اذا استثنينا مصر والعراق، وحاولنا ان نقارن شعبية الرئيس حسني مبارك بشعبية الرئيس صدام حسين في العالم العربي لرجحت كفة الثاني، ذلك ان الرئيس المصري يخاطب العقل في حين يخاطب الرئيس العراقي العواطف او الغرائز. كنت في الاردن قبل اسابيع وأُتيحت لي فرصة مشاهدة التلفزيون العراقي، وكان معنياً على مدى ايام بالتضامن مع فلسطين، وسمعت صراخاً متواصلاً يصمّ الآذان ولكن لا ينفع فلسطين، فوقه كله الرئيس صدام حسين، رافعاً يده بتحية تكاد تكون هتلرية. قبل ايام، تابعت اجتماع الرئيس مبارك مع اعضاء الهيئة البرلمانية للحزب الوطني، وسمعته يتحدث بهدوء وعقل عن اوضاع مصر الداخلية، والعلاقات العربية والدولية. وفي حين ان لا مقارنة في المحتوى بين مواقف الرئيسين، فإنني ارجح ان اكثر الشارع العربي يؤيد عنتريات الرئيس العراقي التي تكاد تدمّر العراق، ويعارض عقلانية الرئيس المصري الذي يحمي مصالح بلده من دون ان يفرّط بأي من المسلّمات الوطنية. الرئيس العراقي لا يزال يعتقد انه يستطيع كسر العقوبات على العراق. وقد قلت في السابق، وأكرر اليوم، انني شخصياً اتمنى ان يكسر العقوبات، وان يهزم الولاياتالمتحدة هزيمة مدوية، الا انني اعرف انه لا يستطيع، واعرف بالتالي ان المواجهة المستمرة مع مجلس الامن الدولي ستؤدي الى إطالة معاناة شعب العراق. اعرف ايضاً ان معاناة الشعب العراقي في اسفل قائمة اهتمامات الرئيس صدام حسين، ان كانت موجودة على القائمة اصلاً، وتقارير المراقبين الدوليين تتحدث عن تشريد 805.000 من الاكراد العراقيين، او حوالى 23 في المئة منهم، وتدفق مزيد من الأسر الكردية والتركمانية المطرودة من محافظة كركوك على مراكز اللاجئين، وهناك تقرير مستقل لمنظمة مراقبة حقوق الانسان بالمعنى نفسه. الرئيس العراقي يعطي اعداءه بمثل هذه التصرفات ضد مواطنين عراقيين ذخيرة اضافية ضده، والنتيجة ان العقوبات الدولية التي خُفّفت مرة بعد مرة لن تُرفع مهما كان وضع سوق النفط العالمية، فهناك حدّ ادنى منها سيظل مفروضاً طالما ان النظام العراقي لا يستقبل المفتشين الدوليين، وطالما ان الولاياتالمتحدة تملك حق النقض الفيتو في مجلس الامن. اما ان يحصل العراق على 40 سنتاً عن كل برميل نفط او لا يحصل، فهذا تفصيل صغير، لا يؤثر في بقاء العقوبات. وكان بيل كلينتون، الهارب من الجندية، وافق على عمليات عسكرية ضد العراق منذ 1992 يفوق مجموعها ما اصاب العراق خلال احتلال الكويت ايام ادارة جورج بوش الاب. والآن ومع فوز جورج بوش الابن بالرئاسة، فإن هناك حديثاً عن اكمال "المهمة" ضد صدام حسين. ومستشارة الامن القومي في الادارة القادمة، كوندوليزا رايس، قالت: "يجب ان يفهم صدام حسين انه اذا قامت ادارة لجورج بوش فهو سيعامل بجدية مطلقة". اما وزير الخارجية القادم، كولن باول، الذي كان رئيس الاركان المشتركة، وأوقف الحرب قبل اسقاط صدام حسين، فهو ربما يُقدر الآن انه أخطأ، واذا فعل فسيجد حليفاً في شخص نائب الرئيس ديك تشيني الذي كان وزير الدفاع، ويقال ان رأيه في حينه واليوم ضرورة السعي الى اسقاط الرئيس العراقي. والكلام السابق لا يعني ان ادارة بوش القادمة ستعمل لاسقاط صدام حسين، او انها اذا حاولت فستنجح. وجورج بوش الاب قال كلمة جد غلّفها بالهذر، هي انه ليس من العدل ان يصبح هو عاطلاً عن العمل، فيما لا يزال صدام حسين في وظيفته. المهم من كل هذا الا يعطي الرئيس العراقي خصومه اسلحة يستعملونها ضده، فلا يضطهد الاكراد والتركمان، لأنهم مواطنون عراقيون، ولا يستمر في رفض التفتيش الدولي، لأن العقوبات ستبقى ما استمر في عدم تنفيذ القرارات الدولية، وهذه تشمل مصير المفقودين الكويتيين وغير ذلك من قضايا تستطيع الولاياتالمتحدة استعمالها عذراً لابقاء العقوبات ما بقي مجلس الامن. للمرة الثالثة او الثلاثين، اتمنى ان يهزم الرئيس صدام حسين الولاياتالمتحدة الا انه لن يفعل، فمثل سياسته لا يستحق ان يوصف بأنه سياسة لأن هذه كانت دائماً سياسة الممكن. الرئيس مبارك يمارس سياسة الممكن بمهارة نادرة، فهو يقف امام اعضاء حزبه ويقول "ان مقاطعة السلع الاجنبية تخضع لمعيار المصلحة العامة وليس للقرارات العنترية"، ويحرم الادارة الاميركية او اي عضو صهيوني في الكونغرس العذر لانتقاد حكومته او طلب خفض المساعدات، مع ان شيخ الازهر ومفتي الديار أفتيا بمقاطعة البضائع الاسرائيلية والاميركية، وتبعهما مؤيداً وزير الاعلام السيد صفوت الشريف الذي يفترض ان ينطق باسم رئيسه. والرئيس مبارك يقول ان اسرائيل لا تهدد أمن مصر لوجود معاهدة سلام بينهما، ثم يترك وزير خارجيته يثير في كل محفل امتلاك اسرائيل اسلحة دمار شامل، ويطالب بتجريد الشرق الاوسط كله من هذه الاسلحة. وهو يدعو الى الحوار، وقد كان وراء قمة شرم الشيخ، الا انه لم يضغط على الفلسطينيين يوماً لوقف الانتفاضة. ومع هذا كله فالرئيس المصري يتحدث بنعومة، الا انه يحمل عصا غليظة عندما يكون المطروح مصلحة عربية اساسية، فهو قال ايضاً "ان السيادة الاسرائيلية على الحرم الشريف أمر محال"، وهذا جوهر انتفاضة الاقصى. الرئيس صدام حسين يقول ولا يفعل، والرئيس حسني مبارك يفعل ولا يقول، وبعض الشارع العربي مبهور بمواقف الرئيس العراقي الى درجة ألا يرى نتائجها الكارثية على الارض، في العراق والمنطقة كلها.