} قدمت وزارة العدل الأميركية تقويماً سلبياً حيال استعداد شركة "مايكروسوفت" القبول بإجراءات تعديلية لمسلكها في السوق، شرط ألا تتم تجزئة الشركة إلى اثنتين مستقلتين، كما جاء في الاقتراح الذي خلص إليه القاضي الفيديرالي بنفيلد جاكسون مطلع الشهر الجاري. وسلمت "مايكروسوفت" ردها في العاشر من الشهر الجاري. وجاء رد وزارة العدل في اليوم التالي مباشرة، وهو أمر غير مألوف في سوابق محاكمات الشركات الكبرى بتهم الاحتكار. لكن أية أمور وضعت في كفتي الميزان؟ وما الذي تحاوله "مايكروسوفت" لايقاف محاولة الوزارة تقسيمها؟ وهل ثمة ممارسات احتكارية فعلاً لل"مايكروسوفت". وما هي دلالة الاحتكار والمحاكمة في الاقتصاد الجديد، خصوصاً في علاقة الدولة الأميركية وشركاتها؟ هذه الأسئلة وغيرها، اصبحت موضوعاً يزداد سخونة مع اقتراب الاجراءات القانونية من الحسم في وقت قريب من الشهر الجاري. شخصت الأعين بلهفة الى افتتاح سوقي "داو جونز"، للمضاربة التقليدية بالسلع والأموال، و"النازداك"، البورصة الإلكترونية للسلع العالية التقنية، الاثنين الأول من أيار مايو 2000 لرصد رد فعل الاقتصادين الأميركي والعالمي على الحكم المبدئي لوزارة العدل الأميركية في صدد الدعوى بالاحتكار على مايكروسوفت، التي تؤيدها 19 ولاية أميركية. جاء رد الفعل هادئاً ومناسباً، حتى أن أسهم شركة مايكروسوفت، عملاق البرمجيات المعلوماتية في العالم، ارتفعت في مبادلات ذلك النهار، وفي الأيام التي تلته. تفاوتت آراء المحللين حيال الرد الهادئ فرأى أندرو روسكيل، من مؤسسة واربرغ ديلون ريد المالية، مثلاً، أن الأمر يؤشر الى الثقة بمايكروسوفت وقدرتها على جبه القرار الذي ربما نظرت فيه المحكمة الفيدرالية قبل تنفيذ ما يتضمنه من تقسيم مايكروسوفت شركتين غير قابلتين للدمج، في المستقبل المنظور. ومالَ قسم من الخبراء في شؤون دعاوى الاحتكار، مثل البروفسور ويليم كوفاسيك من كلية الحقوق في جامعة جورج واشنطن الشهيرة، الى ربط هدوء الأسواق بعوامل أخرى مثل النسبة العالية من توقع قرار التقسيم وبالتالي تأقلم السوق مع المعطى القضائي الذي يبدو الأرجح نفاذاً والأثقل كفة من إمكان نقضه. ولاحظ البروفسور كوفاسيك أن السوابق في تقسيم الشركات الكبرى بفعل قانون "شيرمان" ضد التروستات، وهو النص القانوني للحكم على مايكروسوفت، ترجح كفة الهدوء لدى حاملي الأسهم. ففي كل السوابق، أدى تقسيم الشركة - الأصل والعملاقة شركات أصغر، الى عدم اهتزاز قيمة أسهمها، بل وارتفاعها في الغالب. لا شيء في هذا الهدوء الذي تتسم به الآراء والهوامش الضيقة لتقلبات الأسهم في الأسواق، يشبه ذلك الإعصار المالي الذي هز العالم أواخر آذار مارس الفائت، عندما أصدر القاضي بنفيلد جاكسون قراره اعتبار مايكروسوفت شركة احتكارية تقوم ممارستها في السوق على خنق المنافسة ووأد الإبداع، ما اعتبر خرقاً لقانون شيرمان. في خضم الإعصار، فقدت مايكروسوفت 12 بليون دولار في مثل إغماضة العين. وقبل أن يختتم الأسبوع، فقدت بورصات العالم الكبرى من "نيكي" طوكيو و"داكس" ألمانيا و"كاك-40" فرنسا و"بومباي" الهند و"أمستردام"، وصولاً إلى "داو جونز" و"نازداك" في أميركا، ما يزيد على ألفي بليون دولار في أسبوع الاضطراب الكبير. تربط بين هدوء الأسواق واضطرابها خيوط عدة، أبرزها الميل الى إعادة صوغ نسيج العلاقة بين مؤسسة الدولة والشركات، في مرحلة التحول النوعي في العولمة التي يعبّر عنها الاقتصاد الجديد New Economy الذي تدفعه المعلوماتية والسلع العالية التقنية High tech. وفي ثنايا الأمر أنه إعادة تعريف لدور