تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    "الأرصاد"استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيان أزهر هذا الزمان: المقدّمات والضغوط وطبيعة الاستدلالات في قراءة عمل أدبي
نشر في الحياة يوم 25 - 05 - 2000

صفات دالة وسمت سلوك المؤسسة الأزهرية طوال عاصفة تكفير رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر". تتصل أولى هذه الصفات بالنزوع إلى سوء الظن بالرواية، والميل إلى اتهامها، نتيجة المقتطفات التي ابتسرت من سياقاتها، والحملة التحريضية التي انهالت على صاحبها. وتتصل ثانية هذه الصفات بالمبادرة إلى إيقاع التطابق الحرفي بين شخصيات العمل الأدبي ومعتقدات صاحبه، ومن ثم النظر إلى كل ما يأتي على لسان الشخصيات المتخيلة بوصفه دليلا على نيات المؤلف، وشهادة على معتقداته التي ينطقها على ألسنة شخصياته. ويتصل بهاتين الصفتين ما يكمن خلفهما من حساسية دينية مفرطة لا تزال تنطوي عليها المؤسسة الأزهرية، خصوصا إذا مسَّ الإبداع - ولو عرضا - معتقدات المسلمين من قريب أو بعيد، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر. ويبدو الموقف - من هذا المنظور - كما لو كان هناك تسوية متفق عليها بين أعمال الإبداع وأعمال الفكر، وبين المؤلفات الدينية والمصنفات الفنية، وذلك في دائرة المحاسبة الاعتقادية المتشددة التي قد تجعل من المجاز حقيقة، ومن الشخصيات المتخيلة شخصيات متعينة تشير إلى المؤلف الذي لا بد من محاسبته على كتاباته. ولا تنفصل هذه التسوية التي أشير إليها عن نوع من الاسترابة المسبقة إزاء الأعمال الإبداعية، وضيق الصدر الذي لا يعرف التسامح إزاء الملتبس من عباراتها وتراكيبها. والاسترابة المسبقة وضيق الصدر أمران لافتان في موقف المؤسسة الأزهرية من الأعمال الإبداعية والفكرية في السنوات الماضية بوجه خاص، ودليل ذلك كثرة الأعمال التي أدانها "مجمع البحوث الإسلامية"، وهو إحدى هيئات الأزهر الأساسية. ولولا تدخل الرئيس مبارك شخصيا، نتيجة شكاوى المثقفين، وإصراره على سيادة القانون، ومن ثم منع المصادرة إلا بحكم قضائي، لمضى "مجمع البحوث الإسلامية" فيما كان قد انطلق فيه من أفعال المصادرة على كل ما رآه بعض أعضائه خارجا على الدين حسب تأويل هذا البعض. وقوائم مصادرات هذا المجمع كاشفة عن اتجاه سائد، متشدد في نزوعه التحريمي. ونتيجة هذا الاتجاه المسارعة إلى اتهام ما قد يبدو ظاهره مخالفا لما هو معهود حتى لو كان على سبيل المجاز والرمز، بل حتى لو كان مقطوعا من سياقه الذي لا يخالف الدين بالضرورة، أو يمكن البحث له عن وجه من أوجه التأويل التي تعتمد على مبدأ حسن الظن بكتابة المبدعين، تلك الكتابة التي لا يمكن الحكم عليها إلا بمجمل علاقات مبناها وليس باقتطاع هذه الجملة أو تلك الفقرة من سياقاتها.
