التقيت بعادل الغضبان للمرة الأولى في مكتبة المعارف في مبناها القديم في شارع الفجالة في القاهرة قبل أن تنتقل إلى مبناها الجديد على كورنيش النيل في حي ماسبيرو حيث صارت تعرف بدار المعارف، وحيث اتخذت لها شعاراً هو "اطلب المعارف من دار المعارف". وكان الغضبان وقتها - في حدود عام 1944 - شاباً يزاول في الدار عملاً كتابياً مع زميل له اسمه يوسف شحاتة دفعه طموحه إلى الاستقلال بدار اطلق عليها اسم "دار العالم العربي" وأصدر عنها مجلة شهرية عنوانها "العالم العربي"، ولكن الداء العضال اقتضب عمره، وآلت ملكية الدار إلى شريك له. أما عادل الغضبان فارتبط طوال عمره ومنذ عام 1941 بدار المعارف وصارت الدار تعرف بأكبر علمين في صناعة النشر، هما شفيق متري ت 1994 نجل نجيب متري مؤسس الدار، وعادل الغضبان، وهو افقه من عرفته دور النشر بالقيمة الحقيقية للمؤلفات والمصنفات أياً كان موضوعها. كان عادل الغضبان في مقتبل عمره شاباً جميل الصورة، طلق المحيا، رخيم الصوت، عذب اللسان، يلقاك بكثير من الود، ويرحب بك في مكتبه المتواضع قبل أن تصبح الفخامة سمة من السمات الجوهرية في المكاتب، وقبل أن يصبح "الديكور" لازمة من لوازم الابهة والوجاهة. وسرعان ما اكتشف شفيق متري، صاحب الدار، ان لعادل الغضبان من كفاءاته المتعددة، ومن فضائله الحلقية الكثار ما يرشحه لأكبر من هذه الوظيفة المكتبية، فاختاره مشرفاً ثقافياً على مطبوعات الدار في عهدها الذي أصبح بفضله عهداً زاهراً، وصار صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير ما تنشره الدار من الكتب بموضوعاتها المتباينة، بما في ذلك كتب التراث الضخام بأجزائها التي تُربي أحياناً على العشرين. ومن التخرصات المستهجنة ما كنت قرأته لزيد من الناس - وقد نسيت اسمه الآن - زاعماً ان عادل الغضبان كان مجرد عامل في مطبعة دار المعارف، ويبدو ان النجاح يورث الحقد ويغري الحاسدين واللئام بالافتئات على الحقائق، وما أصدق ما وصفهم به الشاعر المهجري الياس فرحات 1893-1976 حيث قال: وإذا الكريم مدحته بقصيدة قرأ اللئيم الذم في أبياتها أما المرة الأخيرة التي رأيت فيها عادل الغضبان فكانت بالقرب من دار المعارف في مقرها الجديد، وكان قد اصيب في العصب السادس مما شوه وجهه، كما كان يتحامل على نفسه في المشي وهو يهم بركوب سيارته، فلم أشأ ان اعترض سبيله خشية ألا يتمكن من الاحتفاظ بتوازنه، وكانت هذه إمارات مرض الفالج الذي ابتلي به في شيخوخته المبكرة، وعجبت له وهو في هذه الحال التي تبعث على الرثاء يواصل عمله في الدار أداءً للواجب المترتب عليه، فالبدن عليل ولكن الذهن يقظ، فليغالب المرض ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. يقول عادل حكمت الغضبان - وهذا هو اسمه الكامل - إنه ولد في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني نوفمبر عام 1905 بالتقويم الرومي الذي يقابل عام 1908 بالتقويم الميلادي، وذلك في مدينة مرسين التي كانت وقتها تابعة لمحافظة حلب قبل أن تستولي عليها تركيا. وكان والده ضابطاً في الجيش التركي. والتحق في بادئ الأمر بمدرسة ابتدائية في حلب، قبل أن تنزح اسرته إلى مصر وهو ما زال صبياً، وفيها الحق بمدرسة العائلة المقدسة الجزويت في القاهرة التي كانت قلعة للغتين العربية والفرنسية بفضل مديرها الاب جبرائيل العقيقي، فأظهر عادل الغضبان تفوقاً واضحاً في اللغتين، حتى إذا ما ظفر بشهادة البكالوريا عيّنه الاب العقيقي مدرساً للغة العربية في المدرسة ولا سيما لأن عادل الغضبان لم يكن يقنع طوال سني الدراسة بمتابعة المقررات، بل كان يطالع كذلك أمهات الكتب العربية ودواوين الشعراء، وشرع في هذه السن الصغيرة في نظم الشعر على سُنّة الخليل بن أحمد. وكان التفرغ للتدريس يقتضيه بذل جهود