كلفةٌ باهظة هي تلك التي تدفعها اسرائيل من استمرار احتلالها جنوبلبنان : استنزاف عسكري يومي أثمر رقماً قياسياً من الخسائر البشرية مئة قتيل في 1997، واضطراب امني مستمر بنتيجة استهداف المقاومة للمستعمرات اليهودية في الجليل الأعلى، وفاتورة اقتصادية مكلفة لتغطية نفقات الاحتلال وتأمين احتياجات ادواته المحلية "جيش لبنانالجنوبي"، ثم تناقضات سياسية داخلية تتأجّج مع كل نكسة عسكرية، واخيراً حرجٌُ سياسي متزايد امام المجتمع الدولي …الخ. وتتعاظم صورة المأزق الاسرائيلي متى تبيّنت محدودية نتائج الاحتلال لجنوبلبنان: فالامن في تدهور مفتوح تناسباً مع استمرار الوجود العسكري الاسرائيلي في "الشريط الحدودي" وثمن الاحتلال اعلى من ثمن الانسحاب. ومع ان اسرائيل تعرف جيداً ان التفاوض مع بيروت على انسحابها من الجنوب مدعوٌ الى ان يمرّ عن طريق دمشق حتى يسوغَ أمره، ومع انها تدرك ان لاحتلالها الجنوب وظيفة سياسية اقليمية في المقام الاول جرّ لبنان الى معاهدة سلام على مثال "اتفاق 17 ايار - مايو" لعام 1983، وتحييده من الصراع العربي - الاسرائيلي لحرمان سورية من آخر مواقع وجبهات المواجهة، الا انها باتت تبدي الاستعداد - على اكثر الانحاء صراحة - الى الانسحاب بغير ثمن مُجز من حجم معاهدة سلام مثلاً، ولكن دون الاضطرار الى تقديم تنازلات كبيرة تنال من مصالحها او من مركزها الاقليمي. انها، في هذه الحال اذن، تريده انسحاباً اعلى من الهزيمة واقل من الانتحار. كيف تقبل اسرائيل بانسحاب عسكري لا تحصل منه على معاهدة سلام، وعلى تطبيع سياسي واقتصادي، مع لبنان. ما الذي يدعوها اليه دون هذا الهدف الذي انفقت عشرين عاماً من اجله منذ عملية الليطاني؟ هل في وسعها ان تسلّم بسهولة بهزيمة سياسية صارخة امام الحلقة الأضعف في السلسلة العربية. واخيراً، كيف تكون حكومة "ليكود" المتطرفة هي التي ترتضي مثل هذا التنازل الفادح عن المطالب الصهيونية في لبنان؟ سيقال - وقد قيل فعلاً - ان هدف الدولة اليهودية من اعلان قرار الانسحاب من مناطق القرار 425 في جنوبلبنان هو فكّ الصلة بين المسارين السوري واللبناني في مفاوضات التسوية على نحو يُضعف موقف دمشق ويضع بيروت تحت رحمة الاملاءات الاسرائيلية. عبّرت عن ذلك جهات سورية - او موالية لسورية - خلال وبعد لقاءات فاروق الشرع مع المسؤولين اللبنانيين في بيروت، وسوف يظل التعبير عن ذلك جارياً متى استمر العمل بقاعدة التلازم بين المسارين بوصفه صمّام الامان من الهجوم السياسي الاسرائيلي على حقوق شعوب ودول المنطقة. ومع انه من الثابت ان القرار الاسرائيلي ينطوي على اغراءٍ ما للبنان، ولو من باب انه يحرّر بيروت من احكام القرارين 242 و338 - اللذين يرهنان مستقبل اراضيها المحتلة بتسوية شاملة لأزمة "الشرق الاوسط" - ليُعيد تعريف الصراع الاسرائيلي - اللبناني على قاعدة القرار 425 الذي يطالب تل ابيب بالانسحاب من الاراضي اللبنانيةالمحتلة دون قيد او شرط…، الا ان اهداف اسرائيل على هذا الصعيد، نعني على صعيد فكّ الشراكة السورية - اللبنانية في المفاوضات، تظل عسيرة التحقيق في الظرف الراهن، بالنظر الى رسوخ العلاقة السياسية بين دمشقوبيروت بعد "اتفاق الطائف"، الامر الذي يفرض قراءة "قرار الانسحاب" بفرضية أخرى أقرب إلى التقاط ممكنات الكسب او الربح بالنسبة الى الدولة اليهودية في مسألة يبدو هامش الربح الاقليمي فيها اليوم ضيقاً للغاية… نميل الى الاعتقاد بأن القرار الاسرائيلي بتطبيق التوصية ال 425 - أو التفاوض على تطبيقها - على علاقة بالمأزق الامني الذي توجد فيه اسرائيل جراء احتلالها العسكري للجنوباللبناني، وتعرض قواتها لنزيف يومي من المقاومة. وهو نزيف لم تنفع معه العمليات العسكرية الضخمة التي نفذها الجيش الاسرائيلي في الاجتياحات المتكررة سنوات 1978 و1982 و1993 و1996 للجنوب وللعمق اللبنانيين ، ولا الدروع البشرية اللبنانية المحلية العميلة ميليشيات سعد حداد ثم انطوان لحد، ولا المراقبة المباشرة للمناطق المحتلة من الجنوب والبقاع الغربي. تريد اسرائيل - بالعربي الفصيح - ان تقوم السلطة اللبنانية بتأدية الدور الذي عجزت، هي وجيشها المحلي العميل، عن القيام به: ضرب المقاومة، وحماية الأمن "القومي" للدولة اليهودية من ضربات موجعة غير قابلة للاستئصال. الصفقة تقضي اذن بانسحاب اسرائيل من الجنوب مقابل التزام السلطة اللبنانية ببسط سيطرتها الامنية على المنطقة. ولو تركنا جانباً لغة التهذيب نقول: ان الصفقة تقضي بالانسحاب مقابل الصدام مع "حزب الله" ونزع سلاحه، على مثال تلك التي ابرمتها مع سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، وكان من نتيجتها وقف الانتفاضة والصدام مع "حماس"! غير ان المسألة تعني في لبنان اكثر مما تعنيه في مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني: حرباً مثلثة الجبهات: حرباً اهلية لا يتحملها لبنان، وحرباً مع سورية لا يريدها، ثم حرباً مع ايران لا يقوى عليها!