أثارت ردود الفعل الاميركية الأخيرة حول الدعوة التي تقدم بها نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان والموجهة الى واشنطن للتفاوض حول مجمل القضايا المتعلقة بالعراق بهدف التسوية النهائية للخلافات ما بين الطرفين اهتمام وسائل الاعلام المختلفة على مدى الأيام القليلة الماضية، خصوصاً في ما يتعلق بطابع التغيير الواضح في المنهج السياسي الأميركي تجاه النظام العراقي والقائم قبل هذه التصريحات على مبدأ الاحتواء من خلال إطالة سياسة العزل والتشديد على العقوبات الاقتصادية وممارسة وسائل خنق الآلة السياسية والعسكرية العراقية. وكان طه ياسين رمضان صرح في وقت سابق أن العراق مستعد للحوار مع الولاياتالمتحدة على أن يتم في اطار المصالح المشتركة. واعتبر بعض اوساط المعارضة العراقية بأن هذه الدعوة تحمل طابع الترغيب الساذج وتكشف عن رغبة في المقايضة، الأمر الذي يعني استعداد العراق لتوفير شروط نوعية في العلاقات المستقبلية بين واشنطنوبغداد فيما اذا تراجعت الادارة الاميركية عن مواقفها الراهنة. وبعد أيام من تصريحات رمضان رد مسؤول اميركي رفيع المستوى عليها بطريقة توحي بأن هنالك ثمة تغييراً في أسلوب الخطاب الأميركي تجاه الوضع العراقي. وأكد هذا المسؤول الذي لم يكشف عن اسمه "بأن النظام لا يمكن الوثوق به، فلقد عودنا على أن يقوم كل عشر سنوات بغزو أحد جيرانه، وهنا لا بد من التأكيد بأن سياسة احتواء النظام اثبتت جدواها بعد مرور هذا الوقت". وكشف المسؤول الأميركي عن طابع التحول في أسلوب المواجهة الجديد حيث أشار الى "أن الولاياتالمتحدة عازمة على مواصلة خطة التغيير في العراق بعد أن يئست من امكان اذعان الرئيس العراقي صدام حسين لقرارات الأممالمتحدة، وستبدأ خطوات دعم المعارضة العراقية في غضون الأيام المقبلة". وكان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية نيد ووكر وكذلك المنسق لشؤون التغيير في العراق ريتشارد دوني شرحا في لقاءاتهما مع الصحافيين أثناء المحادثات الأخيرة في أنقرة طبيعة الموقف الأميركي الجديد تجاه القضية العراقية. وربما جاء هذا الشرح كرد سريع على دعوة رمضان. فقد ركز ريتشارد دوني على اجراءات عملية أقرتها الادارة الاميركية لإحداث التغيير في العراق، وأول هذه الخطوات تفعيل دور المعارضة العراقية، من خلال تقديم الدعم المالي المباشر لأطرافها المختلفة. وهذه الخطوة، كما يقول ريتشارد دوني، تتم للمرة الأولى وبصورة علنية. ففي السابق كانت الأموال تقدم لبعض المعارضين عن طريق وسطاء، والآن الغيت الوساطة، أما الخطوة الثانية فهي تدريب الأفراد على أداء مختلف الأعمال بما فيها التدريب العسكري، وتقوم وزارة الدفاع الأميركية بتقديم رخص سحب المستلزمات القتالية. هذه الأمور الآن أصبحت في طريقها الى التنفيذ بعد اقرارها في شكل تام من قبل ادارة كلينتون. ومن هنا نستطيع قراءة مفردات التغيير في الموقف الاميركي تجاه القضية العراقية. بيد أن واشنطن ما زالت متمسكة بسياسة الاحتواء التي بحسب معطيات المعارضة العراقية منيت بالفشل الذريع، لأنها في واقع الحال لم تؤثر على النظام الحاكم، وإنما أثرت وفي شكل بارز على حياة العراقيين عموماً. فالحصار الاقتصادي لا يدفع ثمنه النظام وإنما الشعب العراقي، وهو - أي الحصار - ساعد الى حد بعيد السلطات العراقية على تعزيز سطوتها، وأصبح من قبيل الافتراض غير الواقعي قيام تحرك شعبي مناهض للنظام، ما دام هذا الشعب معتمداً في تفاصيل حياته الانسانية على ما تقدمه أجهزة الدولة المختلفة من معونات يسيرة جداً تقطرها عليه تقطيراً مدروساً. ومنذ أن صادقت الادارة الاميركية على مشروع مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي مارتن انديك في 24 شباط فبراير 1994 والقاضي بانتهاج الولاياتالمتحدة سياسة احتواء مزدوج ازاء العراق وايران، والحال العراقية مستقرة على ما هي عليه، ولم تتزحزح باتجاه اضعاف النظام وانهياره. لقد حجّم هذا المشروع حركة الشارع العراقي ووفر مستلزمات تشديد القمع والسيطرة الداخلية على مقدرات الناس ما دام الوضع خاضعاً لظروف الحصار الاقتصادي فقط. وتحاول واشنطن في توجهاتها الجديدة من خلال تصريحات المسؤولين الاميركيين ان تربط بين سياسة الاحتواء والاجراءات الأخيرة التي طرحها ريتشارد دوني في مؤتمره الصحافي، وكأن هذه الاجراءات تشكل جزءاً من مشروع الاحتواء، في حين أن كيان المشروع