تتوازى السيرة الفنية للمخرج الجزائري أحمد راشدي مع سيرة السينما الجزائرية، منذ بدايتها الفعلية في منتصف الستينات، إذ ارتبطت باسمه نجاحات باهرة، كمخرج وكاتب سيناريو ومدير ومنتج، ومن هذه النجاحات أفلام الانتاج المشترك، وهي التي تولد بصعوبة وتتعثر، أو تواجه المواقف المضادة المسبقة، في السينمات العربية الأخرى. هاجر أحمد راشدي مع عدد كبير من السينمائيين الجزائريين وتوقف الانتاج السينمائي في ظل الارهاب الأصولي في الجزائر منذ أوائل التسعينات، لكن الأحلام لم تنته عند راشدي، وكان في تكريمه الذي تم في مهرجان السينما العربية الأول في البحرين، بداية ربيع هذا العام، لمسة طيبة لاستعادة الحلم والألم معاً، الحلم الذي صنعته السينما الجزائرية، ومنها أفلام راشدي التي شكلت ذاكرة شعب دفع ثمناً غالياً للاستقلال، وهو يدفع الآن ثمناً مراً للارهاب من الداخل، في رحلة الألم، نتيجة للغباء المشترك بين الأصوليين والعسكر في فهم معنى الوطن. كل شيء فتح أحمد راشدي صدره وذاكرته ليحكي عن كل شيء، في الحوار الطويل الذي أجرته معه الدكتورة ماجدة واصف، وصدر في كتيب موثق بالصور، من أربعين صفحة، من مطبوعات مهرجان السينما العربية الأول في البحرين، بعنوان "أحمد راشدي، من تبسة الى هوليوود، مسيرة سينمائي ملتزم"، كذلك تحدث في الندوة الخاصة بتكريمه وأجاب عن كل الأسئلة الحائرة. بصراحة واقعية تحدث راشدي عن الانجازات الكبرى والخراب الكبير معاً، كانت الانجازات صعبة بينما كان الخراب سهلاً جداً. خمسمئة وخمسون صالة عرض في الجزائر كانت تعرض الأفلام الجزائرية والعربية والأجنبية تحولت خرائب وأشياء أخرى... وهاجر اثنا عشر ألف مثقف جزائري وعشرة آلاف استاذ جامعي، بينما يستخدم المتطرفون أساليب بشعة مع الذين لم يتمكنوا من قتلهم بالرصاص أو ذبحهم أو حرقهم بالنار، إذ يعلقون صورهم وقوائم بأسمائهم في المساجد، ويطاردونهم برسائل تهديد مستمرة، عبر البريد، أو مع أطفالهم في المدارس أو بالهاتف، وعلى رأس قوائم المهددين بالقتل الكاتب الجزائري الكبير كاتب ياسين وأحمد راشدي نفسه. في ربع قرن، منذ منتصف الستينات، كانت السينما الجزائرية تقدم أفلاماً مثيرة وتؤسس بنية سينمائية تحتية صلبة منها الأرشيف الوطني الذي يضمه السينماتيك الجزائري والاستوديوهات وصالات العرض الحديثة والمركز القومي للسينما، وارتبط نشاطها بنجاحات افلام عالمية، إذ مولت فيلم "زد" لكوستا غافراس الذي حصل على الأوسكار، لأفضل فيلم أجنبي عام 1969، ومن قبله كان فيلم "معركة الجزائر" في الانتاج المشترك مع ايطاليا، وقد فاز بجائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان فينيسا 1966، وهو من اخراج جيلو بونتيكورفو، ومولت أيضاً فيلم "العصفور" ليوسف شاهين، وكان فيلم "تاريخ سنوات الجمر" أضاف نجاحاً عالمياً الى السينما الجزائرية حين حصل على "السعفة الذهبية" لمهرجان "كان" عام 1975. ولم يكن نجاحه خاصاً بالمخرج الأخضر حامينا، وإنما كان نجاحاً للسينما الجزائرية والسينما العربية معاً. كانت السينما الجزائرية جريئة في مواكبة الأحداث الساخنة على خطوط النار قبل الاستقلال وجريئة في تشريح المشكلات المستجدة بعد الاستقلال، وفي نقد السلطة والظواهر الاجتماعية المتخلفة، وفي الكشف عن معاناة المهاجرين والأجيال الجديدة والنساء والعمال والعاطلين من العمل، وصورت التخلف الذي يعيشه الريف الجزائري، وعلاقات المجتمع الجزائري بالماضي والحاضر والمستقبل. ذاكرة مزدحمة تزدحم ذاكرة أحمد راشدي بالصور المتحركة من الماضي القريب. ويتذكر علاقته الحميمة بالعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، ولقاءاتهما ومشروع الفيلم الذي لم ينجز بسبب الموت المفاجئ لعبدالحليم. لكن الوفاء للصداقة دفع راشدي الى انجاز فيلم تسجيلي رائع عند المطرب الراحل. لم يستطع راشدي أن ينجز فيلماً عن رواية أمين معلوف "ليون الافريقي" لأنه لم يتمكن من تأمين التمويل اللازم لهذا الفيلم في الوقت المحدد، وقد كان يطمح الى أن يقول فكرة واضحة من خلال هذا الفيلم: "أعتقد أن شخصية ليون الافريقي وتجربته تكشفان بصورة كبيرة الأسباب التي تقود اليوم بلداً مثل الجزائر الى هذا المأزق الذي يعيش فيه منذ سنوات، فهذا الانغلاق على الذات هو الذي يساعد على نمو التيارات السلفية وعدم الاستفادة من التفاعل بين الحضارات". لكن اخفاق راشدي في انجاز هذا الفيلم لم يحطم أحلامه بالسينما، فهو يطمح الآن الى تحقيق فيلم عن رواية للكاتب المصري بالفرنسية ألبير قصيري بعنوان "ثورة للبيع" تحكي قصة شركة متعددة الجنسيات تبيع "انقلابات جاهزة". وهكذا يتضاءل الكثير من متاعب السينمائيين العرب أمام متاعب أحمد راشدي الذي واكب ولادة السينما الجزائرية، لكنه لا يزال يحلم في المنفى بعودته الى الجزائر والى أحضان السينما الجزائرية.