفقاً لهشام شرابي والعلاقات العمودية الرأسية السائدة التي اخترقت كل مفاصل المجتمع وعلى المستويات كافة وترافق معه فشل أنماط التنمية وتراجع الأداء الاقتصادي وغلبه الطابع الريعي الطفيلي المستند إلى تصدير المواد الخام أو العمالة وتحويلاتهم النقدية وإلى استجداء القروض وتشجيع نشاط رأس المال الأجنبي الباحث عن الربح السهل والسريع والمضمون وهو ما أدى إلى تآكل شرعية الدولة العربية في ظل استفحال الاستبداد السياسي واستشراء الفساد. يجري هذا كله في ظل اختراقات أميركية عميقة لعموم المنطقة وعلى المستويات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وتجاهل مصالح العرب وقضاياهم المصيرية بما في ذلك مصالح حلفائها وأصدقائها في المنطقة مع استمرار سياسة الهيمنة وغطرسة القوة والإملاء والابتزاز التي تمارسها اسرائيل ازاء جميع البلدان والشعوب العربية. الانتصار اللبناني ولد لدى الانسان العربي المحبط والمهمش شحنة من الأمل بامكانية استعادة الثقة بالنفس واستحضار الارادة السياسية المفقودة وتغليب المصلحة القومية المشتركة من خلال التضامن والتنسيق العربي ولو على قاعدة "الحد الأدنى" وبما يستجيب للمصالح العليا العربية والمصير الوطني / القومي في أن وهو ما يتطلب اصلاح وتجديد النظام الاقليمي العربي وتجديد مؤسساته البيروقراطية بما في ذلك الجامعة العربية ومؤسسة القمة وآلياتها التي مضى عليها ما يزيد عن نصف قرن، وقبل كل شيء فإن الأمر الملح الآن وفي المستقبل هو الانفتاح على الشعوب وإطلاق مبادراتها وحقها المشروع في الحرية والعدالة والمساواة والعمل على ترسيخ أسس ومقومات المجتمع المدني وتطوير دور المشاركة الشعبية في صنع القرار وتطبيق أسلوب المصارحة والمكاشفة والشفافية ازاء مختلف القضايا والتحديات الداخلية والخارجية. يجب التخلي عن النظرة السلبية المسبقة والتشكيك في مغزى النصر والتحرير انطلاقاً من فهم ضيق ورؤية قاصرة وسطحية تنطلق من مخاوف فئوية. يجب الحكم على أي حركة أو ظاهرة ليس من خلال الاطار والمنطلقات العامة التي تحكمها فقط بل من خلال المواقف السياسية والممارسة العملية وأسلوب التعاطي مع كافة القضايا وهو الأمر الرئيسي والجوهري. لا يحتاج لبنان إلى التهاني والتمنيات الطيبة رغم أهميتها المعنوية واما هو في أمس الحاجة إلى الدعم العملي لمساعدته على الصمود والبناء وإعادة الاعمار خصوصاً في المناطق التي جلى عنها الاحتلال وتركها مدمرة وتفتقد لكل مظاهر الحياة الاقتصادية والخدماتية والمدنية. المقاومة اللبنانية بشقيها المدني والمسلح مثلت حزمة ضوء وبارقة أمل وبقية يقين في امكانية استنهاض مكامن القوة لدى شعوب الأمة في مواجهة الجدار واقتحام الليل الطويل الحالك الظلمة وسط حالة العجز والضعف لمجمل النظام العربي. * كاتب سعودي