جاءني صديق أمس ونصحني ألا أترك سيارتي في الشارع لأن لندن ستشهد أعمال شغب واسعة النطاق، وقلت إن عندي مرآباً أستطيع أن أخفي السيارة فيه، إلا أن ابنتي سمعت الحديث وقالت إنها تريد أن تضع سيارتها في "الكراج". وقلت لها إن سيارتي أغلى ثمناً، فقالت إن سيارتها أعز على قلبها من سيارتي، وبما أن البنت أعز عليّ من السيارتين فقد تركت لها "الكراج"، وأخذت سيارتي الى مكاتب "الحياة" في الطرف الآخر من المدينة وأنا أدعو أن ينتهي اليوم على خير. ومناسبة التظاهرات هي أول أيار مايو أو عيد العمال، غير أن أمرها معروف، فهي من سياتل الى دافوس وواشنطن، ولندن هذه المرة، احتجاج على الرأسمالية، مع اعتبار العولمة أبشع مظاهرها. وليس عندي اعتراض بتاتاً على الفكرة، خصوصاً وأني لم أنل من الرأسمالية غير الصيت الحسن، إلا أنني ضد التكسير، خصوصاً إذا طاول سيارتي. طبعاً، عندما يجتمع حوالى 20 ألف متظاهر في وسط لندن فسيارتي آخر ما يدور بالبال، فأهداف المتظاهرين هي من نوع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية و"فورد" و"ماكدونالد و"سوني" وما إلى ذلك من رموز الرأسمالية. غير أنهم إذا لم يجدوا الأهداف المطلوبة فالخوف من أن ينقضوا على سيارتي أو سيارة القارئ. أغرب ما في أمر المتظاهرين أمس، أنهم يجمعون أفراداً ومنظمات تتراوح بين يسار تروتسكي ويمين التطرف الديني، وكل ما بين هذا وذاك. وعندما كان المتظاهرون يواجهون شرطة واشنطن قرب عيد الفصح، سمعت متظاهراً يقول إنه يريد أن يطرد "المرابين" من جماعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من واشنطن، كما طرد السيد المسيح المرابين من الهيكل في القدس قبل ألفي سنة. وانتقلت الكاميرا بعد ذلك فوراً الى متظاهر يرفع علماً أحمر ازدان بالمطرقة والمنجل. وعلى رغم ذلك، ثمة تنظيم دقيق لما يبدو ظاهرياً أنه تجمع فوضويين، فهناك قيادة غير معلنة، وهناك منظمات ذات جذور وامتدادات حشدت أعضاءها لمواجهة رموز الرأسمالية، وهؤلاء رجال شرطة مساكين مرتباتهم لا تكفي لمواجهة أعباء الحياة العادية. وبين المنظمات التي شاركت في تظاهرات لندن أمس، كانت هناك منظمة "استردوا الأرض"، واسمها يوحي بأن اهتماماتها بيئية، ومثلها منظمة "الأرض أولاً"، ومنظمة مراقبة الشركات الكبرى، واسمها يدل على أهدافها، وجماعة "الكلب الأسود" وهو أيضاً اسم مجلة للفوضويين، و"الحرب الطبقية"، وأعضاء هذه المنظمة يميلون الى العنف وبعضهم في السجن الآن، والاتحاد الفوضوي، وهو منظمة لها فروع حول العالم، وجمعية العمل دفاعاً عن الحيوان وهي غير الجماعات العنيفة التي هاجمت مختبرات التجارب على القرود والأرانب وغيرها، وأوقعت أضراراً بلغت أحياناً حد القتل. بالإضافة الى ما سبق، هناك أكاديميون وطلاب من "أوكسفورد" و"كامبريدج" وأثرياء، ربما كان أشهرهم دوغ تومبكنز، وهو أميركي جمع ثروة تقدر بحوالى 250 مليون دولار، ثم ترك دنيا المال ورجال الأعمال، وخصص ثروته لحماية البيئة... والتظاهر انتصاراً لها، وكان أحد أبناء أسرة فيستي الثرية جداً اتهم بقيادة التظاهرات السابقة في لندن، إلا أنه برىء في المحكمة، على الرغم من فيديو البوليس الذي أظهره على رأس الهجمات على خطوط الشرطة. ولا يثبت قرار المحكمة سوى أن أسرة فيستي استطاعت أن تدفع لمحامين أمهر من محامي الشرطة. هل يفيد مثل هذه التظاهرات شيئاً؟ يقضي المنطق أن ننتظر لنرى، غير أنني أذكر أن "جيل الغضب" الأميركي في الخمسينات هو الذي قاد أميركا الى فيتنام، وتلك الحرب المدمرة فيها، وقام في الستينات جيل تظاهر ضد الحرب، وفر بعض الشباب الأميركي إلى كندا وأوروبا هرباً من الخدمة العسكرية، ومع ذلك فاليوم الرئيس الأميركي هو بيل كلينتون الذي فر من الخدمة العسكرية، ثم أصبح رمز "الكفر الرأسمالي" في نظر المتظاهرين موديل السنة ألفين. ومن يدري فإذا عشنا عقداً آخر أو عقدين، فقد يصل متظاهرو اليوم إلى الحكم ليجدوا أمامهم متظاهرين من أطفال هذه السنة. على كل حال أنا أكتب صباح الاثنين، والتخريب والتكسير والتظاهرات العبثية أثارت شوقي الى بلادي، لذلك سأذهب للفرجة قرب مبنى البرلمان، فإذا لم أعد الى الكتابة غداً، فمعنى ذلك أنني نجوت من شغب الشوارع في بيروت، لأروح في داهية في لندن، وهو ما سيسعد كثيرين.