كان لا بد من انقاذ صناعة المعلوماتية من شركة مايكروسوف ومن صاحبها بيل غيتس، ومن شططهما وممارساتهما الاحتكارية، وذلك ما أقدمت عليه خلال الآونة الأخيرة محكمة أميركية دانت، بعد أن ثبتت لديها كل تلك المآخذ، الشركة المذكورة. فذهبت إلى حد القضاء بتقسيمها إلى أكثر من وحدة بما يؤدي إلى إقرار قدر من الفصل بين مختلف مجالات نشاطها. لم يستقر الرأي بعد على صيغة تقسيم بعينها. إذ أن المهمة تلك عسيرة وحساسة. فالأمر يتعلق بشركة هي، من حيث حجمها وحضورها الطاغي في عدد من القطاعات الاستراتيجية، عملاق التقنيات الحديثة بلا منازع. وهو ما من شأنه أن يثير تعقيدات اقتصادية وقانونية بالغة وتداعيات بعيدة الأثر على أسواق الرساميل وعلى المستهلك سواء بسواء. من ذلك ان الإعلان عن قرار المحكمة إدانة مايكروسوفت أثار زوبعة في البورصة التي بدت خلالها ولبعض فترة، وكأنها فقدت ثقتها في ما يسمى بالاقتصاد الجديد، خصوصاً أن الأمر قد تزامن مع عودة أسعار النفط إلى الارتفاع، ومنظمة "أوبك" إلى التحرك، وهما ما كان قد بات ينظر إليهما على أنهما من رموز الاقتصاد القديم أو البائد. وإذا كان قرار إدانة مايكروسوف قد هدف إلى تجريم وإلى معاقبة سلوك احتكاري يمثل اخلالاً سافراً بمبدأ المنافسة، ذلك الذي يعد من التعاليم المؤسسة لاقتصاد السوق، بل لاهوته، إلا أنه من ناحية أخرى، ومن حيث لا يستهدف قصداً، ساهم في فضح خدعة كبيرة ربما كانت من أبرز عمليات الاحتيال التسويقي والدعائي التي قيض لزمننا هذا ان يشهدها: هي تلك التي مفادها ان الشركة المذكورة، وصاحبها الذائع الصيت، قد تمكنا من الاستحواذ على مكانتهما المعلومة في مجال التقنيات الحديثة، حتى باتا رمزها الدامغ بالاعتماد أساساً على الحذق في اقتناص الفرص والظروف الملائمة والبراعة في استغلال "الأساطير" التي رافقت نشوء التقنيات المعلوماتية الحديثة استراتيجية ترويج ناجعة، لا على الابتكارات التكنولوجية الفعلية والفارقة. ذلك أنه لا يكاد يوجد من تجديد تكنولوجي بارز يمكن نسبته إلى مايكروسوفت أو إلى بيل غيتس، ليمكن القول إنه إذا ما كانت للمذكورين من عبقرية، فهي تلك المتمثلة في القدرة على الاستحواذ على ابتكارات الغير وعلى تسويقها بكفاءة عالية، وتلك سمة من سلوك رافقت مسيرة الشركة منذ نشأتها. فنظام التشغيل "إم إس دوس" الذي بنت عليه مايكروسوفت أمجادها وحققت به غلبتها في مجال تقنيات الكومبيوتر، لم يبتدعه بيل غيتس، بل اشتراه بثمن بخس من شركة صغيرة كانت قائمة. ثم تمكن من اقناع "أي بي إم" بتثبيته على كومبيوتراتها الشخصية. وبما أن هذه الأخيرة وتلك المتوافقة معها، هي الأكثر انتشاراً في العالم، وبما أنه كلما بيع أحدها، عاد جزء من العائدات إلى بيل غيتس، تمكن هذا الأخير من ان يراكم ثروة هائلة من دون عناء كبير. ثم تكررت العملية نفسها لدى اعتماد الواسطة الغرافية في عمل الكومبيوترات، تلك التي سهلت استعمالها وجعلته في متناول الملايين من أمثالي ومن أمثالك، وذلك باعتماد "الفأرة" والايقونات وما إليها من الوسائل التي باتت معلومة. وذلك التجديد البارز الذي أدخلته مايكروسوفت منذ أن أصدرت برنامج التشغيل "ويندوز 95"، كانت شركة "ابل" السباقة إلى استعماله منذ أواسط