يعتبر كتاب "الأموال" للحافظ القاسم بن سلاّم أبو عبيد أحد أهم المصادر الاقتصادية في التاريخ الإسلامي، ويأتي في ترتيبه الزمني الثالث بعد خراج القاضي أبو يوسف وخراج الفقيه أبن ادم. فقبل هؤلاء كانت الكتابات الاقتصادية عبارة عن أبحاث ودراسات تتناول مسألة محددة. وبعدهم تحولت البحوث إلى كتب جامعة تتناول مختلف المسائل. ولد ابن سلاّك في العام 150 هجرية وقيل 154 هجرية في هراة، وأخذ علومه من فقهاء البصرة والكوفة، وألف أكثر من 20 كتاباً في علوم القرآن والفقه واللغة والحديث. توفي ابن سلاّم في مكة في خلافة المعتصم العباسي. وهناك خلاف على سنة وفاته، فذكر البعض سنة 222 وقيل 223 وبعضهم الآخر قال 224 هجرية. يبدأ ابن سلاّم كتابه بكلام عام يؤكد فيه على فكرة العدل في الإسلام وصلاحيات الإمام ومسؤولياته. فالدين نصيحة والإمارة أمانة، والخليفة يقضي بكتاب الله وسنة رسوله. والله بحسب حديث للرسول "يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس في الدنيا" ص51. وانطلاقاً من المبادئ العامة، يدخل ابن سلاّم في تفاصيل كثيرة عمد إلى تبويبها في كتب وأجزاء منفصلة درست كل حقل من حقول الاقتصاد الإسلامي ومصادر دخل الدولة ووجوه انفاقها. فشرعية الأموال تعتمد على ما جاء نصه في الكتّاب والسنة وأحاديث الرسول وكتبه ومعاهداته وهي كلها تشكل الأساس النظري - التاريخي لدراسة مختلف الوجوه التي منها يرد المال ويتم انفاقه على الأصناف وفئات الناس. ففي الكتاب هناك آية ورد فيها ذكر رأس المال "فلكم رؤوس أموالكم لا تُظلمون ولا تظلمون" سورة البقرة، الآية 279. إلى الآيات والأحاديث عتمد ابن سلاّم على كتب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي بمثابة معاهدات تمت في زمنه مثل كتابه بين المهاجرين وأهل يثرب دستور المدينة، وكتاب الصلخ لأهل نجران، وكتابه لثقيف، ولأهل دومة الجندل قرية تقع بين دمشقوالمدينة، ولأهل هجر قاعدة في البحرين، وكتابه لأهل أيلة مدينة على البحر الأحمر وتقع على حدود الحجاز والشام، وكتابه إلى خزاعة وهم حلفاء الرسول، وكتابه إلى زرعة بن ذي يزن اليمن وغيرها من كتب ورسائل إلى أفراد وقبائل ومناطق ونواحي ورد فيها العديد من النقاط التي هي أشبه بالمواثيق الدولية في زمننا. اعتمد ابن سلاّم على هذه الكتب كمصادر إضافية لقراءة المعاهدات وشروط الصلح وتنظيم العلاقات بين الدولة والرعية. ومنها انطلق لتعريف المصطلحات كالغنيمة هي كل ما أصابه المسلمون من عساكر المشركين بالقتال، والفيء هو كل مال وصل من المشركين إلى المسلمين عفواً من غير قتال ولا بايجاف خيل أو ركاب، والصدقة وهي زكاة أموال المسلمين، والجزية وهي ضريبة تؤخذ من أهل الكتّاب، والعشر وهي ضريبة تؤخذ من أرض المسلم أم من تجارة أهل الحرب في أرض المسلمين، والخراج وهي ضريبة تفرض على أرض المعاهد وهي نوع من الفيء، والمكس وهي ضريبة يأخذها الماكس وأصلها الجباية وتأتي من العشور والتجارة. وبرأي ابن سلاّم ان الكتاب والسنة فرق بين حكم البر والبحر "فجعل ما في البحر مباحاً لآخذه على كل حال، وكذلك نرى سائر ما يخرج منه بمنزلته" ص342. ويركز كتاب "الأموال" على مصدرين ماليين لخزانة الدولة وهما: البشر والأرض. ويعدد أنواع المال في فترة الرسول وبعد رحيله، والخلافات التي ظهرت بين العلماء على تحديد الأسهم وكيفية انفاقها. ثم يعدد أنواع الأرض والاجتهادات التي استنها الخلفاء لتنظيم ملكية الأرض وخراجها. ويرى ابن سلاّم ان مصدر الخلاف الشرعي بين العلماء والفقهاء هو أن بعضهم اعتمد على آية الفيء وبعضهم الآخر على آية الصدقة. فافترقت بذلك الاجتهادات، خصوصاً في مسألة الانفاق. فآية الفيء آية عامة خصت الله والرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفقراء المهاجرين. بينما اية الصدقة آية خاصة، إذ اشتملت على ثمانية أصناف: الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ص237. وعلى هذا يصرف الفيء على وجوه خمسة كما وردت في سورة الحصر، بينما يوزع مال الصدقة على الأصناف الثمانية التي وردت في سورة براءة ص263. يبدأ ابن سلاّم كتابه عن المال بذكر الأموال وما كان منها للرسول خالصاً من دون الناس، وصنّفها إلى ثلاثة: الفيء، الصفي، خمس الخمس. فالفبء هو ما أفاء الله على رسوله من المشركين، والمال الصفي هو ما كان يصطفيه من كل غنيمة يغنهما المسلمون قبل أن يقسم المال، وخُمس الخمس وهو بعد أن تقسم الغنيمة وتخمس. فالمغانم تجزأ خمسة أجزاء ثم يسهم عليها وسهم الرسول خُمس الخمس. كانت الغنيمة أيام الرسول مقسمة على خمسة أخماس. أربعة منها لمن قاتل عليها، وخُمس واحد مقاسم على أربعة أسهم. فربع لله ورسوله ولذي القربى، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل صفحة 20. وتعتبر الانضال من الغنائم بل هي الغنائم، وفيها الخمس. والنفل هو "كل نيل يناله المسلمون من اموال اهل الحرب" ص 303، ويقسم بعد تخميسه، وفق اربع سنن وهي كالآتي: ما لا خمس فيه، ما يكون من الغنيمة بعد اخراج الخمس، ما يكون من الخمس نفسه، وما يكون من جملة الغنيمة قبل ان يخمس منها شيء. وهناك من يقول "انه لا نفل من جملة الغنيمة حتى تخمس" ص 319. بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم اختلف الناس في السهمين الله ورسوله واختلف حكم الخمس وحكم الصدقة وان اختلافهما "كان من اجل ان الخمس انما هو من الفيء، والفيء والخمس جميعاً اصلهما من اموال اهل الشرك" ص 324. فالكتاب برأي ابن سلاّم "قرن الفيء والخمس في معنى واحد، ولم يميز بينهما، وإبان الصدقة من ذلك بمعنى سوى هذا" ص 325. صارت الأموال بعد رحيل الرسول على ثلاثة اصناف وهي: الفيء، والخمس، والصدقة. وهي "ما نزل بها الكتاب وجرت بها السنة، وعلمت به الأئمة" ص 21. وكانت توزع على المسلمين في زمنهم، وأضالف الخليفة الراشد الثاني من شملتهم الآية "والذين جاؤوا من بدهم" فاستوعبت هذه الآية الناس كلهم اضافة الى الاصناف الخمسة آية الفيء والاصناف الثمانية آية الصدقة فلم "يبق من المسلمين الا له فيها حق" ص 22. وبرأي ابن سلاّم ان اموال الفيء والخمس والصدقة "هي اسماء مجملة يجمع كل واحد منها انواعاً من المال" ص22. فمال الصدقة هي زكاة اموال المسلمين من الذهب والفضة والابل والبقر والغنم ولحبوب والثمار وهي للاصناف الثمانية "لا حق لأحد من الناس فيها سواهم". ومال الفيء وهو ما اجتني من اموال اهل الكتاب مما صولحوا عليه، وتشمل الجزية، وخراج الارضين ما افتتح عنواة ثم اقرها الامام في ايدي اصحابها على ضريبة او مكيال يؤدونه او "ارض الصلح التي منعها اهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمى، او ما يأخذه العاشر من ضريبة مرور على تجارة اهل الكتاب، او ما يؤخذ من البلاد الاخرى اهل الحرب اذا دخلوا بلاد الاسلام للتجارة "فكل هذا من الفيء" ص 23. ويوزع مال الفيء على عامة المسلمين غنيهم وفقيرهم، فيكون "في اعطية المقاتلة، وارزاق الذرية، وما ينوب الامام من امور الناس بحسب النظر للاسلام وأهله" ص23. ومال الخمس وهو خمس غنائم اهل الحرب، والركاز الكنز العادي ذهب وفضة تخرج من الأرض، وما يكون من غوص اللؤلؤ، او معدن، واختلف اهل العلم على توزيع مال الخمس بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال بعضهم هو للاصناف الخمسة المسمين في الكتاب آية الفيء. وقال الخليفة عمر بن الخطاب هو للاصناف الثمانية آية الصدقة. وقال بعضهم سبيل الخمس سبيل الفيء ويكون حكمه للامام "ان رأى ان يجعله فيمن سمّى الله جعله. وإن رأى أن أفضل للمسلمين وأنقع عليهم أن يصرفه إلى غيرهم صرفه" ص23. وشرط جباية المال، برأي ابن سلاّم، هو العدل والرفق بالإنسان. فالجزية والخراج "إنما هما على قدر الطاقة من أهل الذمة، فلا حمل عليهم، ولا أضرار بنفء المسلمين، ليس فيه حد موقت" ص49. لذلك يمكن تأخير الجزية والخراج للرفض بهم. فهما غير مرتبطين بزمن محدد ص51. كذلك تفاوتت الجزية اجتماعياً فكان مقدارها على الأغنياء 48 درهماً في السنة، وعلى متوسطي الحال 24 درهماً، وعلى الفقراء 12 درهماً. وضرب الخليفة عمر الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وأل الفضة 40 درهماً. وضرب الجزية على أهل السام أكثر من أهل اليمن، لأن أهل الشام من أهل اليسار أغنياء. كذلك كانت ضريبة الأرض خراجها. فالزيادة أو النقصان تأتي بحسب الطاقة والقدرة والمكانة الاجتماعية والبيئة الجغرافية والمهنة. بعد احكام البشر كمصدر للمال يأتي ابن سلاّم إلى احكام الأرض وهي ثلاثة: أرض اسلم عليها أهلها فهي لهم ملك ايمانهم وهي أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحاً على خراج معلوم فهم على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه، وأرض أخذت عنوة فاختلف على حكمها المسلمون على اجتهادين وهما: أ - سبيلها سبيل الغنيمة، فتخمس وتقسم فيكون أربعة أخماسها خططاً بين الذين افتتحوها خاصة ويكون الخُمس الباقي لمن سمى الله. ب - حكمها والنظر فيها يعود إلى الإمام، ان رأى ان يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها، كما فعل الرسول بخبير فذلك له. وان رأى ان يجعلها فيئاً فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا، كما صنع عمر بن الخطاب بأرض السواد في العراق ص64. واختلفت أحكام الأرض غير المفتوحة. فحكمها يعود للإمام، فإما أن يقطعها اقطاعاً، أو يستخرجها المسلمون بالأحياء، أو يحتجزها بعضهم من دون بعض بالحِمى. فالحكم