والواقع أن هذا الموقف المتشدد له تاريخه الطويل في ممارسات المؤسسة الأزهرية، خصوصا ما يرجع من هذه الممارسات إلى بقايا تطرف التعصب الذي عانى منه الإمام محمد عبده 1849-1905 في محاولته إصلاح الأزهر ولم يستطع أن يقضي عليه نهائيا، فقال لتلميذه محمد رشيد رضا 1865-1935: "إن إصلاح الأزهر أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ ورسوخ العادات القديمة عندهم، وإن هذا الإصلاح لا يتم إلا في زمن طويل". وللأسف، لم يكتمل حلم الإمام الجليل بمشاهدة إصلاح الأزهر في حياته، فرحل عن دنيانا الفانية منطويا على حلمه، وظلت ممارسات الأزهر في الحياة الثقافية العامة تصطدم بطلائع المجتمع المدني التي سعت إلى استخدام حقوقها الدستورية في ممارسة حريتها الفكرية والإبداعية، فكانت لها المؤسسة الأزهرية بالمرصاد في كل مرة، الأمر الذي دفع -فى مطلع النصف الثانى من الثلاثينيات - شاعرا مثل أحمد زكي أبو شادي 1892-1955 إلى القول: "الأزهر في الوقت الحاضر يمتاز بأنه عش فسيح للرجعية، وقد ضج المصلحون بالشكوى منه، وشيوخه الأجلاء مستعدون للاستماع لكل دسيسة، ومحاربة المفكرين بشتى الأساليب التي يمقتها الإسلام نفسه... وهذه حالة من الفساد لاتطاق، وقد كادت تخنق حرية الرأي في مصر، كما كادت تقضى على الأخلاق الإسلامية نفسها. والشواهد على ذلك مع الأسف أكثر من أن تعد حتى في أثناء قيام الدستور". وأنا لا أريد أن أستخدم في وصف المؤسسة الأزهرية ما سبق أن وصف به الأزهر شيخ جليل رفيع القدر من طراز الإمام محمد عبده، أو شاعر مجدد ورمز من رموز الفكر المدني مثل أحمد زكي أبو شادي، فتاريخ الأزهر إلى اليوم عامر برموز الاستنارة التي لا تسمح بالتعميم. ولذلك أكتفي بملاحظة درجة التصاعد في تشدد ممارسات الأزهر المتصلة بحرية الفكر والإبداع، وآخرها إصراره على أخذ رأيه بالموافقة على كل كتاب فكري أو عمل إبداعي أو مصنف فني يمس الإسلام من قريب أو بعيد، وتنصيبه بذلك نفسه حكما فيما ليس من صميم اختصاصه الذي حدده القانون رقم 103 لسنة 1961، والذي أناط بالأزهر مهام محددة، هي: حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره، وحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب، والعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في تقدم البشرية، وتزويد العالم الإسلامي والوطن العربي بالمختصين وأصحاب الرأي فيما يتصل بالشريعة الإسلامية والثقافة الدينية ولغة القرآن، وتخريج علماء عاملين متفقهين في الدين.
وليس في هذه المهام أو ما يشبهها ما يتصل بالرقابة على الفكر والإبداع، أو إقامة محاكم تفتيش لمحاسبة الأعمال الأدبية على ما فيها من احتمالات المساس بالدين، أو منازعة وزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص بالمصنفات الفنية، ففي ذلك كله مجاوزة للاختصاص، وإدخال رجال الدين فيما ليس من صميم عملهم، خصوصا عوالم الأعمال الإبداعية التي تتوسل بلغة المفارقة، وتعتمد على التباس المجازات ومراوغة الرموز التي لا يمكن حصرها في معنى واحد أو إشارة وحيدة البعد، ولايمكن الحكم عليها إلا بعد إدراك مجمل علاقاتها وتعدد مستوياتها التي لايمكن فهمها باقتطاع جملة أو جمل من سياقها. ولست في حاجة إلى تأكيد أن خصوصية الأعمال الإبداعية والفنية تفرض على من يحكم عليها أن يكون خبيرا بها، قادرا على فهم احتمالاتها الدلالية المختلفة، فلا يحصرها في معنى بعينه، أو يختزلها في جزء من أجزائها، أو يقيم تطابقا بين أقوالها ونوايا مؤلفها.
وقد راجعت مهام مجموع البحوث الإسلامية في ضوء قانون تطوير الأزهر القانون 103 لسنة 1961 وفى ضوء اللائحة التنفيذية للقانون الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975 فوجدت أن هذه المهام مرتبطة بالبحث العميق الواسع في الفروع المختلفة للدراسات الإسلامية، والعمل على تجديد الثقافة الإسلامية، وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفى كل بيئة، وتحقيق التراث الإسلامي ونشره، وبيان الرأي فيما يجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة، وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ومعاونة جامعة الأزهر في توجيه الدراسات الإسلامية في مرحلة الدراسات العليا والإشراف عليها والمشاركة في امتحاناتها، ورسم نظام بعوث الأزهر إلى العالم، والبعوث الوافدة من العالم إليه. وكل هذه مهام جليلة. لكن ما علاقتها بمراقبة الأعمال الإبداعية والمصنفات الفنية، وما صلتها بالتفتيش في نوايا الكتّاب والمثقفين، واقتطاع هذه الجملة أو تلك الفقرة من سياقاتها في عملها، وجعلها دليلا على كفر هذا المؤلف أو ذاك؟ وكيف يمكن أن تؤدي المصادرة ولغة التكفير معنى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؟ ولماذا يستبدل هذا المجمع بالبحث العميق الواسع في الفروع المختلفة للدراسات الإسلامية تشديد الفكر على كل مسلم مخالف في الرأي أو التأويل أو الاتجاه؟ ولماذا يقحم المجمع الأفاضل من علمائه فيما لايملكون أدوات البحث فيه من مناهج التفسير الأدبي وطرائق التأويل النصي أو تقنيات التحليل السياقى لأعمال الفن؟
وأتصور أن الأزهر عندما يضع نفسه موضع الحكم على الأعمال الأدبية فإنما يسرف على نفسه، ويسرف على الناس، ويترك مهامه الأكثر أهمية لأعمال يمكن أن ينهض بها عنه نقاد أكثر دراية بمسالك الأعمال الإبداعية وشعابها المراوغة التي يمكن أن تضلل غير الخبير بها. وليت الأزهر يستكمل تحقيق التراث الإسلامي ونشره، وليته يواصل حلم الإمام محمد عبده بتجديد الفكر الإسلامي الذي ينبغي أن يتصدى بقدرة المعرفة المتطورة إلى كل مشكلات العصر الذي نعيشه، وليته يدعو الناس إلى المجادلة بالتي هي أحسن والكف عن استخدام لغة التكفير التي تشعل الفتنة بين أبناء الأمة، وليته يرفع المستوى الثقافي العام لطلابه وطالباته الذين يقبلهم بأدنى المجاميع، وليته يشيع الميراث العقلاني للإسلام بين هؤلاء الطلاب والطالبات حتى لا يحكموا على كتاب إلا بالبينة القاطعة وبعد قراءة فاحصة. وليت الأزهر، إلى جانب ذلك كله، يمضى قدما في التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية وتوسيع دائرة الحوار بينها، وليته يخرج من جامعاته علماء كلام معاصرين، يقدمون النموذج الأمثل للمعرفة المتطورة والقدوة في التسامح وتقبل الاختلاف. ولكن يبدو أن المؤسسة الأزهرية معذورة في جنوحها إلى التشدد في السنوات الأخيرة، وفى تركها الأصول والانصراف إلى الفروع، وذلك نتيجه الضغوط الواقعة عليها. وهي ضغوط كثيرة: منها ما يرجع إلى اتساع مدى تيارات التطرف الديني في المجتمع المصري، وما يلزم عن ذلك من تأثير سلبي مباشر أو غير مباشر، تأثير يتحول إلى عوامل تسهم في توجيه الاهتمام وردود الأفعال إزاء الاتهامات الموجهة إلى الأزهر ورجاله، ومن ثم، الوقوع في شراك خطاب التطرف السائد في المجتمع، واستخدام بعض آلياته بوعي أو دون وعي. ويتصل بذلك اختراق بعض جماعات التطرف ساحات الأزهر، وعملها تحت مظلته. ولا يزال ماثلا في أذهان المثقفين المصريين الأثر المدمر الذي مارسته "جبهة علماء الأزهر" التي تولت مهمة تكفير المخالفين لها في الاجتهاد والتأويل الديني، ومن ذلك حملة التكفير العنيفة التي شنتها هذه "الجبهة" على مفكر إسلامي في قامة حسن حنفي، وذلك في موازاة حملاتها التي نالت من شيخ الأزهر نفسه، ولم تتوقف إلا بعد تدخل بعض أجهزة الدولة والحيلولة بين متطرفي هذه "الجبهة" ومواصلة إشعال نار الفتن التكفيرية.
ولا ينفصل عن هذه الضغوط تأثيرات خارجية، تجاوبت مع عوامل داخلية، انتهت إلى تعاظم الضغط الواقع على الأزهر، ومن ثم دفعه دفعا إلى الانغماس في تيار التكفير الذي لم يبدأ من داخل الأزهر لحسن الحظ، وإنما فرض عليه من الخارج فرضا، حيث جماعات التطرف وقوى الضغط السياسي التي تتخد من الإسلام شعارا لها، ومن الدولة الدينية هدفا لممارستها. وهى الجماعات والقوى التي عملت على إشاعة أفكار التطرف الديني ومؤلفاته، كما عملت على اختراق الأزهر وتفعيل إمكانات التطرف لدى بعض أساتذته، جنبا إلى جنب إشاعة عدوى التكفير بين طلاب الأزهر الذين تحولوا، بدورهم، إلى قوة ضغط مؤثرة، خصوصا بعد أن اخترقهم المحرضون التابعون للأحزاب السياسية التي تخلط بين الدين والسياسة، أو تتوسل بالخطاب الديني من أجل الإقناع السياسي.
