سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية... من "الحركة التصحيحية" الى تصفية مراكز الجنرالات . إنشاء "الجبهة الوطنية" لا يمنع أحزابها من الإنشقاقات ... وعمليات "الطليعة" الإسلامية تسابق التدخل في لبنان 2 من 3
يمكن في ضوء تطور النسق السياسي السوري، منذ الاستقلال الى اليوم، القول ان "الجبهة" كصيغة مؤسسية للمشاركة السياسية قد مثلت نوعاً من وسط ما بين النسق التعددي - التنافسي الليبيرالي الذي حكم النسق السياسي السوري منذ الاستقلال الى الانفصال باستثناء فترة الوحدة، وبين النسق الكلي لحكم الحزب الواحد او الحزب - الدولة منذ آذار/مارس 1963 الى عام 1970. ويمكن وصف النسق الجبهوي في الاطار المقارن مع هذين النسقين انه نسق تعددي تضامني، يأخذ من النسق الاول التعددية، من ناحية تعدد الاطراف المشاركة فيه، وتضامني من جهة تحالفه الذي يهدف في النهاية الى اندماج اطرافه في صيغة "التنظيم السياسي الموحد". غير ان هذه التعددية التضامنية لا تقع في اطار الفضاء الليبيرالي للديموقراطية بل في اطارٍ مرن من اطر ما سمي بالنظام الديموقراطي الشعبي في انظمة "الديموقراطية الثورية" في العالم، التي تقوم على الدور القيادي المركزي لحزب يقود جبهة وطنية. "الجبهة"... وانشقاقات أطرافها ويعود التفكير في "الجبهة" الى الايام الاولى لحركة 8 آذار 1963، حيث تشكل الوفد السوري الى محادثات ما سيعرف ب"ميثاق 17 نيسان أبريل 1963"، بوصفه وفد جبهة قومية ما بين المنظمات الوحدودية التي عارضت الانفصال، وساهمت في اسقاطه البعث، حركة الوحدويين الاشتراكيين، الجبهة العربية المتحدة، حركة القوميين العرب. الا ان هذه الجبهة كانت اسمية، فاحتكر البعث السلطة إثر حركة 18 تموز يوليو 1963 الناصرية التي وضعت جداراً دموياً ما بينه وبين الناصريين. وخلال المرحلة الشباطية عارضت قيادة صلاح جديد تشكيل جبهة معترف بأطرافها، الا انها مثلت الوحدويين الاشتراكيين والحزب الشيوعي السوري كعناصر "تقدمية" في الحكومة. وكان الضغط لتشكيلها يصدر عن معارضي تلك القيادة، وفي مقدمهم حزب الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة جمال الاتاسي الذي رأى ان "الجبهة" ما بين الناصريين والبعثيين والشيوعيين والاشتراكيين، بشكلٍ اساسي، هي طريق بناء "الحركة العربية الواحدة" التي دعا عبدالناصر في عام 1963 الى تشكيلها. وقد تخطى الاتاسي في ذلك المنظور الناصري التقليدي الذي يرى الحركة العربية الواحدة مقتصرة على الاطراف الناصرية. لم تصبح هذه الفكرة ممكنة التنفيذ الا مع وصول الاسد الى السلطة في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970. وكان للأسد صلات وثيقة سابقة مع معظم اطرافها إبان "أزمة الحزب". من هنا تشكلت لجنة "ميثاق الجبهة" في 22 ايار مايو 1971 بشكلٍ اساسي من ممثلي الاحزاب الخمسة. وكانت المحادثات صعبة ومعقدة ما بين اطرافها، الا انها افضت، في ضوء استعجال الرئىس، الى توقيع الاحزاب الخمسة في 7 آذار 1972 على ميثاقها الذي ينص على اعتبار الجبهة قيادة سياسية عليا تقر مسائل السلم والحرب، والخطط الخمسية، وترسخ اسس "النظام الديموقراطية الشعبي"، وتقود التوجيه السياسي العام. كما نص على قيادة البعث لها من خلال تمثيله للأكثرية فيها النصف " واحد، واحتكار العمل السياسي في قطاعي الطلاب والجيش، وان يكون "منهاج الحزب ومقررات مؤتمراته موجهاً اساسياً لها في رسم سياستها العامة وتنفيذ خططها". على ما جاء في "ميثاق" الجبهة الوطنية التقدمية. عكست "الجبهة" يومئذ نوعية الثقافة السياسية المهيمنة على وعي النخبة السورية. فكانت هذه الثقافة انقلابية