تجذب الاستقطابات الحادة الراهنة في التنظيم السوري للإخوان المسلمين، اهتمام المتابعين لتطورات الحركة الإسلامية السورية والمعنيين بها. وتبدو هذه الاستقطابات استطراداً لصراع قديم ما بين مدرستين في الإخوان السوريين، هما المدرسة "التقليدية" التي تعمل بالوسائل السياسية والمدرسة "الراديكالية" التي تعمل بالوسائل الاعتراضية. ويكاد يكون تاريخ الجماعة تاريخ الصراع ما بين هاتين المدرستين. وقد ظهرت أولى معالم التمايز ما بينهما في انشقاق 1953 - 1954 الذي قادته الكوادر الراديكالية في قيادات الصف الثاني ضد سياسة مؤسس الجماعة في سورية وأول مراقب عام لها الدكتور مصطفى السباعي، في تحويل الجماعة من النمط التضامني ويشمل الجماعات السياسية التي ترفض النسق التعددي - التنافسي كأساس للحياة السياسية، أو تستخدم آلياته للوثوب عليه وإلغائه إلى النمط التمثيلي الذي يعمل في إطار آليات النسق التعددي ومعاييره ويشكل جزءاً منه، ومحاولته إكساب الجماعة صورة حزب ديموقراطي إسلامي على غرار الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوروبا. من هنا تمركزت موضوعات الانشقاق حول إدانة النهج الليبرالي لقيادة السباعي، وتمريرها لدستور 1950 العلماني، ودفاعها عنه بوصفه من أكثر الدساتير إسلامية. إلا أنه تمفصل مع الموضوع الأساسي للانشقاق الحاد في الجماعة المصرية حول الموقف من جمال عبدالناصر، ما بين الجناح الإخواني المصري المؤيد له والذي كان يقف على رأسه عدد من أعضاء مكتب الإرشاد وقيادات الجهاز الخاص، وبين الجناح المعارض له والذي كان يقف على رأسه المرشد العام الثاني حسن الهضيبي. ويفسر ذلك أن هذا الانشقاق في وجه من وجوهه استطراد سوري لانشقاق الجماعة المصرية. وعلى رغم أن قيادة السباعي طوقت الانشقاق، وفصلت رؤوسه، وأحبطت عملية تشكيله لجهاز خاص على غرار الجهاز المصري، فإنه عَّبر عن مدلول بعيد وهو تشكُّل أولى معالم التمايز ما بين المدرستين التقليدية السياسية والراديكالية الاعتراضية، إذ سيتعزز نفوذ المدرسة الراديكالية في الجماعة طرداً مع تآكل النسق التعددي - التنافسي "الليبرالي" كأساس للحياة السياسية ونسفه كلياً من مفاهيم التنمية السياسية. لم تقتصر المدرسة الراديكالية على مركز مدينة حماة لكنها ارتبطت به تاريخياً. من هنا لم يكن مفارقة أن يبرز التمايز ما بينها وبين المدرسة التقليدية السياسية في "عصيان حماة" نيسان/ ابريل 1964 الذي قادته الكوادر الراديكالية في مركز حماة بقيادة المهندس الزراعي وخريج الفلسفة الشيخ مروان حديد. وقد عارضت القيادة التقليدية للجماعة هذا العصيان، وتنصلت منه، وطوقت عملية امتداده إلى المحافظات، على رغم انه استمر 29 يوماً. وأعلنت أنها لا تؤمن بالوصول إلى السلطة إلا بالوسائل الديموقراطية ولو كلفها ذلك خمسمئة عام. إلا أن العصيان أسفر عن تشكيل مجموعة حديد لأول كتلة اعتراضية في "الإخوان" وشبه مستقلة ذاتياً، حملت يومئذ اسم "كتائب محمد عليه الصلاة والسلام". وقد تسبب إصرار هذه الكتلة عام 1969 على تلقي التدريب العسكري في قاعدة فدائية إخوانية تعمل تحت راية منظمة "فتح" الفلسطينية في الأردن، في تكثيف التناقضات التقليدية في الجماعة وهي التناقضات الجهوية المناطقية والجيلية والفقهية والسياسية، وانفجارها في أواخر عام 1969 لتشكل ثلاث جماعات عرفت ب "جماعة حلب" عبدالفتاح أبو غدة و "جماعة دمشق" عصام العطار و"مراكز الحياد" التي سيطرت عليها كتلة حديد الراديكالية، واعتبرت نفسها محور الشرعية والوحدة. حاولت هذه الكتلة أن تنتج نسخة راديكالية