كان مشهد أعضاء القيادة العراقية والوزراء الذي نقله التلفزيون الرسمي قبل أيام وهم يتدربون على استخدام بنادق الكلاشنيكوف، استجابة لدعوة الرئيس صدام حسين لهم للتدريب على حمل السلاح، مثيراً بكل المقاييس على رغم أن البعض لم يجد فيه الا محاولة استعراضية جديدة في إطار الحملات التعبوية التي يقوم بها النظام في سياق صراعه الجاري مع الولاياتالمتحدة الاميركية منذ ما يقرب من عشر سنوات. ولكن بغض النظر عما يولّده مثل هذا المشهد من انطباعات آنية فإن إحدى الرسائل التي حاول أن ينقلها خبر بدء الكوادر العليا في الحزب الحاكم والدولة التدريب على السلاح، وهو ما لم يفعلوه طيلة الحرب العراقية - الايرانية أو حرب الخليج، هو أن خطر المواجهة مع الولاياتالمتحدة اقترب من موعده الحاسم، وأن القيادة العراقية على أهبة الاستعداد لمواجهته مع مئات الآلاف من انصارها الذين تم تدريبهم من قبل. ما رافق القيام بتدريب القيادة العراقية ايضا هو حملة ديبلوماسية قام بها بعض المسؤولين العراقيين في زيارات، بعضها معلن، وبعضها مستتر، لعواصم عربية، كان هدفها على ما يبدو إثارة الاهتمام لدى هذه العواصم بالمشكلة العراقية وحضها على الانخراط في جهود تساعد على حلها من خلال التلويح بالمخاطر المتوقعة جراء أي تحرك اميركي قادم أو لربما، مثلما تكهنت بعض التقارير الصحافية، القيام بدور وساطة ما بين بغدادوواشنطن. على الجانب الآخر، وفي مشهد مضاد ربما حرّض على المشهد الاول، أعادت الولاياتالمتحدة في تقرير لوزارة خارجيتها صدر في 13 ايلول سبتمبر الماضي تأكيد ثوابتها تجاه العراق من انها ماضية في سياستها الرامية الى إحكام عزل النظام واحتوائه من خلال استمرار عقوبات الاممالمتحدة وفرض منطقتي الحظر الجوي حتى سقوطه. هذا التأكيد جاء متزامناً مع زيادة ضغوط الادارة الاميركية على فصائل المعارضة العراقية لتوحيد صفوفها في اطار تنظيم واحد ترعاه وتخطط لإعلانه نهاية هذا الشهر، والذي وعدت بتجهيزه، وربما تسليحه في ما بعد، وفقاً لقانون تحرير العراق الذي شرعه الكونغرس، اضافة الى سعيها لدفع المعارضة العراقية الى واجهة العمل الديبلوماسي الدولي مثلما حاولت اثناء افتتاح الدورة الحالية للجمعية العامة للامم المتحدة، كل هذا وسط عمل ديبلوماسي لا يفتر لضمان عزلة العراق الاقليمية والدولية واستمرار ضربات الطائرات الاميركية لأهداف عراقية جنوباً وشمالاً وتأكيدات من كبار مسؤوليها أنها لن تقلل من مستوى وجودها العسكري في الخليج، واخيراً التلويح بالسعي لمحاكمة بعض اركان النظام كمجرمي حرب. ولكن السؤال الذي يواجه أي مراقب للوضع العراقي هو: هل هناك حقاً بوادر لمواجهة قريبة حاسمة بين العراقوالولاياتالمتحدة تنهي حال الصراع القائم وهل ان المشهدين المذكورين يمثلان ارهاصاتها ومقدماتها الضرورية، أم أن الامر لا يعدو كونه جزءاً من تكتيكات حرب الاعصاب المستمرة بين الطرفين انتظاراً لصرخة الخاسر في لعبة عض الاصابع الجارية منذ نهاية حرب الخليج حتى الآن؟ من الضروري قبل الاجابة على هذا السؤال الاشارة الى ان التوصيف الحالي للأزمة العراقية الاميركية هو انها تمر بحال من الاستعصاء والجمود التي دخلتها غداة المواجهة الاخيرة في كانون الاول ديسمبر الماضي إثر طرد بغداد لمفتشي الاسلحة الدوليين وقيام الولاياتالمتحدة بالرد على ذلك الاجراء بحملة من القصف الصاروخي والجوي استمرت اياما. منذ ذلك الوقت رفضت بغداد عودة المفتشين واعلنت من جانب واحد انتهاء مسألة اسلحة التدمير الشامل لكنها فشلت في اقناع مجلس الامن بذلك وبرفع العقوبات الاقتصادية الذي يبقى الهدف الرئيسي لها. بالمقابل فشلت واشنطن في إجبار بغداد على العودة الى التعاون مع المفتشين لكنها أحبطت جهودها في رفع العقوبات وبالتالي كسر نطاق العزلة الدولية المفروض عليها. والنتيجة هي ان جولة المباراة القائمة بين الطرفين لم تحقق اختراقاً لأي منهما ما يعني استقرار المعادلة القديمة بقاء النظام "انتصار عراقي" = بقاء الحصار "انتصار اميركي" واستمرار حال الاستعصاء انتظاراً لحسمها في جولات مقبلة او اعادة تدوين شروط اللعبة على اسس جديدة. المهم أن حال الجمود السائدة لا بد ان تؤدي في مرحلة ما الى ان يعيد كل طرف تقويم موقفه وانجازاته وإخفاقاته في ضوء النتائج المتحققة، وبالتالي تقرير خطواته المقبلة وهو الامر الذي يوضح ان الطرفين العراقي والاميركي بدءا به فعلاً، خصوصا ان هناك استحقاقاتٍ داخلية لدى كل منهما أو ظروفاً دولية وإقليمية ستجبرهما على ذلك. ولو حاولنا، من جهتنا، ان نقوّم وضع كل طرف على جانبي الصراع لربما أمكننا ان نضع تصوراً لما هو عليه هذا الوضع كمدخل لفهم المواقف التي يتخذانها كلٌ إزاء الآخر. فواشنطن، او ادارة الرئيس كلينتون على وجه التحديد، تبدو مرتاحة الى الوضع القائم الذي لا يبدو مخلاً بالتزاماتها المعلنة بمواصلة سياسة الاحتواء تجاه العراق بتنويعاته المختلفة، وهي سياسة مرنة تتيح لها من جهة التحكم بالضغوط التي توجهها الى النظام العراقي ولكنها من الجهة الاخرى لا تفرض عليها التزامات آلية بالعمل على تغييره كحل نهائي للصراع. هذا الوضع يعتبر مثالياً لطرف يمتلك مصادر قوة هائلة للتأثير على الطرف الاخر، سواء كانت داخل مجلس الامن او من خلال النفوذ السياسي والاقتصادي الدولي الذي لا يقاوَم، او عن طريق الحشد العسكري الجبار المحيط بالعراق. يضاف الى كل هذا ان المشكلة العراقية، سواء لعوامل موضعية او لرغبة البعض خصوصا من أطراف في المعارضة العراقية، اصبحت على جدول اعمال السياسة الداخلية الاميركية والصراع الحزبي الديموقراطي الجمهوري بكل ما يحمله من معنى. أما بالنسبة الى العراق فانه من المؤكد الطرف الأضعف في المعادلة القائمة بجهة ان إخفاقه واضح في حشد التأييد المؤثر في مجلس الامن لمطلب رفع العقوبات على رغم كل الاغراءات التي قدمها لثلاث دول دائمة العضوية، كما ان عزلته الاقليمية والدولية مستمرة رغم كل المحاولات التي يقوم بها والتي من ضمنها زيادة قوائم مشترياته من سلع صفقة النفط مقابل الغذاء، من بعض الدول المهمة على أمل مساعدته، الا انها جاءت قليلة الردود. ايضا فإن فشل الدفاعات الجوية العراقية في اسقاط أية طائرة اميركية او بريطانية خلال عام من الحرب الجارية فوق منطقتي الحظر الشمالي والجنوبي أضاع فرصة حقيقية، ليس من خلال اكتساب نقطة في الصراع، بل لربما كان فرض على واشنطن ولندن اعادة النظر في مجمل العمليات وساعد العراق على ازالة جدار مهم من جدران