راديكالية وشعبوية، او بمفهومها عن نفسها "ديموقراطية شعبية". من هنا لم يتم معارضتها انطلاقاً من مفاهيم ديموقراطية مقابلة او نقيضة، بل من مواقع ايديولوجية يسارية، او من مواقع التحفظ على مزايا البعث القيادية فيها. فقد صوَّت اعضاء اللجنة المركزية لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي جمال الاتاسي على المشاركة فيها بأغلبية صوت واحد عن عبدالمجيد منجونه تحفظاً على تلك المزايا، وليس على مفهوم الجبهة نفسه. وتصدرت هذه المعارضة كتلة راديكالية ناصرية سرية في اللجنة المركزية، تتعارف في ما بينها على التسمي ب"الجهاز السياسي" الذي كان له ثلاثة مندوبين سريين. في اللجنة المركزية" ما شكل احد عوامل فصل هذه الكتلة من الحزب اينما عرف كوادرها عن مخلص الصيادي. كما صوتت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش على المشاركة في الجبهة بأغلبية عشرة اصوات في مقابل خمسة وصدرت المعارضة عن كتلة راديكالية يسارية مسيطرة على المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري يومئذ، سبق لها ان عارضت في 21 تشرين الثاني 1970 المشاركة في الحكومة، على رغم عدم ممانعة السوفيات. من هنا اصرت هذه الكتلة على ان ينص قرار اللجنة المركزية المشاركة في الجبهة على عبارة "رغم ان النظام الحالي هو على يمين النظام السابق" عن محمد سيد رصاص ورياض الترك. ويفسر ذلك ان جناح بكداش في الحزب قد وصف إبان انفجار ازمته مع جناح رياض الترك في 3 نيسان 1972 هذه الكتلة القوية ب"الكتلة الانتهازية المغامرة". وعلى حد تعبير جناح بكداش: "عندما وقعت الازمة في حزب البعث في تشرين الثاني 1970... وعندما وضعت امام الحزب مسألة الاشتراك في الحكومة... بذلت تلك الكتلة المغامرة جهداً مستميتاً لمنع ذلك، وصوتت ضد الاشتراك في الحكم... وفي الوقت الذي اعلن في البلاد قيام جبهة وطنية تقدمية، والتي ظل حزبنا سنوات يطالب بها، اخذت عناصر من هذه الكتلة لا ترى في الجبهة اية ناحية ايجابية، وتبالغ في سلبية بعض القضايا الواردة في الميثاق، وتصف التوقيع على الميثاق بأنه توقيع على تسليم الحزب وتصفيته...". وتكمن المفارقة هنا في ان الكوادر البعثية اليسارية كانت اقرب الى معارضي بكداش الراديكاليين مع انهم معارضون فعلياً للتحالف مع حزبهم منها الى جناح بكداش، مع انه متحالف معهم. وقد تم ذلك بالطبع لأسباب ايديولوجية يسارية اكثر من اي اسباب اخرى. وإثر اكتمال الانقسام في الحزب الشيوعي السوري، عقد المعارضون الراديكاليون مؤتمرهم في اواخر عام 1973، وعرفوا باسم الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، بذلك اصبح هناك حزبان شيوعيان في الجبهة يحملان الاسم نفسه. وتفادى جناح المكتب السياسي بقيادة رياض الترك الخروج من الجبهة في هذه الفترة، وأبقى علاقات فاترة معها تحاشياً للمواجهة مع السلطة. اما حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الذي سبق له ان فصل من صفوفه كتلة "الجهاز السياسي"، الراديكالية والديناميكية التي عارضت المشاركة في الجبهة، فإنه واجه بعد طرح "الدستور الدائم" على الاستفتاء معارضة اكبر للاستمرار فيها. وانصبت المعارضة ليس على الجبهة ذاتها بل على المادة الثامنة في مشروع الدستور التي تنص على ان "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة اهداف الامة العربية". من هنا عقد الحزب في ايار 1973 مؤتمره العام السادس، وقرر بالأغلبية الانسحاب من "الجبهة". الا ان معارضي الانسحاب رفضوا القرار، واستمروا بقيادة فوزي الكيالي بتمثيل الحزب في الجبهة. وبذلك بات هناك حزبان ناصريان يحملان الاسم نفسه، اولهما