العلم والتقنية ومحلهما في مجمل المنتظم المجتمعي. ولأن المستوى القضائي الذي أصدر حكمه على شركة معولمة وعملاقة هو في الدولة الأقوى والأمتن عصبية في العالم، وأيضاً لأن مايكروسوفت هي النموذج الأوضح عن الاقتصاد الجديد، تتحوّل هذه القضية الاحتكارية بؤرةً لتقاطع خطوط قوية ومتشابكة وقابلة لما لا يحصى من القراءات. وغني عن القول إن التحليل المعمق لهذه القضية يصعب إتمامه في معزل عن التقاط اللحظة في بنية العلاقات العالمية التي يعبّر عنها أحياناً بالنظام العالمي الجديد وموقع الولاياتالمتحدة فيه. كذلك يتصل الأمر بمسألة التغيير الداخلي المتوقع في أميركا، مع مشارفة الولاية الديموقراطية المديدة لكلينتون الانتهاء وبروز أفق عودة صقور النيورأسمالية في الحزب الجمهوري، وغير ذلك من الأمور التي تتطلب نقاشاً عميماً. احتكار الإنترنت والعلم معاً؟ تضمّن قرار القاضي جاكسون المرفوع الى جويل كلاين، مساعد وزيرة العدل جانيت رينو ورئيس قسم دائرة مكافحة التروستات، مجموعة من التوصيات التي تصيب خطوط الفصل بين عملقة مايكروسوفت الاقتصادية - المعلوماتية وممارساتها الأساليب الاحتكارية. وركز جاكسون على برنامج ويندوز للتشغيل الذي يدير 80 في المئة من أجهزة العالم، وهو من أبرز إبداعات مايكروسوفت، وضرورة فصله عن التطبيقات الجاهزة Applications مثل معالج الكلمات "وورد" والبرنامج الراقي للحسابات "أكسيل" وغيرهما، وكذلك عن أدوات الإنترنت Internet Tools وفي مقدمها برنامج التصفح "أكسبلورر" Explorer. في الوضع الراهن، تشبه برامج مايكروسوفت بناءً من ثلاث طبقات، أساسه "ويندوز" الذي يشغل الكومبيوتر وتعتمده التطبيقات وبرامج الإنترنت. وجرّبت شركات، مثل "آي بي أم"، تطوير تطبيقات خاصة تعمل ارتكازاً إلى ويندوز، لكن مايكروسوفت حالت دون ذلك. في كل الأحوال، وعلى مدار عقد من المثول أمام المحاكم بدعوى الاحتكار، ارتكزت مايكروسوفت ليس الى قوة ويندوز فقط بل وإلى "حماية" القاعدة العلمية لهذا البرنامج راجع مربع: دعاوى شركات المعلوماتية. ولكي تستعمل الشركات برامج التطبيقات ويندوز، عليها استخدام شيفرة المصدر Source code وهو ما يسمى ب"برامج تقاطع التطبيقات" Applications Inter face Programmes أو AIPS، وهو ما احتفظت مايكروسوفت بعلمه سراً غلقاً. واقترح القاضي جاكسون إلزام مايكروسوفت رفع الحجب السدفة عن الAIPS كضرورة للفصل. ويتوقع المحللون أن يفضي الأمر الى إطلاق موجة برامج تشغيل توازي وتماثل ويندوز، وكذلك موجة مماثلة من تطبيقات مستقلة تقدر على التعامل مع برنامج ويندوز. وفي هذا المعنى، شدد القاضي كلاين على أن قرار القاضي جاكسون هو خدمة عميقة للإبداع والابتكار. وتَرُدّ الجمل القوية والإدانات الصارمة في قرار القاضي جاكسون في شأن محاولة مايكروسوفت إحكام قبضتها على برامج الإنترنت، إلى الصورة الرؤيوية التي رسمها بيل غيتس المدير والمؤسس الأسطوري للشركة، للإنترنت في كتابه الشهير "الطريق قدماً". في كلا عيني القاضي والمؤسس، لا تبدو الإنترنت على هيئة الشبكة التي تشرنق الأرض فحسب، بل هي أيضاً مكان المستقبل وسوقه الحقيقية وحيث تتقرر المصائر. وخلص بيل غيتس الى اعتبار أن الشبكة الدولية، أو بالأحرى طرق المعلومات السريعة Info High Ways، تمثل للعالم ما مثلته الأغوار Agora لأثينا، أي سوق قلب العالم ومحل تقاطع مختلف مصالحه وقواه. وركّز القاضي جاكسون جلّ دعواه على استخدام مايكروسوفت أساليب القوة وعلاقاتها في فرض برنامجها أكسبلورر على أجهزة الكومبيوتر في العالم، وتالياً الإمساك بالأعصبة الأساسية للإنترنت. وتضمن القرار القضائي توصية بفصل مايكروسوفت شركتين، تنهض إحداها بشؤون التشغيل والتطبيقات وتقوم الأخرى على شأن برامج الإنترنت وحدها. ويتيح الأمر لمنافسي مايكروسوفت مجالاً للتصارع مع برنامج التصفّح اكسبلورر بعد "تجريده" من دعم نظام التشغيل "ويندوز"، وهو الحيلة التي استخدمتها مايكروسوفت دوماً لفرض انتشار اكسبلورر وللي أذرع المنافسين. سياتل: رد كرة الذعر؟ هل يؤدي الفصل الى دعم الإبداع، أم لعل المسألة برمتها هي أحد أوجه العالم المعلوماتي وهيمناته وسطواته؟ تميّز العام الماضي بالذعر أولاً من هجمات الفيروسات التي تحولت هُجاساً صاخباً استدعيت فيه ظلال الانفجار النووي في تشيرنوبيل، الذي كان من مؤشرات سقوط الاتحاد السوفياتي والعولمة، وتمردات شبابية يعبّر عنها الهاكرز Hackers والسايبر بانكس Cyper Punks ومختلف مظاهر مقاومة تسلط شركات المعلوماتية على الفكر والاجتماع الإنسانيين. وفي إمكان مشاهدي فيلم ماتريكس Matrix الذي أُطلق في عام الذعر نفسه، التقاط ما يدور غرباً من نقاش على تحوّل أجهزة الكومبيوتر ديكتاتورية عالمية شاملة تهيمن على الحضارة ولربما حملت نذر فنائها. وتراكبت موجة الفيروسات مع ذعر الكسوف الذي فجّر مكامن لا حصر لها من هواجس الفناء بدءاً من باريس المذعورة لاحتمال سقوط المركبة الفضائية المهجورة "مير" على رؤوس ساكنيها، مروراً باستعادة "نبوءات" نوستراداموس لما قبل عصر التنوير واحتمالات فناء العالم في ختام الألفية الثانية. وقدمت المعلوماتية دعماً للغرائبية ولانبعاثات فوضى المدركات وسيطرة الغيبيات عبر أزمة الY2K أو "بقة الكومبيوتر للعام الألفين". بدت الأجهزة الصلدة والمكهربة كأنها مسكونة بما يشبه الشيطان في خفائه وميله الى إيقاع الشرور والاضطراب. وفي خضم الذعر، ازدادت الهالات والسطوات تكاثفاً فوق رؤوس القابضين على الشأن المعلوماتي، وبدوا كأن العالم أذعن لسلطانهم. وتكفلت أقوال هؤلاء الذين لا وجه لهم كالأرواح والغيب، بتدفق مئات الملايين من الدولارات في العالم لإصلاح الشر الذي لا تلامسه الأعين. ثم جاء متظاهرو "سياتل". وردّت الأشياء الى بعض تواضعها وضآلتها، ولم يعد الاقتصاد الجديد فوق الجغرافيا ونابياً عن الثقافات والشعوب والهويات، بل صار إلى أحصنة الشرطة الأميركية وهراواتها وهي تقاتل الأجساد المحتجة، متراً متراً في شوارع المدينة التي تحتضن مقر مايكروسوفت وغيرها من شركات الاقتصاد الجديد. وقريباً من تظاهرات سياتل، جاء الاستخلاص الأولي للقاضي جاكسون أن مايكروسوفت هي في وضع الاحتكار. فهدأت موجة الذعر واستكان العالم الى بهجة متفاوتة، لم تفارقها المرارة، في استقبال العام الألفين. هل طرد متظاهرو سياتل وقرار جاكسون الذعر من وهم الاقتصاد الجديد وعوالمه؟ ربما. افتتح العام على هجمات الهاكرز على مواقع الاقتصاد المعلوماتي وشركاته، كأنها نذر الرعد الوشيك. وفي أواخر آذار مارس الفائت، أصدر القاضي جاكسون حكمه المبدئي في قضية مايكروسوفت، فتحولت أسواق الاقتصاد الجديد محلاً للذعر والرعب. كأن موجة القلق ارتدت من العالم الى البورصات الإلكترونية التي لم تحمها الأرقام الخرافية للأموال وللأسهم. ومن يدري؟ لعل خرافية تلك الأرقام والتركيز على "الافتراضية" Virtuality الكامنة في قلب المعلوماتية وعوالمها، هو ما زاد في حس الوقوع في شراك التوهّم وحبائل المتخيل والمظنون وما لا يدرك أو يعقل. هل أطلقت شبحية الY2K المعلوماتية هواجس الذعر، وكأن سقوط الأسواق في مطلع نيسان ابريل الفائت هو ارتداد الموجة الى مصدرها المعلوماتي - الإلكتروني؟ ربما أن شيئاً من عادية العالم الحقيقي ويوميته وبساطته تسرب الى الأسواق المالية، وربما أن أيضاً شيئاً من واقعية متظاهري واشنطن وسياتل ودأبهم على هموم المدفوعين قسراً الى الهوامش، ومن ضآلة أشياء الحياة، جعلا تلك الأسواق أميل إلى الهدوء، ولو بدت كإقامة مضطربة على تخوم القلق. الاقتصاد الجديد والانتخابات الأميركية يصعب عدم ملاحظة ميل الإدارة الديموقراطية إلى ملاقاة بعض من الهموم التي عبرت عن نفسها في سياتل وواشنطن وبانكوك. وثمة شبه إجماع على القول إن تلك الاحتجاجات انصبت أساساً على شركات العولمة وهيئاتها مثل صندوق النقد الدولي، أكثر مما توجهت ضد الدولة نفسها. بعض متظاهري سياتل قدم أزهاراً الى الشرطة، بينما أعلن متظاهرو واشنطن مسبقاً الميل الى عدم الصدام مع أدوات الدولة الأمنية، وسلّم المئات منهم أنفسهم طوعاً للشرطة. وبفعل عوامل متعددة، تولّد مزاج عام يرى في الشركات، لا الدولة، مصدراً للاختلال في علاقات الاقتصاد العالمي. وفي هذا المعنى، تبدو الدولة محلاً لصراع ما، ويدعو مناهض عتيق لتسلط الأجهزة هو المحامي رالف نادر اللبناني الأصل ورئيس "جمعية مشروع المستهلك حيال التقنية" القضاة الفدراليين الى وقف تسلط مايكروسوفت. وسواء في سياتل أو في الاجتماع المشترك لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في نيسان ابريل الفائت أو في مداخلاته الكثيرة خلال مؤتمر "الاقتصاد الجديد" في البيت الأبيض، مالت رنة الرئيس بيل كلينتون الى الأخذ بهموم الأقليات والدول النامية وبدت متفهمة لمصادر الاحتجاج على مستجدات العولمة. ورأى بعض المحللين، بعيد صدور الحكم الأولي للقاضي جاكسون، أن مايكروسوفت تحاول إطالة مدة التقاضي انتظاراً للتغيير المرتقب في سدة القرار السياسي الأميركي. قبل سنتين، قرنت الصحف الأميركية محاكمة الرئيس كلينتون في صدد الجنس مع مونيكا لوينسكي ومحاكمة مايكروسوفت عام 1998، حين نظمت وزارة العدل وعشرون ولاية دعوى إدانة مايكروسوفت بممارسة الاحتكار. تبنت بعض الصحف كليشيه "محاكمة الثنائي بيل" Trial of Two Bills أي غيتس وكلينتون. وفي مؤتمر البيت الأبيض عن الاقتصاد الجديد، بدت الأمور مختلفة، ولاحظت الصحف ميل كلينتون وغيتس الى تحاشي الحوار المباشر خارج إطار المجاملات الضرورية. أتى غيتس الى البيت الأبيض عقب اجتماع طويل جمعه مع حفنة من قادة الحزب الجمهوري الذي يميل بعض صقوره الى إعادة تأكيد "الليبرالية الجديدة" Neo Liberalism التي انطلقت من عقالها في انفلات قاس أيام حكم الرئيسين رونالد ريغان وجورج بوش. فهل ثمة مراهنة فعلية من مايكروسوفت على التوثّب الرأسمالي للحزب الجمهوري؟ ربما. لكن إحدى القضايا الأجد في استخدام قانون شيرمان ضد التروستات حدثت أيام الرئيس ريغان نفسه. ففي العام 1982 أصدرت دائرة مكافحة التروستات في وزارة العدل التي أدارها، حينها، جورج بينيت قراراً اعتبر شركة اي تي اند تي AT&T للاتصالات احتكارية، فقسمت سبعة أقسام إضافة الى الأصل. ولم يفت المحللين الاقتصاديين الملاحظة أن تفكيك تلك الشركة التي تماثل مايكروسوفت في عالم الاتصالات، أدى الى تنشيط المنافسة وانخفاض كلفة المكالمات الدولية والداخلية في الولاياتالمتحدة. وحتى بالنسبة إلى صقور النيوليبرالية تقع قضية مايكروسوفت على حد مترجح بين إطلاق حرية التنافس في السوق وحرية الاستثمار. فهل تنتظر مايكروسوفت الانتخابات لحسم مصيرها أم أن العكس ممكن أيضاً، وأن الاقتصاد الجديد واحتكارية مايكروسوفت سيتحولان جزءاً من بازار المنافسة الرئاسية؟ * صحافي من أسرة "الحياة".