يعود للإمام فإن شاء لم يجعلها غنيمة ولا فيئاً وردّها على أهلها الذين أخذت منهم ص73. وعلى هذا توزعت الأراضي إلى ثلاثة أصناف: فأرض المسلمين أرض عشر، وأرض المعاهد أرض صلح يؤخذ على ما صولحوا عليه، وأرض العنوة أرض خراج، فهي فيء للمسلمين. ومن اسلم من أهل الصلح أحرز نفسه وماله إلا الأرض، فإنها فيء وغلتها للمسلمين. ففي حديث للرسول "انه من أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فإن الاسلام يهدم ما كان قبله" ص170. إلى هذه الأصناف هناك العطاءات وهي تلك التي قام بها الخليفة الثاني بعد فتح العراق والشام، فبدأ بأهل الرسول وزوجاته، ثم علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين، ثم لمن شهد بدراً من بني هاشم، ثم المهاجرين وحلفاءهم، ثم الأنصاتر ومواليهم ص232. واتبع الخلفاء الراشدون سنة عمر فوزعوا العطاءات واختلفت النسب بحسب الأقدمية والقرابة وصولاً إلى الموالي، وأهل المدن الحواضر وأهل الصحراء البدو، إذ كانت تؤخذ الصدقة من أهل البادية وليس الفيء لأن عمر أوصى بالاعراب "فهم أهل العرب ومادة الإسلام" ص240. إلى العطاءات هناك الاقطاع. فالرسول اقطع في عهده بعض الصحابة أراض في اليمامة مجاعة بن مرارة وخيبر الزبير والعقيق بلال بن الحارث واليمامة فرات بن حيان وأرض في بلاد الروم أبو ثعلبة الخشني وقرية في بيت لحم وبلدات في بلاد الشام تميم الدارمي والملح في مأرب أبيض بن المازني. واقطع الخليفة الأول أبو بكر أرضاً لطلحة بن عبيدالله وقطع أيضاً لعيينه بن حصن. واقطع الخليفة الثاني أرضاً في البصرة لرجل من ثقيف نافع أبو عبدالله واشترط عمر على أن لا تكون أرض جزية ولا أرضاً يجري إليها ماء جزية. واقطع الخليفة الثالث عثمان بن عفان خمسة من أصحاب الرسول ص280. إلى الاقطاعات هناك الصوافي، وهي تلك التي أصفاها عمر من السواد وهي عشرة أصناف: أرض من قتل في الحرب، أرض من هرب من المسلمين، كل أرض لكسرى، كل أرض لأهل كسرى، كل مغيض ماء، وكل دير نريد، وأراضٍ جلى عنها أهلها "فلم يبقى بها ساكن ولا لها عامر" ص285. إلا أن الإسلام أعطى الأولوية لاحياء الأرض وعمارتها وجاءت أحكام في احياء الأرض واحتجازها والدخول على من أحياها على ثلاثة أوجه: ان يأتي الرجل الأرض الميتة فيحييها ويعمرها، أن يقطع الإمام أرضاً مواتاً إلا أن الرجل يفرط في عمارتها حتى يأتي آخر فيحييها ويعمرها وهو يحسب أنه ليس لها مالك، وأن يحتجز الرجل الأرض ثم يدعُها فلا يعمرها ويمتنع غيره من احيائها لمكان حيازته واحتجازه. ففي كل هذه الحالات تكون الأرض لمن أحياها، ص291. فالأفضلية دائماً لمن اعتنى بالأرض. الانتاج في المعنى المذكور يسبق الملكية الخاصة اقطاعات، عطاءات، صوافي والناس في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم شركاء في الماء والكلأ والنار، والمسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ص297. إلى الشراكة في الثلاثة هناك العدالة في توزيع الثروة، فالخليفة عمر قال لمعاذ بن جبل: لم أبعثك جابياً ولا آخذاً جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم. ص550. * كاتب من أسرة "الحياة".