في المعارضة وثانيهما في الجبهة. فواجهت الجبهة الفتية اول الشروخات التي توضح في ما بعد انها كانت اخطرها. الكتلة الاخوانية الراديكالية اذا كان خروج حزب الاتحاد الاشتراكي العربي من "الجبهة" قد ارتبط بمعارضة المادة الثامنة التي تعطي البعث مزايا قيادة الدولة والمجتمع، فإن المعارضة اليمينية للدستور ارتبطت بمعارضة الفقرة الاولى من المادة الثالثة التي لا تنص على دين رئىس الدولة. وقد صدرت هذه المعارضة عن كوادر الصف الثاني الراديكالية في تنظيم الاخوان المسلمين، التي اعتبرت نفسها في سياق انشقاق التنظيم الاخواني السوري الى ثلاثة تنظيمات منذ اواخر عام 1969 إثر الخلاف حول بناء قاعدة فدائية اخوانية تحت راية "فتح" في الاردن على ما جاء في عمل عبدالله ابو عزة: "مع الحركة الاسلامية في الدول العربية" محور الشرعية والوحدة في كامل التنظيم السوري. وقد اختارت هذه الكوادر استثمار المعارضة نصف الصامتة بين "العلماء" وتصعيدها، والعمل باسم "جمعية العلماء"، وليس باسم جماعة الاخوان المسلمين، بهدف اضفاء طابع وطني على تحريكها يجذب "الناصريين والاشتراكيين وحتى مجموعة صلاح جديد وكل الناقمين" سعيد حوى الى المعارضة. وهو ما حدث نسبياً اذ انخرط الناصريون الاتحاد الاشتراكي العربي - جناح اللواء المتقاعد محمد الجراح وقسم من الاشتراكيين العرب جناح اكرم الحوراني في الاضطرابات انخراطاً نشيطاً، فصدرت دعوة الاضراب في حماه عنهم وليس عن الاخوان. وطوَّق الاسد التحرك الذي اخذ شكل اضطرابات حين طلب من مجلس الشعب تعديل المادة بشكل نص على ان دين رئىس الدولة هو الاسلام. فتفكك التحالف ما بين "الاخوان و"العلماء" الذين انتهت مهمتهم. الا ان الكوادر الاخوانية الراديكالية التي اعتقل بعض رموزها توارت تحت الارض بقيادة مروان حديد 1934-1976 الذي سبق ان حكم عليه بالاعدام في عصيان حماة 1964. وقد اسس حديد تنظيماً "طليعياً" داخل الاخوان، ومستقلاً عن قيادتهم، تعارف كوادره في ما بينهم على التسمي ب"الطليعة المقاتلة لحزب الله". ووجه حديد من مخبأه السري رسالة "عمل" الى العلماء والشخصيات والجماعات الاسلامية يعرِّض فيها بالقيادة التقليدية الاخوانية التي حولت الجماعة الى تنظيم دعوى صرف، ويدعو الى اعلان "الجهاد" ضد السلطة "الكافرة"، واعتباره "فرض عين على كل مسلم ومسلمة". أما القيادة التقليدية الاخوانية التي كانت تتبنى يومئذ منهجاً "معتدلاً"، وتهيئ نفسها حتى لخوض اول انتخابات لمجلس الشعب في سورية، فقد قامت بفصل مروان حديد مع بعض الكوادر الاخرى مثل عدنان عقلة وزهير زقلوطة، وهددت بفصل كل من يثبت له علاقة به. وبموت مروان حديد في مشفى السجن، عام 1976، اصبح ل"الطليعة" "شهيدها" الاول. وبذلك تشكلت اخطر كتلة يمينية راديكالية معارضة للبعث. إعادة تنظيم الحزب تبدأ المرحلة الثانية 1975-1985 فعلياً بالتدخل العسكري السوري في الاول من حزيران يونيو 1976 وتنتهي بسحق المعارضة الاسلامية المسلحة نهائياً وتجميد عملياتها في اوائل عام 1985. وسنبحث هذه المرحلة تبعاً لعلاقتها بموضوع البحث وفق المحاور الآتية: 1- الحجم التنظيمي للحزب ونوعيته: اتبع الحزب خلال هذه المرحلة نوعاً من سياسة "تبعيث"، هي الوجه السياسي التقليدي لنمط التخطيط المركزي الشامل. اذ قرر بناء ما سماه ب"الجيل العقائدي"، باستيعاب 100 في المئة في طلاب المرحلة الاعدادية، و80 في المئة من طلاب المرحلة الثانوية في منظمته التربوية السياسية الرديفة لمنظمة "اتحاد شبيبة الثورة". وعمل طرداً مع تنامي المعارضتين اليمينية واليسارية، اثر التدخل العسكري السوري في الاول من حزيران 1976 في لبنان، الى "فرز كل العناصر السياسية والمعادية لفكر الحزب ومواقفه وابعادها عن قطاع التربية بالصيغة التي تراها القيادة لخطورة اثرها على مسألة بناء العقائدي" التقرير التنظيمي للمؤتمر القطري السابع. وقد شمل الفرز فيمن شمل المدرسين المحسوبين على الاسلاميين والشيوعيين "الجبهويين" في آن واحد، بقدر ما وسع الحزب "دائرة الاستيعاب لتشمل كل الحياديين المؤهلين لعضوية الحزب"، وجعل عام 1978 "عام النصير" في الحزب. وكانت نسبة التزام "الانصار" حضور الاجتماعات، بتأثير الاستيعاب "الاعتباطي"، متدنية الى 40 في المئة. وراوحت نسبة حضور الاعضاء العاملين بين 75-90 في المئة، وفق التقديرات الحزبية الرسمية. وعلى رغم ان الفوارق قد باتت، من الناحية الفعلية، محدودة ما بين الاعضاء العاملين والانصار، باستثناء حق الترشح والانتخاب الحزبيين، فقد حاول الحزب ان يدقق نسبياً في ترفيع الاعضاء العاملين بقدر ما توسع في تنسيب الانصار. فتم في فترة 1975-1980 خفض نسبة الترفيع للعضوية العاملة الى 8،40 في المئة. وارتفع عدد الاعضاء العاملين من 22542 عضواً عاملاً، في اواخر 1975، الى حوالى 44536 عضواً عاملاً في نهاية عام 1979، وارتفع عدد الانصار خلال هذه الفترة، من 161822 نصيراً الى 237501 نصير. وبذلك وصل الحجم العام للجهاز الحزبي الى 282037 عضواً عاملاً ونصيراً. الا ان نسبة مَنْ ثقافتهم دون الثانوية العام، وفق محور البنية العلمية، كانت عالية جداً، وتصل الى 77 في المئة من مجموع الجهاز الحزبي. في حين وصلت نسبة من هم دون الاجازة الجامعية الى 13 في المئة. وهذا يعني ان التوسع قد تم اساساً بين طلاب المرحلتين الاعدادية والثانوية والعمال والفلاحين. ويفسر ذلك البنية الشابة للحزب، وفق المحور العمري. اذ وصلت نسبة من هم دون سن 25 الى 49 في المئة من مجموع الجهاز ونسبة من هم بين 25-39 الى 39 في المئة. وأدى التوسع في استيعاب الطلاب الى ارتفاع نسبتهم على النسب الاخرى من الفلاحين والعمال والموظفين. كانت نسبة الحزبيين في النقابات المهنية العلمية متدنية. ويراوح اعلاها بين الصحافيين الذي يعملون في الدولة 4،10 في المئة وادناها بين الصيادلة 4،3 في المئة. فكلما كان المواطن في سن التنسيب يعمل في مجال مستقل نسبياً عن الدولة، كانت عضويته في الحزب استثنائية، ما جعل النقابات المهنية حصناً للمعارضة اليسارية. مما لا شك فيه ان هذه المؤشرات الكمية لم تكن تعكس درجة الفاعلية للحزب، بل درجة الاستيعاب والتعبئة ومحاولة امتصاص الحقل السياسي للمجتمع. اذ برزت في الجهاز الحزبي بوضوح ظواهر اللامبالاة وضعف الشعور والمسؤولية و"امراض المجتمع الموروثة كالطائفية والعشائرية والاقليمية والعلاقات الشخصية" و"الانتهاز"، كما نمت ظاهرة لافتة هي "نقد حتى الاستراتيجية العامة للحزب"، وما سمته القيادة الحزبية في تقريرها التنظيمي نفسها ب"ضعف التربية العقائدية". وقد غير ذلك فعلياً من طبيعة الحزب كمنظمة تقوم على الوحدة الفكرية والتنظيمية والسياسية الى منظمة متعددة التيارات، من اقصى اليسار الى اقصى اليمين. فأخذت الانقسامات الحزبية تكتسب طابعاً جهوياً - كتلوياً، ذا طابع طائفي احياناً. ويمكن التمثيل على ذلك بمقطع انقسامي داخلي في الحزب، في فرع حلب خلال 1975-1980، حيث كان الانقسام قطبياً بين الكتلة الحلبية المدينية، من جهة، وبين الكتلة الفلاحية وكتلة الاعضاء العاملين القاطنين في المدينة من ابناء المدن الاخرى من جهة ثانية. في حين كان الاستقطاب في الريف ما بين حزبيي المدن الريفية النواحي والمناطق وبين ريفها المحيط بها، مخلوطاً بالضرورة بالاستقطابات العائلية والعشائرية التقليدية. وكان