الاحتواء. إن هذه الصورة للموقف العراقي لن تكتمل بطبيعة الحال من دون إبراز جزئيتين اساسيتين فيهما، اولهما: تواصل الخطاب السياسي والايديولوجي العراقي وفق منهج معادي للمشاريع والمصالح الاميركية في المنطقة وثانيهما الازمة الداخلية المستعصية التي اصبحت هي الاخرى من عناصر الصراع من خلال قانون تحرير العراق الذي اصبح نوعاً من انواع الالتزامات القانونية الاميركية بالتدخل في الشؤون الداخلية متى شاءت واشنطن ذلك. ماذا يعني كل ذلك لكل من يحاول، عبر جهد تحليلي، الكشف عن مسارات الازمة العراقية - الاميركية من خلال التعامل مع مشاهدها الحقيقية عند الطرفين، وليس بالاستعراضات او التسريبات الاعلامية؟ يعني ان البيئة التي تتحكم باستراتيجية كل طرف ما زالت بيئة تصارعية وليس هناك من اشارات ودلائل تدعم أي استنتاج بأنها بدأت تتحول الى بيئة تصالحية، او بالاقل ليس بعد. من المؤكد ان العراق سيظل يحاول ان يجد منفذاً هنا او مخرجاً هناك من الزاوية التي حشر فيها نفسه ولكنه سيظل يصطدم بهذه البيئة التي تتحكم فيها الولاياتالمتحدة، الطرف الاكثر قدرة على الإلمام بعناصرها واستخدامها لمصلحته. إن جوهر سياسة الاحتواء هو انها استراتيجية شمولية طويلة النفَس، بلورت في سياق تنفيذها أطراً امنية وعسكرية وسياسية تدعم الهيمنة الاميركية على المنطقة، يحتاج تفكيكها إما تحقيق هدفها النهائي بالانتصار على الخصم، أي النظام العراقي، كما حدث مع الاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية او التراجع عنها، ما يعني الإقرار بالفشل، وهو ما لا يتلاءم لا مع منطق توازن القوى بين العراقوالولاياتالمتحدة ولا مع فلسفة الاحتواء وطابعها الشمولي. إن واقع الحال يشير الى ان الطرفين ينظران الى استراتيجية الاحتواء على انها اقل كلفة سياسية ومادية قياساً بالثمن الذي يمكن ان يّدفع في حال التخلي عنها او في المقابل استبدالها بالمواجهة المباشرة. فلو افترضنا ان الولاياتالمتحدة راغبة ومستعدة للتخلي عن سياسة الاحتواء، فالسؤال هو ما هو الثمن الذي ستطلبه لقاء قبولها بإعادة تأهيل النظام العراقي، وهل ان النظام قادر عليه ومستعد لدفعه؟ واذا ما دفعه فهل سيضمن له الاستمرار في السلطة بعد ذلك؟ وبالمقابل هل الولاياتالمتحدة مستعدة للتخلي عن سياسة قليلة الكلفة مادياً وعديمتها بشرياً في ظل المنافع التي حققتها لها في المنطقة، ناهيك عن الأضرار التي ستلحق بسمعتها وصدقيتها التي استثمرت فيها الكثير للدفاع عن هذه السياسة اذا ما تخلت عنها سواء إقراراً بالفشل او في اطار صفقة سافرة. إن سياسة الاحتواء هي بطبيعتها لعبة انتظار وترقب، تمتحن فيها القدرة على التحدي والنفس الطويل، وتختبر فيها الطاقات، وتتصارع فيها الارادات. لكن المشكلة أن لا قادة العراق الذين تدربوا على الكلاشنكوف أمام كاميرات التلفزيون ليستعرضوا إراداتهم ويؤكدوا تحديهم، ولا مهندسي سياسة الاحتواء في الادارة الاميركية ومروجيها، يدفعون ثمن الانتظار القاسي الذي يقتطع من أجساد العراقيين المنهكة وأرواحهم المعذبة. إنها لعبة" اميركا تنتظر فيها هزيمة النظام وسقوطه والنظام ينتظر ان تتعب اميركا وتتركه وشأنه، فيما العالم ينتظر بملل نهاية اللعبة السقيمة. * كاتب عراقي.