إسلامية معكوسة عن لاهوت الثورة اليساري الجديد الذي اجتاح التنظيمات السياسية بعد نكسة 1967، وقامت في عام 1973 بأخطر اختبار للقوة في أحداث الدستور في سورية. وفي الوقت الذي شاركت فيه "جماعة حلب" في انتخابات أول مجلس شعب في سورية، على خلاف داخلي، يتناول حرمة أو حل هذه المشاركة، فإن رؤوس كتلة حديد الراديكالية توارت تحت الأرض، وطرحت من مكامنها تكفير الحاكم وإعلان الجهاد المسلح ضده، وشكلت عام 1975 النواة الأولى ل "الطليعة المقاتلة لحزب الله". وانتقصت من شرعية القيادة الإخوانية المنبثقة عن انتخابات عام 1975، التي أجراها مكتب الإرشاد العام للتنظيم العالمي للإخوان، وانتخب بموجبها عدنان سعد الدين حماة مراقباً عاماً لمدة ثلاث سنوات. ما أدى بهذه القيادة عام 1976 إلى فصل بعض رؤوس كتلة "الطليعة" من الإخوان، وكان في مقدم من تم فصلهم مروان حديد نفسه وعدنان عقلة. وإثر موت حديد في مشفى السجن في عام 1976 قامت "الطليعة" بأول عملية اغتيال انتقامية له في حماة في شباط 1976. وبعيد التدخل السوري في لبنان في العام نفسه، تلقت "الطليعة" دعم أجهزة منظمة "فتح" الأمنية التي كانت على صلة بكافة المعارضين السوريين. وفي حزيران يونيو 1979 قامت "الطليعة" بمجزرة المدفعية، وأعلنت لأول مرة عن هويتها تحت اسم "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" من اجل توريط التنظيم العام للإخوان في المجابهة وزجه فيها، في سياق حدَث خلاله ما يمكننا تسميته بازدواج السلطة في التنظيم العام، إذ اخترقت الطليعة قواعده على أساس ما يعرف ب "البيعة الميدانية". لم يكن للتنظيم العام أدنى صلة بمجزرة المدفعية، من هنا نفى مسؤوليته عنها، إلا أن ما تم قبل ذلك داخل قيادته فعلياً، وفي نيسان ابريل تحديداً، هو اتخاذ قرار بالمواجهة وكان وراء ذلك بشكل أساسي المراقب العام عدنان سعد الدين، الذي اتخذه بالتنسيق التام مع الأطراف الإقليمية العربية المعادية للرئيس حافظ الأسد يومئذ، وفي مقدمها بغداد والقاهرة التي دربت لاحقاً جهازه الأمني. وقد عارض بعض القيادات الإخوانية التقليدية في الداخل هذا القرار، وغادر بعضها الآخر سورية تجنباً للتورط. وفي هذا المعنى نشأ في قيادة التنظيم العام التي كانت تاريخياً محور المدرسة السياسية التقليدية، لأول مرة، اتجاه راديكالي اعتراضي، إلا أنه يختلف عن الراديكالية "الطليعية" في أن أسسه سياسية وليست عقائدية شبه تكفيرية. من هنا وعلى رغم تورط كافة الفصائل الإسلامية السورية في ما يعرف بأزمة الثمانينات، بما فيها التنظيم العام وكتلة "الطلائع" الليبرالية الإسلامية بقيادة عصام العطار ونائبه حسن هويدي، وبعض نشطاء الجماعات الصوفية والسلفية والتبليغ والدعوة. فإن الازدواجية ما بين قيادة التنظيم العام التي أعلنت نفسها قيادة لما سمّته ب "الثورة الإسلامية" وبين "الطليعة" كانت شبه تامة لا سيما في حلب. وهو ما يفسر أن ما يسمى ب "قيادة الوفاق" كان قيادة ائتلافية ما بين الفصائل الثلاثة: التنظيم العام والطلائع والطليعة، لكن على أساس القيادة الجماعية. ولم تستمر "قيادة الوفاق" إذ احتدمت تناقضاتها وانفجرت برمتها حول موضوع التحالف الجبهوي السياسي مع البعث العراقي، وأعلنت "الطليعة" في 17 كانون الأول ديسمبر 1981 ما سمته ب "المفاصلة الكاملة والنهائية" و "التميز التام عن الإخوان المسلمين". من هنا تم فصل عدنان عقلة قائد الطليعة وأصبح خطابه هنا تكفيرياً. وكانت كارثة حماة في شباط فبراير 1982 آخر "إنجازاته" الفعلية. وفي أوائل عام 1985 انتهت "الطليعة" فعلياً، ليحتدم