بعد إبلاغ وزارة الخارجية الإسرائيلية الأممالمتحدة، وبرسالة خطية، عزمها الانسحاب من لبنان تطبيقاً للقرار 425 وحتى الحدود الدولية، فإن عليها أن تنسحب الى حدود عام 1923، وهي حدود الهدنة، الأمر الذي يحرر عشرات القرى وخصوصاً مزارع شبعا، ويزيل مستوطناتها، كما الأقنية والإنشاءات العسكرية التي أقيمت لسرقة مياه الليطاني وغيره من ينابيع لبنان. ويزيل التلابس الإسرائيلي المقصود للحدود الدولية. وبصرف النظر عن الأسباب التي تدفع إسرائيل للانسحاب، منفردة أم مجتمعة، بدءاً من خروجها من الورطة اللبنانية، وتنفيذاً للالتزام الذي قطعته على نفسها حكومة إيهود باراك، بالانسحاب من لبنان خلال عام، أو مدخلاً لاستخدام تكتيكات الفصل بين المسارات العربية، فإن بعض التفاصيل واضحة راهناً في قراءات بعض قادة إسرائيل للقرار 425 وبما لا ينسجم معه، مثال تصريح نائب وزير الدفاع افرايم سنيه لصحيفة "لوفيغارو" الفرنسية حين تحدث عن أربعة خطوط دولية هي: خط 1923، وخط الهدنة 1948، وخط اجتياح 1978، وأخيراً الحدود الحالية. وادعى سنيه أن الأممالمتحدة تعترف بخط اجتياح 1978 أو الحدود الحالية التي جاءت بعد اجتياح 1982. عرفت المنطقة العربية قصة الحدود الدولية مع الاستعمار، وسياسة الانتداب التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وقبلها كانت المنطقة كتلة جغرافية واحدة تحت السيادة العثمانية ومقسمة الى ألوية وسناجق. ففي عام 1923 عملت فرنسا وبريطانيا على رسم حدود فاصلة بين مناطق نفوذ انتدابيهما، وبموجب هذه الحدود والتي اعتبرت خطاً دولياً، اقتطعت سلطات الانتداب البريطاني 17 قرية جنوبية، ونزعت ملكية اللبنانيين في سهل الحولة وحولتها لصالح الحركة الصهيونية آنذاك. وفي نيسان ابريل 1924 تنازلت فرنسا لسلطات الانتداب البريطاني في فلسطين عن 7 قرى جنوبية أقيمت عليها ثلاث مستوطنات صهيونية هي: مسكاف عام وراموت نفتالي ويوفال. وعلى رغم أنه جرى ترسيم الحدود لاحقاً بين فرنسا وبريطانيا في فترة 1940- 1941، ثم ترسيم عام 1950 من قبل الأممالمتحدة، إلا أن خط الهدنة اعتمد حدود 1923 حدوداً دولية، الأمر الذي أشار إليه رئيس الحكومة اللبنانية سليم الحص، في كانون الأول ديسمبر الماضي، مطالباً بالأراضي اللبنانية الموجودة داخل إسرائيل ومذكراً أن سبع قرى لبنانية "ضمت الى فلسطين خلال فترة الانتداب الفرنسي وأن استعادتها مطلب لبناني". في مناورة الدولة العبرية المعتادة - وإن كان الأمر سيتضح لاحقاً لدى تطبيق الانسحاب - اعتادت على مخطط رسمته لنفسها في أسلوبها فهي "تقضم ثم تهضم" في مواجهة المبادئ الأساسية سواء "الأرض في مقابل السلام" أو مبدأ "عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالحرب" وبعد أن عجزت أن تهضم الجنوباللبناني فإنها استخدمت مع لبنان أسلوب الأسلاك الشائكة الحدودية المتحركة وبالذات في مزارع شبعا. فعلى رغم أن لبنان لم يشارك في حرب حزيران يونيو 1967 إلا أن إسرائيل استولت على 14 مزرعة تابعة لمنطقة شبعا، تمتد على مساحة 200 كلم2، وطردت سكانها البالغين 1200 عائلة لبنانية، ونسفت منازلهم وأحرقت أراضيهم، وحولتها الى "منطقة عسكرية". وأهمية هذه المنطقة أنها تضم الينابيع الرافدة لنهر الأردن بانياس والوزاني والحاصباني، إضافة الى خصوبة أراضيها وتنوع مناخها. وفي العام 1973 استغلت إسرائيل حال الحرب مع العرب، واحتلت قسماً من أراضي عيترون وبليدا وسهل الخيام والحصيلة أكثر من 300 دونم اقتطعتها إسرائيل وشقت فيها الطرقات. وفي العام 1978 قامت إسرائيل بعملية الليطاني التي اجتاحت خلالها مساحات واسعة من الجنوباللبناني، ثم عززتها باجتياح 1982. وفي عام 1985 ضمت إسرائيل كامل خراج منطقة شبعا إليها، وأقيم فيها ثلاث مستوطنات أيضاً. وفي عام 1989 عادت إسرائيل وضمت مزرعة بسطرة، عبر نقل الشريط الشائك الى داخل لبنان. وهكذا لم يقتصر اقتطاع الأراضي على منطقة شبعا وحدها، بل طاول آلاف الدونمات الواقعة جنوب غرب بلد كفرشوبا أيضاً. وفي عام 1996 قامت باقتطاع ما يقرب من مئة دونم من إحدى المزارع التابعة لأوقاف الطائفة المارونية في عقارات البطيشة، كما اقتطعت في سنوات سابقة مساحات من أراضي بلدة علما الشعب تقدر بحوالى ألف دونم، وضمتها الى مستوطنة حانيتا الواقعة جنوب البلدة. بعد هذا، فإن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانيةالمحتلة، سيكون ناقصاً ما لم يشمل الانسحاب من مزارع شبعا التي احتلت عام 1967، ووفق الخرائط التي أعطت لبنان الكبير استقلاله في عصبة الأممالمتحدة ووفق الحدود الدولية المعترف بها، والأمر محط اهتمام كبير من قبل لبنان الذي يخشى من بقاء وضع اليد الإسرائيلية على أراضيه في هذه المنطقة. يذكر أن مساحة الجنوباللبناني 2010كلم2، تشكل 20 في المئة من مساحة لبنان يقطنه زهاء 600 ألف نسمة، وعلى رغم مرور 22 عاماً على صدور القرار 425 19 آذار -مارس 1978 عن مجلس الأمن الدولي، ما زالت إسرائيل تحتل 850 كلم2 من الأراضي اللبنانية تحت ذريعة "الحزام الآمن" أو ما يعرف بالشريط الحدودي، وفيه 103 بلدات وقرى إضافة الى عشرات المزارع. تتلخص قصة الجنوباللبناني، بالصمود في وجه الاقتلاع والتهجير والإرهاب الذي لا حدود له، وتفويت المناورة يكون بالإرادة الموحدة والمعززة بدعم عربي على رأسه سورية وهو أمر سيؤدي الى انصياع إسرائيل والتسليم بقرارات الشرعية الدولية ومبادئ السلام. والمعطى الوحيد لتطبيق القرار 425 هو انسحاب إسرائيل الى حدود عام 1923، التي هي حدود الهدنة، وإزالة كل المعالم التي عمدت الى تغيير الأرض والحدود. *كاتب فلسطيني