الاستقطاب الاساسي بين الاعضاء العاملين في فرع جامعة حلب ما بين الادلبيين مدينة ادلب والسلقينيين مدينة سلقين، مع انهم جميعاً من محافظة واحدة هي محافظة ادلب. بكلامٍ آخر تميز الانقسام الكتلوي الداخلي هنا بسمات الصراع "التقليدي" داخل النخبة، اي الصراع على السلطة بين نخب تنتمي الى اصول طبقية واحدة، لكنها تحاول اقصاء المنافسين السياسيين لها، لتحقيق مصالح معينة. ويستفاد من قطبي الانقسام الحزبي الداخلي في فرع حلب انه حاول، في بعض اللحظات، ان يموه نفسه في شكل استقطاب ما بين يمين ويسار، او ما بين تقليديين وراديكاليين. فقد كانت الكتلة المدينية الحلبية على العموم تقليدية، بقدر ما كانت الكتلة الريفية، لا سيما منها المنحدرة من مناطق الساحل ردايكالية وعصرية. ولم يكن هذا الانقسام تبعاً للكتل في القيادة القطرية منفلتة، بل كان مسيطراً عليه اذ ان طرفي الاستقطاب في فرع حلب كانا في اطار كتلة رفعت الاسد في القيادة القطرية، فانعكس الصراع ما بين كتلة رفعت الاسد وناجي جميل رئيس مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية على الانقسام الداخلي في فرع حلب، وذلك باعتقال جميل لعدد من ابرز نشطاء الكتلة التي تعتبر نفسها يسارية بدعوى صلتها ب"العقلية المناورة" اي بتنظيم صلاح جديد، في حين اعتبرت هذه الكتلة ان هذه "التهمة" قد لفقت لاضعافها ووضعها في مدار "الاتهام". وهو ما يقدم مقطعاً نموذجياً عن تعقيدات الانقسام وتداخلاته في النخبة البعثية. 2- التدخل السوري في لبنان وتبلور المعارضة: بات واضحاً للقيادة السورية، في مطلع 1975، ان الاستراتيجية الاميركية التي يديرها هنري كيسنجر وزير الخارجية الاميركي، في المنطقة، او ما سمي بديبلوماسية "الخطوة خطوة"، لا تستهدف تحقيق سلام شامل في المنطقة، بل تحقيق سلام منفرد ما بين مصر واسرائيل. من هنا حاول الاسد، منذ مطلع عام 1975، ان يعوض انهيار التحالف السوري - المصري في حرب تشرين عام 1973، بإعادة بناء موقع دمشق في محيطها الاستراتيجي الطبيعي، وهو المحيط الشامي او السوري الكبير الذي يمثل في الآن ذاته بلدان الطوق حول اسرائىل. وهو ما اعتبره البعض طموحاً سورياً لبعث مشروع سورية الكبرى. غير ان هذا الطموح - في حال وجوده - لم يتم بالتأكيد لعوامل ايديولوجية، قومية سورية معينة، بل لعوامل استراتيجية تتصل بالصراع مع اسرائيل. وهو ينسجم مع مفهوم الاسد ل"التضامن العربي"، وضرورة تجاوز الخلافات العقائدية في سبيل بناء الجبهة الشرقية، حتى مع الاردن. لذا التقى الاسد، في مطلع عام 1975، بالرئىس اللبناني سليمان فرنجية، وتم في هذا اللقاء الربط ما بين الامنين السوري واللبناني في صيغة "امن لبنان من امن سورية وامن سورية من امن لبنان". وبناء علاقات "مميزة" ما بينهما. كما عرض الاسد، في آذار 1975، وفي اليوم الذي بدأ فيه كيسنجر هندسة مفاوضات ما سيعرف ب"اتفاقية سيناء" بين مصر واسرائيل - التي ستضع سورية ومصر في محورين اقليميين سياسيين متناقضين - عرض على منظمة التحرير الفلسطينية تشكيل قيادة عسكرية - سياسية موحدة. ووقع في 10 حزيران 1975 مع الملك حسين، ملك الاردن، على تشكيل قيادة مماثلة تنسق سياسة القطرين في قضايا السلم والحرب، وتحقق التكامل ما بينهما في مختلف المجالات. وقعت الحرب الاهلية اللبنانية في اطار هذا السياق المعقد، على الشاكلة المعروفة، اثر مجزرة عين الرمانة التي ارتكبتها الميليشيا الكتائبية ضد الفلسطينيين في 13 نيسان 1975. وقد انخرطت الحركة الوطنية اللبنانية، بقيادة كمال جنبلاط، الى جانب المقاومة الفلسطينية عضوياً في هذه الحرب، وتبنت اسقاط المؤسسة المارونية