يقوم على نقطة اساسية واحدة هي الحصار الاقتصادي والعسكري. ومع ذلك، فإن هنالك من يشكك بجدية الموقف الاميركي تجاه عملية التغيير المقبلة في العراق، انطلاقاً من التجارب الكثيرة الماضية، وخصوصاً تجربة المنافسة في انتخابات الرئاسة بين مرشحي الحزبين الديموقراطي والجمهوري. ولما كانت الورقة العراقية شكلت احدى أبرز الأوراق التي غمرتها مرحلة الصراع الانتخابي بين بوش وكلينتون، فإن هذه الورقة لا تزال تمتلك تأثيرها التحريضي والتعبوي لكسب أصوات الناخبين. ومن هنا فإن بوادر استخدام الورقة العراقية في الانتخابات المقبلة التي ستطل علينا في نهاية العام الجاري ظهرت من الآن. ويعتقد بعض المتابعين للشؤون الاميركية ان دعوة واشنطن لتفعيل المعارضة العراقية وتدريب افرادها لغرض اطاحة النظام لا يذهبان بعيداً عن ساحة الصراع الداخلي بين الديموقراطيين والجمهوريين، وهما ربما اعتمدتهما ادارة كلينتون لتوفير الأجواء الدعاوية لمرشح الرئاسة الديموقراطي آل غور، الذي أعلن عن تأييده لاستمرار العقوبات ونيته لدعم مشروع "تغيير النظام العراقي" حالما يتسلم زمام المسؤولية بعد انتخابه لرئاسة الولاياتالمتحدة، ولكن مرشح الحزب الجمهوري بوش الابن أعلن بأنه ينوي اتخاذ موقف متشدد في التعامل مع العراق وإنه لن يخفف العقوبات، ولن يتفاوض مع صدام بل سيساعد مجموعات المعارضة لقلب نظام بغداد. وبعد كل تصريح حول العراق، تبدأ القضية العراقية تتصاعد في وسائل الاعلام الاميركية، وتدخل في حسابات الربح والخسارة بالنسبة للمرشحين. ويعتقد بأن ادارة كلينتون أدركت هذه المسألة أخيراً، وحاولت سحب البساط من تحت اقدام الجمهوريين الذين يهيمنون على الكونغرس وكذلك من مرشحهم بوش الابن الذي أعلن عن نواياه. وبدلاً من التصعيد الاعلامي ذات الطابع الدعاوي، لجأت الادارة الاميركية الى اتخاذ الاجراءات التي أشرنا اليها، وربما ستحاول الاسراع في تنفيذها لاثبات جديتها أمام التصعيد الكلامي الذي يطلقه الجمهوريون. هكذا تبدو ملامح المشكلة العراقية في التصور الأميركي، بيد أن حسم هذه المشكلة يبقى في مختلف الاحتمالات رهناً بحركة الداخل، أما المؤثرات الخارجية، فإنها ليست الرقم الأساسي في معادلة التغيير المقبل، فيما اذا انفجر الوضع الداخلي بصورة مفاجئة. ولكن جدية الموقف الاميركي في دعم المعارضة العراقية لتنفيذ مشروعها من دون شروط أو التزامات تنتقص من الثوابت الوطنية، هي التي تحرك النظام باتجاه تكرار دعواته لواشنطن بتسوية الخلافات والتفاهم وإعادة العلاقات السابقة أو التلويح لها بتوفير امكانات اقتصادية واستثمارية واسعة في العراق، فيما إذا سحبت يديها من مشروع اطاحة النظام وقطعت وسائل الدعم عن المعارضة وأنهت مرحلة الحصار الاقتصادي والسياسي. وهذا بالذات ما تمكن قراءته وراء السطور التي شكلت متن الدعوة التي وجهها طه ياسين رمضان لواشنطن. فمتى ما بدأت بوادر اقتراب اميركي نحو المعارضة العراقية، تبدأ تصريحات المسؤولين العراقيين الترغيبية تتصاعد باتجاه واشنطن مع تقسيم للأدوار، فمرة يطلق مثل هذه الدعوات نائب رئيس الوزراء طارق عزيز ومرة اخرى نائب رئيس الجمهورية طه ياسين رمضان وثالثة وزير الخارجية محمد سعيد الصحاف، وهكذا. والأدوار في أحيان أخرى تتباين، حينما تتحول ألسنة المتحدثين الى الطعن والهجوم على واشنطن. وعبَّر عن ذلك أخيراً المسؤول الأميركي الذي لم يعلن عن اسمه حين قال: "ان مواقف المسؤولين العراقيين اتسمت بالتناقض وعدم الانسجام فتارة يتشدد طه ياسين رمضان، وتارة نسمع تصريحات مناقضة من طارق عزيز، ثم يخرج علينا محمد سعيد الصحاف بتصريحات تختلف عما ذكره المسؤولون الآخرون". في هذا الاطار تدخل تصريحات رمضان الأخيرة ودعوته التفاوضية، فالأمر يبدو أكثر جدية بالنسبة للوضع المتأزم في العراق، وربما بدأت السلطة العراقية تدرك عامل الزمن والمخاطر المقبلة في ما إذا تم فعلاً التغيير في الموقف الاميركي باتجاه مشروع اطاحة النظام بواسطة المعارضة العراقية، لذلك فإنها مستعدة في مثل هذا الوضع الى تقديم المزيد من التنازلات على أن يبقى النظام قائماً من دون تغيير. وهذه القضية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمر حتى وإن تحقق شيء من هذا القبيل، فالظروف وصلت الى حد لا يقبل أقل من تغيير الوضع الراهن بوضع جديد، ولكن بقرار الشعب العراقي وليس بالقرار الأميركي. * كاتب وصحافي عراقي مقيم في لندن.