اذا كانت مظاهرات الاحتجاج الأخيرة تجتمع كلها تحت عنوان "معاداة العولمة"، فإن مظاهرة الاحتجاج التي انطلقت العام الماضي في سياتل أثناء اجتماعات منظمة التجارة العالمية، ومظاهرة الاحتجاج أثناء اجتماع وزراء مالية مجموعة الدول السبع في مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن الشهر الماضي، تختلفان كثيراً عن مظاهرة لندن التي جرت في ساحة البرلمان بمناسبة عطلة عيد العمال يوم الأحد الفائت. فالاخيرة تحولت إلى أعمال شغب قام بها رعاع فوضويون، حطموا احد مطاعم "ماكدونالد" لبيع الطعام السريع ومحلات أخرى بجواره، كما حطموا نوافذ سيارات كانت متوقفة في الطريق وسرقوا محتوياتها. واذا قبلنا أن "ماكدونالد" رمز للعولمة، فلماذا تحطيم المحل المجاور له الذي يبيع هواتف جوالة موبايل، أو تدنيس النصب التذكاري للجندي المجهول وتلوين رأس تمثال ونستون تشرشل بألوان رؤوس "البانكز" ورسم المطرقة والمنجل على قاعدته، ما فعلته على الأغلب قلة من الاعضاء الشبان في الحزب الشيوعي التركي؟ المشاركون كان عددهم قليلاً جداً. فمظاهرة من 5000 شخص لا يمكن ان تهز أركان النظام الرأسمالي في أي عاصمة في العالم. ورغم الاختلاف في مستوى التعبير والاحتجاج "ضد الرأسمالية" بين المظاهرات الثلاث، فإن المتظاهرين في سياتل وواشنطنولندن يلتقون عند نقطة واحدة وهي: أنهم قد يعرفون ما لا يريدون، ولا يعرفون ما يريدونه. فتشويه النصب التذكاري للجندي المجهول وتمثال الشخصية التاريخية والوطنية تشرشل الذي لا ينسى أحد دوره في الدفاع عن الديموقراطية ضد الفاشية، يعكس مجموعة من المفارقات غير المترابطة، ويقدم دليلاً قاطعاً على حالة الارتباك التي يعيشها بعض المتوجسين من المجهول المقبل. فقبل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الشيوعية وابان حقبة "الحرب الباردة"، كان المعادون للرأسمالية يرفعون رايات سياسية واضحة عندما يتظاهرون. أما الآن، فالمسألة يشوبها الجهل والغموض: من يتظاهر إلى جانب من، ومن أجل ماذا، وتحت أية رايات؟ كاميرات المصورين التقطت صوراً ل"متظاهر" وهو يسرق حقيبة من سيارة حُطمت نوافذها. وصورة كهذه لا تعكس أي شكل من أشكال الاحتجاج الجاد، كما أنها لا يمكن ان تكون شرارة انطلاق الثورة ضد العولمة والرأسمالية. واللافت للانتباه في مظاهرة لندن غياب جميع الهيئات والمنظمات غير الحكومية، مثل "أصدقاء الأرض" و"السلام الأخضر" و"حركة التطوير العالمية". اما الهيئة الوحيدة التي دعت إلى المشاركة في المظاهرة، اي حركة "اعادة السيطرة على الشوارع" Reclaim the streets، فهي الأحدث تأسيساً بين المنظمات غير الحكومية في بريطانيا. ومعاداة العولمة والرأسمالية تتطلب، كما حاولت مظاهرات سياتل الوطنية والمهمة أن تفعل، وضوحاً ووعياً بالشيء الذي يعاديه المتظاهرون. لكن حتى سياتل لم تفلح في تحقيق ذلك تماماً برغم ان مظاهرتها طرحت مجموعة تساؤلات حول العدالة وتوزيع الثروة في العالم، في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعشية قيام نظام دولي جديد. ثم ان هذه التساؤلات بقيت في حيز العناوين المبعثرة، إذ لم تنطلق مناقشة جادة بعد بشأنها، لا من جهة "المعادين" للعولمة والرأسمالية، ولا من جهة المدافعين عنهما. حركات الاحتجاج الجماهيرية يمكن ان تفرض التغيير على نظم وسياسات تضعها النظم. وقد حدث ذلك في السابق اثر "ثورة الطلبة" أواخر الستينات في باريس التي أنهت جمهورية ديغول، وحركة تشيكوسلوفاكيا التي أبرزت دوبتشيك. وكان لتلك الحركات ديناميكية خاصة وجارفة، كما كانت تركز على مسألة واحدة وواضحة: تحطيم الرموز الوطنية للسلطة مثل الجامعات وقوى الأمن والأحزاب السياسية. لكن حتى تلك الحركات، فان النجاح الذي حققته في تحطيم ما كان قائماً، لم ينقذها من الفشل في تقديم النظام البديل الذي كانت تعلن التحرك تحت راياته النظرية. يمكن إذن لحركات الاحتجاج أن تلعب دوراً حاسماً في التغيير كما حصل في سقوط جدار برلين، لكنها لا تستطيع وحدها ان تحدد مسار وطبيعة البدائل. فلذلك، يجب ان تنخرط قطاعات سكانية اعرض بكثير، وان ينخرط المثقفون والمفكرون مركزين جهودهم على بلورة موقف راديكالي جاد يملأ الفراغ الراهن. مظاهرات الاحتجاج التي شاهدناها أخيراً في سياتل أو واشنطنولندن، أكدت عجزها عن تقديم هذا الموقف. وما دامت هي كذلك، فإنها ستأخذ أشكالاً من التعبير المنحرف والمثير للشفقة احيانا، وتنحدر إلى ممارسات تتسم دائماً بالعبث والشغب.