تتصل حتى بعد انتهاء اليوم المدرسي، ولهذا ارتضى الانتقال إلى وظيفة متواضعة في سكة الحديد المصرية واسند إليه فيها عمل الترجمة. وكانت مصر في ذلك الوقت خاضعة للاستعمار البريطاني الذي انشأ محاكم مختلطة كي يحاكم أمامها الأجانب المتمتعون بامتيازات تحميهم من المثول أمام المحاكم المصرية والقضاة المصريين، وهي محاكم ألغيت في ما بعد عند إلغاء الامتيازات الأجنبية في عام 1936. فالتحق عادل الغضبان بهذه المحاكم مترجماً بفضل إجادته للغتين العربية والفرنسية، وكان قد تابع دروساً في القانون في مدرسة الحقوق الفرنسية للتضلع من المصطلحات القانونية. وبعد حلّ المحاكم المختلطة، التحق عادل الغضبان بدار المعارف التي أصبحت كل دنياه، والتي اقترن اسمه بها وبكل ما حققته من سمعة ضخمة على الصعيدين العربي والعالمي إلى أن تقاعد تحت وطأة المرض، ولقي وجه ربه في الحادي عشر من كانون الأول ديسمبر 1972. أما مآثر عادل الغضبان في دار المعارف فكثيرة، فهو صاحب فكرة إصدار السلاسل المختلفة مثل "اقرأ" و"نوابغ الفكر العربي" و"نوابغ الفكر الغربي" و"أعلام التاريخ" و"ذخائر العرب" و"أولادنا"، وكذلك فكرة إصدار مجلة "سندباد" للأطفال التي رأس تحريرها محمد سعيد العريان 1905-1964. وهو الذي رأس تحرير مجلة "الكتاب" الشهرية التي استمرت تصدر بانتظام منذ عددها الأول في تشرين الثاني نوفمبر 1945 وإلى آخر أعدادها في عام 1953. ومن المصادفات التي لا أحاول تعليلها ان جميع مجلاتنا الأدبية ك"المقتطف" و"الرسالة" و"الثقافة" و"الكاتب المصري" و"الكتاب" و"مجلة علم النفس" كانت على موعد مع عام 1952 أو بعده بقليل، فاحتجبت جميعاً في هذا التوقيت الملغز! وكان الاشراف على كل ما تنشره الدار يقتضيه أن يطالع بنفسه على كل نص يقدم للنشر، سواء اجيز أو لم يُجز، فجاء هذا كله على حساب الطاقة الأدبية للغضبان نفسه، إذ كان يقول لي إنه يفضل نشر كتب الآخرين على نشر كتبه الخاصة، ولهذا قل انتاجه الادبي المنشور، وبقي انتاج كثير مخطوطاً. ومن كتبه المنشورة كتاب "الشيخ نجيب الحداد" وقصة "ليلى العفيفة" ومسرحية "أحمس الأول" وملحمة "من وحي الاسكندرية" وهي ملحمة من نفس البحر والوزن والقافية وقعت في 187 بيتاً سجل فيها تاريخ الاسكندرية منذ عهد منشئها الاسكندر المقدوني وحتى العهد الحالي. كما ترجم مجموعة من الكتب مثل "الزئبقة السوداء" و"دون كيشوت" و"الأميرة والفقير" و"تربية البنات" من تأليف فينلون. وأصدر كتباً للأطفال والناشئة، كما ألف كتباً مدرسية في اصول النحو والصرف مع زميله فايد العمروسي ت 1976. وخلّف ديواناً مخطوطاً سماه "قيثارة العمر" لم ينشر حتى اليوم، وكنت أحثه على نشره في حياته خشية ضياعه، ولكنه كان يعتذر بقوله إن مهامه الأدبية الجسام تحدوه إلى ارجاء ذلك. وفي عام 1968، وكانت انكشاريات الحياة قد صيّرتني بلا عمل - أسر إليّ الغضبان بأنه في حاجة ماسة إلى مساعد يحمل عنه بعض أعباء عمله، وزيّن لي أن أتقدم بطلب إلى مدير الدار وكانت قد خضعت للتأميم للعمل فيها قائلاً إنه سيزكي هذا الطلب. ولكن مدير الدار وكان يعرفني من سنوات طويلة أجابني بأنه سينظر في طلبي عندما تنفذ الدار مشروعاتها التوسعية! ولهذا قبلت أول عرض جاءني من خارج مصر، وسافرت من دون ان انتظر مشروعاته التوسعية. كان عادل الغضبان مشاركاً بكثافة في الأنشطة الثقافية، وكان يدعوني دائماً لحضور ما يلقيه من محاضرات، وهي متعة كنت أحرص عليها وعلى الاستزادة منها، لأنه محاضر من الطراز الأول، يحترم نفسه ويحترم سامعيه، فيجتهد في تقديم دراسات عميقة لكل موضوع ينبري لبحثه، وكان إلقاؤه يشد السامعين فلا يستشعرون مللاً، حتى وإن كان المستمعون من السيدات الأوانس، وفي اسلوبه شاعرية تستهوي عشاق اللغة. ولا غرو أن يقول عباس محمود