الثمانينات، أي قبل نحو أكثر من عشر سنوات من اعتماده من قبل بيل غيتس، عندما طرحت في الأسواق، قبل الماكنتوش الشهير، كمبيوتراً اسمه "ليزا" لم يعمر طويلاً... ولم تفعل مايكروسوفت سوى محاكاتها، بل نهب تجربتها حسب ما يقول البعض. وقس على ذلك برامج تصفح الانترنت، تلك التي كانت شركة "نيتسكايب"، بالاعتماد على محاولات سابقة، السباقة إلى تطويرها وبالتالي إلى تمكين الشبكة العالمية من ذلك الرواج الذي نراه لها اليوم. وتقنيات ضغط الصور والوثائق الصوتية من أجل تسهيل عملية بثها عبر الشبكة إلى غير ذلك الكثير. ولجأت مايكروسوفت في كل ذلك إلى استراتيجية من طورين: تبني التقنيات التي يبتكرها المنافسون، على ما سبقت الإشارة، ثم استخدام قوتها الضاربة وسيطرتها في مجال برامج التشغيل من أجل خنقهم. وهو ما كتب حوله الكثيرون. وجاءت وقائع المحاكمة لتكشف النقاب عن تفاصيله. ذلك، على سبيل المثال، ما فعلته شركة بيل غيتس مع برنامج تصفح الانترنت، عندما ربطته ببرنامجها "ويندوز" فضمنت له بذلك توزيعاً واسعاً، فنتج عن ذلك تراجع برنامج المنافس نيتسكايب، حتى شارفت الشركة التي تسوقه، والحاملة الاسم نفسه، على الانهيار. وموازاة لكل ذلك، اعتمدت مايكروسوفت استراتيجية دعائية وإعلامية، تكاد ان تكون من نمط توتاليتاري، تمحورت بالأساس حول شخص مؤسسها وصاحبها بيل غيتس. وذلك من خلال توظيف تلك الصورة "الاسطورية" التي رافقت تقنيات الكومبيوتر وبرمجتها منذ البداية: صورة ذلك المراهق النابغ الذي يستخدم مرآب العائلة ورشة لابتكار الجديد الباهر، ليجد نفسه بعد سنوات قليلة على رأس مؤسسة كبيرة تتداول أسهمها في البورصة. وبالغ صانعو "الايمج" لدى مايكروسوفت في ترويج مثل تلك الصورة عن بيل غيتس، ذلك الذي بقي محافظاً، بلباسه وبنظارتيه الطلابيتين ومجمل هيئته الخارجية، على مظهر المراهق ذاك، حتى بعد أن تجاوز الأربعين. ثم ان الشق الثاني من صورة كيم ايل سونغ - مايكروسوفت هي تلك القائمة على تقديمه على أنه المستشرف لمستقبل التطور البشري وذو الرؤية الفلسفية المتبلورة والنافذة في شأنه وفي شأن ارسائه. وقد يكون قرار المحكمة الأميركية إدانة مايكروسوفت وتقسيمها ووضع حد لسلوكها الاحتكاري، بداية دحض لمنزلة حازت عليها الشركة المذكورة أساساً بواسطة استخدامها الماهر للايديولوجيا وللأساطير التي نشأت حول التقنيات الجديدة وفي كنفها. فكان ان وضعها كل ذلك في موقع كان يمكنه، لو تمادى في استفحاله، ان يؤدي إلى عرقلة كل تقدم، خصوصاً أن الأمر يتعلق بميدان كان الابتكار والتجديد فيه غالباً من فعل أفراد أو أوساط هامشية، نشأت خارج عالم الصناعات الكبرى والاحتكارات الضخمة، وبعضها في بلدان من العالم النامي، مثل الهند أو سنغافورة، ما انفكت تؤكد حضورها في مجال صناعة البرمجة. وهكذا، ربما كانت إدانة مايكروسوفت، أكثر من مجرد معاقبة لسلوك احتكاري مناف لمبادئ اقتصاد السوق، بل عودة إلى روح الابتكار الحر، والمتواضع المنشأ في حالات كثيرة، والتي كانت من أبرز السمات الفارقة لتلك الثورة الصناعية الجديدة، وهي روح كان بيل غيتس قد برهن على قدرة كبيرة على توظيفها والاستفادة منها، من دون أن يكون له في يوم، فضل كبير في ارسائها أو اثرائها.