نهائياً، وبناء جمهورية ثورية راديكالية في لبنان. في حين تبنت القيادة السورية "تسوية سياسية" للحرب، تضعف المؤسسة المارونية نفسها لكن من دون ان تقوضها، وتحقق للحركة الوطنية اللبنانية "95 في المئة من مطالبها" على تقدير باتريك سيل. وهو ما تم حين رعت دمشق الاعلان عن "الوثيقة الدستورية" اللبنانية، في 14 شباط 1976. غير ان الحركة الوطنية اللبنانية اعتبرت هذه الوثيقة انقاذاً للمؤسسة المارونية من السقوط الوشيك، ولجماً للطموح الراديكالي في بناء جمهورية ثورية في لبنان. فدفعت العميد عزيز الاحدب الى شق الجيش اللبناني والقيام، في 11 آذار 1976، بانقلاب عسكري ضد الرئيس سليمان فرنجية. وقامت باجتياح المعاقل "المارونية"، وحققت مكاسب عسكرية مهمة ارغمت فرنجية على الهرب من قصر بعبدا الذي بات محاصراً. وقد رد عليه العقيد انطوان بركات باعلان تشكيل "جيش لبنان"، فضلاً عن الانشقاق السابق، في كانون الثاني ديسمبر 1976، الذي قاده الملازم الاول احمد الخطيب تحت اسم "جيش لبنان العربي". وفي 27 آذار 1976 توضح، في الاجتماع العاصف ما بين الاسد وجنبلاط، ان كلاً منهما يسير في طريق متناقض مع طريق الآخر، وبات الاصطدام ما بينهما وشيكاً في الميدان. حدث هذا الاصطدام للتو حين تم التدخل العسكري السوري في الاول من حزيران يونيو 1976، وارغم الحركة الوطنية اللبنانية، بعد معارك عنيفة، على فك الحصار عن المعاقل المسيحية. وكان طرفا الحرب الاهلية مؤلفين من الحركة الوطنية و"قواتها المشتركة"، التي عرفت احياناً بالقوات اليسارية او التقدمية، ومن الجبهة اللبنانية و"قواتها اللبنانية". واثر التدخل السوري خرجت المجموعة، التي ستعرف ب"جبهة القوى القومية والوطنية" من الحركة الوطنية، الى جانب سورية. وضمت هذه المجموعة منظمة البعث، والتنظيم الناصري - اتحاد قوى الشعب العامل، والحزب السوري القومي الاجتماعي جناح الياس قنيزح، والطلائع التقدمية، وحركة المحرومين أمل وحزب رزكاري الكردي. وتبنت القيادة السورية تحليلاً للحرب يتلخص في ان هذه الحرب ليست "طبقية"، ولا "وطنية"، بل "ذات طابع طائفي بغيض"، وان استمرارها سيؤدي الى تغطية اتفاقية سيناء تم توقيعها في 1 ايلول 1975، وتقسيم لبنان واقعياً على اساس طائفي، واحتمال تدخل اسرائىل باسم "انقاذ" المسيحيين، و"استنزاف سورية والمقاومة في حرب داخلية لبنانية ليست حربهما" من التقرير السياسي الى المؤتمر القطري السابع. من هنا كان التدخل السوري "مخاطرة محسوبة"، على حد تعبير القيادة السورية نفسها، وقد احتملت في هذه "المخاطرة" ما تم فعلاً وهو "الصدام مع بعض فصائل المقاومة والاحزاب اللبنانية"، و"عدم تفهم موقف سورية في الاوساط والدول الصديقة" و"احتمال تدخل اسرائىل ونشوب الحرب الخامسة في لبنان. غير ان هذه "المخاطر" التي احتملتها كانت "مخاطر" خارجية. في حين اخذت تبرز للتو "مخاطر" داخلية. اذ ان التحليل "الطبقوي" "الثوري" للحرب الاهلية الطائفية اللبنانية كان سائداً بين "يساريي" الحزب في سورية. من هنا ليس سراً ان القيادة القطرية السورية، عشية اتخاذ قرارها بالتدخل في لبنان، قد شهدت جلسة حادة، وتضارباً بالكراسي بين الموافقين على التدخل ومعارضيه. كما انه لم يعد سراً ان احد قادة الفرق العسكرية فضَّل ترك قيادة الفرقة على الدخول بها الى لبنان. الا ان القيادة السورية اعتبرت انها تقوم ب"واجب قومي" يعلو على اي اعتبار آخر. معارضات قومية وقطرية وثمة مؤشرات كثيرة تدل على انها قد تصورت ردود فعل داخلية معينة الا انه - على ما يبدو - لم تكن قد تصورتها بالحجم الذي تمت فيه. فقد كانت معظم الاحزاب السورية تعتقد ان النظام