العقاد 1889-1964 عن عادل الغضبان: "إني لاعجب لهذا الشاعر خريج الجزويت الذي يملك ديباجة عربية قل أن يملكها خريج الأزهر"، ونقل محمد عبدالغني حسن 1907-1985 عن شيخ العروبة أحمد زكي باشا 1860-1934 قوله بعدما اصغي إلى محاضرة للغضبان حلل فيها مسرحية "مجنون ليلى" للشاعر أحمد شوقي 1869-1932 "والله لو سمعت المحاضر من وراء حجاب، لما شككت قط في أنه أحد شيوخ الأزهر العظام". وكان عادل الغضبان ينتدب نفسه لتكريم كل أديب يزور مصر، وقد شهدت في بيته الأنيق وكان وقتها مواجهاً لبيتي حفلات أقامها لتكريم الشاعر المهجري رشيد سليم الخوري الملقب بالشاعر القروي 1887-1984 والشاعر المهجري الياس فرحات والأديب المهجري نظير زيتون 1896-1967 وأيضاً اثنين من "بلدياته" في حلب هما سامي الكيالي 1898-1973 صاحب مجلة "الحديث"، وعبدالله يوركي حلاق 1911-1996 صاحب مجلة "الضاد". أما خزانة الكتب الخاصة بعادل الغضبان فقد كانت بدعاً في تنسيقها، إذ كان يجلّد الكتب تجليداً فاخراً بألوان تختلف باختلاف موضوع كل كتاب، فالدواوين والدراسات الشعرية تجلد بلون، وكتب التراث بلون اخر، وكتب الدراسات الأدبية بلون ثالث، وكتب العلوم بلون رابع، وهلم جرا. وكان اعتزازه بهذه الخزانة كبيراً، ولهذا أهدتها زوجته المتفرنسة السيدة ايفون بعد وفاته إلى إحدى الجمعيات الثقافية الخاصة مع التوصية بالابقاء عليها كوحدة واحدة، فلم يكن للغضبان ولد يحمل اسمه ويستبقي آثاره. ولأن ديوان عادل الغضبان بقي مخطوطاً، وتناثرت قصائده في مجلات العالم العربي، فإن كثيراً من دارسي الشعر يغفلون الإشارة إليه، مع أنه كان شاعراً متمكن الأداة متين الديباجة حلو المعاني. وعندما زرت مدينة حلب الشهباء منذ عامين، وجدت الناس هناك يتغنون بقول عادل الغضبان في وصف مدينتهم: نُثرت على جنباتك الشهب فدعيت بالشهباء يا حلب أنت العروس أتمّ جلوتها هذا الإزار الأبيض العجب ولأن عادل الغضبان كان يتمتع بشخصية ودودة محببة جمعت حوله كثيراً من الشعراء ومحبي الأدب، فقد تراءى ذلك في قصائد كثيرة اشتملت على مطارحات له مع انداده، وعلى تحية لهم في المناسبات الأدبية، وعلى تذكير بفضلهم في مناسبات التكريم والتأبين على حد سواء، فضلاً عن المعارضات التي كانت تتحدى شاعريته فيستجيب لها مسخراً هذه الشاعرية الخصبة في خوض هذا السباق. ومن قبيل التمثيل على هذه المعارضات، اذكر ان الشاعر المهجري جورج صيدح 1893-1978، وقد هزته فجيعة النكبة النكباء في عام 1967، قرأ مقالاً لكاتب عنوانه "واشكيباه" قال فيه: أين شكيب ارسلان …1869-1946 يطلق الصرخات، فتتألف على صوته الشعوب الاسلامية"، فنظم قصيدة متفجرة مطلعها: رممٌ نحن، دَعْ شكيباً وهمّه قاصف الرعد لا يحرّك رمّه وختمها بقوله: يا حقوق الإنسان لا تشملينا نحن قوم نبيع حقاً بلقمة ولم يكد عادل الغضبان يتلقى صورةً من هذه القصيدة من صديقه صيدح، حتى عارضها بقصيدة طويلة من نفس البحر والوزن والقافية والعنوان أيضاً، مطلعها: صيدح الأيل، تلك أغرب نغمهْ سامت العُربْ تهمة أي تهمه وأحالتهمو عظاماً رميماً غطتّ الأرض رمّةً جنب رمّه وختمها بروح متفائلة حيث قال: فغداً تنعم البلاد بعهدٍ تشرق الشمس فيه من بعد ظُلمه وللغضبان معارضات كثيرة ستظل مجهولة إلى أن يتأتى لديوانه المخطوط الموسوم "قيثارة العمر" أن ينشر بعدما يضاف إليه ما تناثر من شعره في بطون المجلات المصرية والعربية. وإذا كان الشاعر قد حمل اسم "الغضبان" فقد كانت هذه الصفة أبعد ما تكون عن حقيقته، إذ كان رضيّ النفس، محبب الشخصية، إنساني النزعة، كثير المجاملات، مقبلاً على الناس وعلى الدنيا، ولا ريب في أنه كان من أعظم حرّاس الضاد، يذب المخاطر عن حصونها وينشر على الناس مفاتنها ويرفع دائماً ألوية القيم العربية الأصيلة. * كاتب مصري