عددت الى عشرة وعشرين ومئة، وانتظرت أياماً، قبل أن أكتب عن اجتماع وزراء خارجية دول "إعلان دمشق" في القاهرة الأسبوع الماضي. في هذا الاجتماع السابع عشر للوزراء الثمانية، أبدى الوزراء مرة أخرى "تعاطفهم مع معاناة الشعب العراقي الشقيق"، وطالبوا الحكومة العراقية بتحمل مسؤولياتها لرفع هذه المعاناة، كما دعوا العراق الى تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصاً الإفراج عن الأسرى والمحتجزين من دولة الكويت والمملكة العربية السعودية. في اليوم السابق كان وزراء مجلس التعاون الخليجي في اجتماعهم الخامس والسبعين قالوا الكلام نفسه بتفعيل أكبر، ولعل الجامعة العربية في اجتماعها الألف أو الألفين قالت شيئاً مماثلاً. كان الوزراء في اجتماعهم السابق، أي السادس عشر، في الدوحة في 11 و12 تشرين الثاني نوفمبر 1998 عبروا "عن تعاطفهم مع معاناة شعب العراق الشقيق التي تتحمل مسؤوليتها الحكومة العراقية". وأكدوا "ضرورة التزام العراق بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، باحتلال دولة الكويت، وبخاصة ما يتعلق منها بالإفراج عن...". ووجدت الكلمات نفسها في قرارات الاجتماع الرابع عشر في القاهرة في 28 و29 كانون الأول ديسمبر 1996، وفي كل اجتماع سابق حتى نص إعلان دمشق الموقع في العاصمة السورية في 6 آذار مارس 1991، والنص المعدل في 16 تموز يوليو في الكويت من السنة نفسها. هناك ثمانية رجال في مجلس وزراء "إعلان دمشق" اعتبر خمسة منهم أو ستة أصدقاء شخصيين أعتز بصداقتهم، وبعضهم تعود علاقتي به عقوداً. ومع ذلك أقول للوزراء الثمانية إنهم لم يفعلوا شيئاً لشعب العراق، وإن كلامهم في اجتماعهم السابع عشر هو كلامهم في الاجتماع السادس عشر، وفي كل اجتماع منذ قيام مجلسهم سنة 1991. كم مرة يحتاج وزراء "إعلان دمشق" أن يكرروا الكلام نفسه ليعرفوا أنه لا يفيد شيئاً، ولا يرفع المعاناة عن شعب العراق؟ لو كان الكلام هو المطلوب لكنا اكتفينا بالكلام الجميل الذي قاله سيرغي لافروف، سفير روسيا لدى الأممالمتحدة، فهو في الوقت نفسه كان يتحدث في جلسة مجلس الأمن ليل الخميس - الجمعة الماضي، وهي جلسة أقرت بالإجماع تجديد برنامج "النفط مقابل الغذاء" ستة أشهر أخرى. لافروف وقف متحدثاً ثلاث مرات في الجلسة، وانتقد العقوبات والغارات الجوية الأميركية - البريطانية على العراق، كما لم يفعل الوزراء العرب في القاهرة، وانتقد قيام ديبلوماسيين برحلات في مناطق الأكراد من شمال العراق من دون الحصول على تأشيرات من الحكومة في بغداد. وقال: "أريد أن أعرف في أي قرار محدد لمجلس الأمن تستخدم عبارة منطقة عدم تحليق، وفي أي قرار محدد يقال إن القوة يمكن أن تستخدم من الجو فوق 60 في المئة من أرض العراق". كلام السفير الروسي كان أجمل من كلام الوزراء العرب إلا أنه يلتقي معهم في عقم الكلام، فالمطلوب عمل يخرج شعب العراق من كابوس النظام، لا مجرد كلام منمّق نحن الصحافيين أساطينه، فلو كان ينفع لكنا أعدنا وحدنا العراق الى الصف العربي عزيزاً موحداً. هل تستطيع الدول العربية أن تفعل شيئاً إزاء العراق غير الكلام؟ أعتقد أنها تستطيع، وأبدأ من مسلّمة أن مأساة العراق ستستمر ما استمر صدام حسين في الحكم، وملحق هذه المسلّمة أن صدام حسين لن يخرج من العراق طوعاً. لماذا لا تخير الدول العربية، أو دول "إعلان دمشق" تحديداً، صدام حسين بين اللجوء بسلام مع أسرته كلها الى مصر، أو إعلان حرب عليه بكل الوسائل المتوافرة فتباد أسرته بل تكريت نفسها، حتى لا تبقى فيها شجرة خضراء. كان الرئيس حسني مبارك عرض في مقابلة صحافية منشورة لي معه سنة 1995 بعد لجوء حسين كامل الى الأردن، أن تستضيف مصر صدام حسين وأسرته مع ضمان حماية كاملة وعيش كريم. ومصر قادرة على مثل هذا، وهي تاريخياً وتقليدياً استضافت اللاجئين العرب، بمن فيهم صدام حسين نفسه بعد فراره إثر محاولة الاغتيال الفاشلة لعبدالكريم قاسم سنة 1959. صدام حسين يجب أن يخير بين اللجوء الكريم، وحرب عليه لا تنتهي إلا بسقوطه. هذه الحرب لا تعني حشد الجيوش، وإنما إغلاق المنافذ على العراق نهائياً، من كل بلد مجاور، ودعم المعارضة والتعاون مع الأضداد من إيران الى الولاياتالمتحدة، بل التعاون مع الشياطين لإسقاط النظام العراقي. وبقدر ما تبدو الدول العربية جادة في حربها على صدام حسين لإسقاطه، بقدر ما سيكون مستعداً لقبول الحل الآخر أي اللجوء، مع أسرته كلها الى مصر. طبعاً لو كان صدام حسين المناضل الذي يدعي لسقط على سيفه منتحراً بعد خسارته أم المعارك. إلا أنه يفضل أن يسقط الشعب العراقي كله على سيفه، قبل أن يسقط هو، لذلك فالطريقة الوحيدة لإنقاذ شعب العراق من معاناة لا ينفع "التعاطف" معها شيئاً هي أن يخير صدام حسين بين الحياة لاجئاً أو الموت. الدول العربية قادرة على أن تخيّر صدام، وأن ترغمه على الاختيار، إلا أنني لست "ابن مبارح" فأكتب لأن واجبي أن أكتب، غير أنني أعلم يقيناً أنها لن تفعل، فهي اختارت السلامة بالتعاطف مع شعب العراق ومطالبة حكومته بتنفيذ القرارات الدولية، وهو ما تفعل روسياوالولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا وكل الدول "المتعاطفة" مع شعب العراق الى درجة أن تحمي بقاء صدام حسين في الحكم. وأكمل غداً.