الصراع الحاد بدءاً من هذا العام داخل قيادة التنظيم العام بين ما سمي داخلياً ب "جناح السلم والمفاوضات" أبو غدة والمراقب العام الحالي البيانوني وب "جناح الجهاد" عدنان سعد الدين. وباعتراف التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بالجناح الأول، تم في عام 1986 فصل عدنان سعد الدين، ومأسسة الانشقاق في الإخوان السوريين، لتبدأ دورة معقدة من المفاوضات والاتصالات ما بين الإخوان والسلطة. إلا أن التجاذب وتبادل الأعضاء ما بين التنظيمين كان عملية مستمرة. وإثر استقالة أو "إقالة" الشيخ عبدالفتاح أبو غدة من منصب المراقب العام بنتيجة موقفه من حرب الخليج الثانية، دعم أنصار سعد الدين المراقب العام الحالي علي أبو الصدر البيانوني ضد الدكتور حسن هويدي الذي "رُحِّل" إلى التنظيم العالمي كنائب لرئيسه، وأصبحت كتلة سعد الدين على نحو ما داخل التنظيم الإخواني الذي يتبع التنظيم العالمي. نشأت على خلفية المفاوضات الجديدة ما بين الإخوان والسلطة خلال الأعوام الأخيرة مواقف داخل الجماعة تتراوح ما بين المهادنة واستمرار الحوار مع السلطة بما يحتمله ذلك من احتمال عودة الإخوان إلى سورية كجماعة أو في شكل حزب إسلامي ينضم إلى الجبهة أو يعمل في ظلها، وبين التهديد بورقة العنف والعودة إليه. ويمثل المراقب العام الحالي البيانوني الموقف الأول في حين يمثل المراقب العام السابق عدنان سعد الدين وكتلة الحموية الموقف الثاني. وقد تبنى البيانوني على خلفية جمود المفاوضات، وعدم تطورها من الإطار الأمني إلى الإطار السياسي، موقف التصعيد السياسي على أساس يقدم الجماعة في صورة إحدى قوى "الموجة الديموقراطية الثالثة" في العالم، إلا أن هذا الموقف كان شكلياً وليس للعمل، ويهدف أساساً إلى تطويق التيار الذي يدعو إلى التصعيد العسكري والعودة إلى العنف انطلاقاً من تركيا، وامتصاصه سياسياً. ويبدو أن مكتب الإرشاد العام للتنظيم العالمي الذي يمثل البيانوني مراقباً عاماً لفرعه السوري يعمل على تطويق سعد الدين، الذي يدعو إلى توسيع استقلال الجماعة السورية عنه. من هنا وفي هذا السياق أصدرت قيادة البيانوني وثيقة تقويمية لعمل الجماعة في الفترة الماضية، اعترفت فيها بخطأ المجابهة مع السلطة وحمَّلت المراقب العام السابق عدنان سعد الدين المسؤولية الأساسية. ورد سعد الدين على ذلك بإصدار تقرير تقييمي موازٍ عن فترة 1975 - 1982، وحرض ثمانية قياديين، من بينهم عضوان في مجلس الشورى ويمثلان مركز حماة فيه، على التمرد على قيادة البيانوني، واتهامها بالفردية والفئوية والتكتل والفساد الإداري والمالي وإلغاء دور المؤسسات، بما في ذلك مجلس الشورى. وبهذا الشكل يعود مركز حماة إلى تصدر انشقاقات الجماعة، ويرسخ هويته التاريخية كمحور للمدرسة الراديكالية الاعتراضية، وإن كان ذلك على أسس فقهية مختلفة عن أسس "الطليعة" السابقة، إذ أن الأصول الإخوانية لمعظم قيادات الصف الثاني في الجماعة ضعيفة، فقد انخرطوا في الجماعة خلال سنوات المجابهة، على أساس المدخل الراديكالي. ولا أدلّ على ذلك من أن القيادة الإخوانية اضطرت في انتخابات 1982 الى تخفيض قدم العضوية لمن يحق له الانتخاب من خمس سنوات إلى ثلاث سنوات. إلا أن راديكالية كوادر الخارج تتغذى اليوم من عدم توصل المفاوضات إلى نتائج مرضية إخوانياً. وفي ذلك تبدو الجماعة السورية أمام احتمال تطور جديد، يشكل الخلاف ما بين التقليديين والراديكاليين وانقساماتهم الجهوية والمناطقية والفئوية والولائية والفقهية والسياسية المركبة عنوانه الأساسي. * كاتب سوري.