سيسقط ان هو تدخل في لبنان محمود صادق، وتتبنى، باستثناء حزب العمال الثوري حمدي عبدالمجيد وياسين الحافظ، منظوراً طبقوياً وطنياً للحرب الطائفية اللبنانية. وكان طبيعياً، تبعاً لذلك، ان تنعكس آثار التدخل سلبياً على التنظيم القومي للحزب، وبشكل خاص على التنظيم الفلسطيني الذي شمل قطاع عمله، بعد استقلال التنظيم الاردني عنه، التجمعات الفلسطينية في سورية ولبنانوالضفة الغربية وقطاع غزة واراضي 1948. اذ تعرض هذا التنظيم بما فيه الصاعقة الى "عمليات تصفية" انتقامية على ما جاء في تقارير المؤتمر القطري الرابع للتنظيم الفلسطيني بعد صدامات 6 حزيران 1976 ما بين القوات السورية والمقاومة. واخذ يعاني "انكماش الكسب الحزبي"، ارغمه على التوجه الى ما سماه بسياسة "المحافظة على الجهاز من السقوط والتشرذم، وبشكل خاص التنظيم العسكري في جيش التحرير الفلسطيني والساحة اللبنانية التي كانت معنية بالصدام المباشر"، الى درجة "ان التنسيب بين العسكريين المتطوعين كاد ان يكون معدوماً". في حين تعرض جهازه في الضفة الغربية وقطاع غزة في الوقت نفسه الى "حملة اعتقالات واسعة" لم تنج منها الا "الخطوط المستقلة غير المرتبطة بقيادة الشعبة"، والتي تؤلف الجهاز السري المعروف ب"تنظيم طارق بن زياد". وان كان التنظيم سيستعيد قوته بعد فترة، حين اصطدمت القوات السورية بالقوى اليمينية اللبنانية، ودخلت في مواجهة قاسية مع جيوش اسرائيل والولايات المتحدة في لبنان. اما في الداخل فواجهت القيادة السورية معارضة يسارية ويمينية متصلبة في آن واحد. واخذت تواجه، منذ عام 1976، كتلة عسكرية انقلابية سرية في الجيش كان من اهمها، فضلاً عن الكتل المحسوبة على صلاح جديد و"القيادة القومية" في العراق، تنظيم "الضباط الاحرار"، وتنظيم "الطليعة العربية المقاتلة" بقيادة النقيب في سرايا الدفاع رائق النقري، الذي اشتهر بكتبه عن الايديولوجيا "الحيوية" والحرب كطريق وحيد لبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد. وهو تمكن من تجنيد عدد مهم من النقباء، وتعارفوا في ما بينهم على التسمي ب"ثورة النقباء". وتم، في عام 1976، تفكيكهم واعتقال خمسين ضابطاً منهم، لم يفرج عنهم الا عام 1982. راهنت هذه المعارضة على سقوط السلطة، بقدر ما استخدمت المفعولات التي نتجت عن التدخل كوسيلة لذلك. وهذا ما يفسر ان هذه المعارضة - وان كان تكونها يعود الى ما قبل حزيران 1976 - فقد تبلورت طرداً مع التدخل. اذ فكَّ الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي، بقيادة رياض الترك، منذ كانون الثاني 1976 تحالفه الهش مع البعث في اطار الجبهة الوطنية التقدمية، وانسحب منها، ليتبنى، فور وقوع التدخل السوري، خطاً "تصعيدياً" سياسياً في مواجهة السلطة. وواجهته معارضة حزبية داخلية تصدرها كل من يوسف نمر وصبحي انطون، وخرج الاثنان من الحزب. في حين عقدت "الحلقات الماركسية" التي كانت قد اخذت بالتكون، منذ عام 1972 في جامعتي حلب ودمشق، كحلقات يسارية جديدة غير "مسفيتة"، في آب 1976، مؤتمرها التأسيسي الاول الذي انبثقت عنه "رابطة العمل الشيوعي"، وتبنت منهج "تثوير" الاحزاب الشيوعية السورية "التقليدية". في حين بادرت الكوادر الناصرية الراديكالية التي شكلت "الجهاز السياسي" السري في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي جمال الاتاسي، وعارضت منذ آذار 1972 المشاركة في "الجبهة"، مع بعض الكوادر الناصرية الديناميكية الاخرى وبادرت الى عقد المؤتمر التأسيسي الاول في نهاية عام 1978 لتنظيمها الجديد الذي حمل اسم "التنظيم الشعبي الناصري". غير ان المعارضة الاخطر صدرت عن "الطليعة المقاتلة لحزب الله" التي شكلها مروان حديد، خلال اضطرابات الدستور عام 1973. وقد قامت بأول عملية لها في 8 شباط 1976، حين اغتالت الرائد محمد غرة رئيس فرع المخابرات العامة العسكرية في مدينة حماه رداً، في الظاهر، على مقتل بعض شبانها قبل ايام، واعتبرت لاحقاً ان هذه العملية "اول رصاصة في سبيل الله تفتح باب الجهاد المنظم" مجلة "النذير". الا ان تواتر عملياتها تم بعد التدخل السوري في لبنان. كانت الكوادر المؤسسة ل"الطليعة" نسخة اسلاموية معكوسة عن المنظمات اليسارية الجديدة الثورية التي تنتهج "الكفاح المسلح". وقد تلقت تدريبها العسكري الاول عام 1969 في قاعدة فدائية اخوانية تحت راية "فتح" في الاردن. وكانت تعتقد، وفق الشيخ عبدالفتاح ابو غدة المراقب العام السابق ل "الاخوان المسلمين" في سورية، ان "فتح" ليست الا منظمة اخوانية "ثورية" انشقت عن الاخوان المسلمين لمعارضتهم اسلوب الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، ورهنهم عملية التحرير ببناء الدولة الاسلامية. وقد كان قدر معين من هذا الفهم ل"اخوانية" "فتح" الراديكالية صحيحاً. واخذ "الكفاح المسلح" في عمليات "الطليعة" شكل اغتيالات مدروسة لشخصيات علمية وعسكرية وامنية بارزة وتبنت، خلال هذه الفترة، منهج منظمة "فدائيان اسلام" الايرانية في الاغتيالات. وقد درجت السلطة على اتهام "نظام الحكم اليميني المشبوه" في العراق، ثم "عملاء كامب ديفيد" بتنفيذها، الا انها اضطرت، إثر مجزرة مدرسة المدفعية في 16 حزيران 1979، الى اتهام الاخوان المسلمين رسمياً بالعملية، وبكل العمليات التي سبقتها. فقد اعلنت "الطليعة" مسؤوليتها عن العملية ليس باسمها الاصلي "الطليعة المقاتلة لحزب الله"، بل تحت اسم "الطليعة المقاتلة للاخوان المسلمين في سورية - كتيبة الشهيد مروان حديد"، ل"تثوير" الاخوان وزجهم في العمليات وفق قول الشيخ عبدالفتاح ابو غدة. ولم يعد اتهام "نظام الحكم اليميني" بالضلوع في العمليات المسلحة مقنعاً لأحد، اذ نفذت "الطليعة" العملية في اليوم نفسه الذي بدأت فيه محادثات الهيئة السياسية العليا المنبثقة من ميثاق العمل القومي ما بين سورية، برئاسة الرئيس حافظ الاسد، والعراق، برئاسة الرئيس احمد حسن البكر. لم يكن للتنظيم الاخواني السوري المرتبط بالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين في العالم ادنى صلة فعلية بالعملية بحسب هاشم شعبان. فقد كان منفذوها مفصولين منه. الا ان قيادته كانت قد اتخذت في نيسان 1979 قراراً سرياً ب"التعبئة والمواجهة" ضد السلطة. ف"انهال عليها المال من كل جانب سعيد حوى. وبررت ذلك باعتقالات شباط - نيسان 1979 التي يصفها حوى نفسه بأنها "ضربة صاعقة" و"قاتلة" كان "بالامكان ان تنهينا فعلاً". من هنا سرعان ما انخرط مع بقية الفصائل الاسلامية الاخرى في العمليات. ولم يكن اتهام السلطة للمعارضة الاسلامية المسلحة بالتنسيق مع الاطراف الاقليمية المعادية للأسد خالياً من الصحة. اذ نسقت هذه المعارضة علاقات وثيقة مع الاردن الذي قدم لها قاعدة لوجيستية خلفية. وتولت المخابرات المصرية تدريب الجهاز الامني للتنظيم العام عن عمر عبدالحكيم، بقدر ما اقامت "الطليعة" علاقات وثيقة مع اجهزة "فتح" الامنية، وبدءاً من حزيران 1980 مع العراق. وأدت كثافة العمليات، وتهديدها، لا سيما في اللاذقية، بانفجار طائفي مهلك - إثر اغتيال الشيخ يوسف صارم احد مشايخ الطائفة العلوية وخريج الازهر - كان يمكن ان يحقق استراتيجية "الاخوان" في اسقاط السلطة عبر شقها طائفياً، دفع القيادة السورية الى الاعتراف ب"داخلية" الازمة على رغم علاقاتها الاقليمية الخارجية. * كاتب سوري