وحالة تكفير الأزهر رواية حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر" حالة نموذجية لبيان هذه الضغوط وتأثيرها. ولنلاحظ، أولا، أن عاصفة تكفير الرواية بدأتها صحيفة حزبية، هي صحيفة "الشعب" الناطقة باسم "حزب العمل" الذي سيطرت عليه توجهات جماعة الإخوان المسلمين المحظورة. ولنلاحظ، ثانيا، أن هذه العاصفة كانت بمثابة مواجهة سياسية للدولة المدنية باستخدام مفردات الخطاب الديني، والوصول بهذه المواجهة إلى أقصى ديماغوغية التكفير الصريح للكاتب من ناحية، والحض على اغتياله واغتيال كل من أعان على نشر روايته من كفّار وزارة الثقافة المصرية من ناحية ثانية، وتحريض خطباء المساجد وتهييج مشاعرهم الدينية من ناحية ثالثة. وكان ذلك في موازاة بعض المحرضين الحزبيين الذين علقوا منشورات الصحيفة بين الطلاب، وظلوا يستفزون مشاعرهم الدينية إلى أن ثار الطلاب، وقاموا بمظاهراتهم، فلم يتحولوا إلى قوة ضغط على الدولة فحسب، وإنما قوة ضغط على المؤسسة الأزهرية ابتداءً، خصوصا بعد أن وجد هؤلاء الطلاب تشجيعا من بعض أساتذتهم الذين أكدوا لهم - دون قراءة - أن الرواية كافرة، ومؤلفها كافر، وناشرها كافر، والساكت عن كفرها ليس أقل كفرا. وكانت النتيجة الأولى للانفجار الطلابي بيانات رئيس جامعة الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم الذي هو رئيس لجنة الشؤون الدينية والاجتماعية والأوقاف في مجلس الشعب. وقد أصدر رئيس الجامعة الأزهرية بيانه الأول الموجه إلى طلابه يوم الاثنين الثامن من آيار مايو بعد أن كانت التظاهرات قد وصلت إلى ذروتها. وأخبر البيان الطلاب أن رئيس جامعتهم اتصل بكل من رئيس الوزراء الذي حرص على حماية الطلاب من العناصر الدخيلة، ورئيس مجلس الشعب الذي طالب بإعداد تقرير فوري عن الكتاب لاتخاذ الإجراء القانوني، ووزير الثقافة الذي "أفاد أنه لم يعد يوجد في السوق أية نسخة من الكتاب... ولن يدخل بعد ذلك، وأنه تم تشكيل لجنة بشأنه". وطمأن البيان الطلاب إلى "اتخاذ الإجراءات القانونية لدى القضاء من منطلق القوانين التي تحكم هذا التصرف مع غير المصريين بالنسبة للكاتب السورى صاحب هذا الكتاب"، وأهاب رئيس الجامعة بطلابه في خاتمة البيان أن يولوا دروسهم الاهتمام الأول، ويتركوه يقوم بالاتصالات اللازمة لاتخاذ الحل السريع. ولست في حاجة إلى التنبيه على أن لغة البيان انطوت، ضمنا، على إدانة للرواية لا تخطئها العين، وذلك على نحو بدا معه رئيس الجامعة كما لو كان قد اتخذ موقفه السلبي، وأصدر حكمه باتهام الرواية، نتيجة الضغط الداخلي للطلاب أولا، والضغط الخارجي لجماعات التكفير ثانيا. ولم يكن رئيس جامعة الأزهر قد قرأ الرواية في اليوم الذي أصدر فيه بيانه الأول، ولا بيانه الثاني الذي أبلغ فيه طلابه بأنه - نتيجة لاتصالاته بالمسؤولين - تم سحب الرواية من الأسواق ولم يعد لها وجود، وأصدرت النيابة قرارها بإجراء التحقيق مع المسؤولين في وزارة الثقافة عن إعادة إصدار الكتاب. وكنت قد أرسلت الرواية بنفسي في مساء يوم 8 آيار مايو للدكتور أحمد عمر هاشم، بعد أن وافق على أن ينضم إلى اللجنة التي شكلها وزير الثقافة لقراءة الكتاب، وكانت تضم عبدالقادر القط ومصطفى مندور وأحمد هيكل وكامل زهيري وصلاح فضل. ولكنه لم يحضر اجتماع اللجنة في اليوم التالي، ولم يعتذر، فاضطر الحاضرون من أعضاء اللجنة إلى كتابة التقرير الجماعي الذي كان خلاصة لتقاريرهم الفردية. والمفارقة الدالة في تتابع أحداث الموقف أنه في اليوم نفسه المحدد لاجتماع اللجنة الثلثاء التاسع من أيار - مايو وقبل بداية الاجتماع بساعات معدودة، ومع اشتداد المتظاهرات وتصاعد هتافات الطلاب ضد رئيس الجامعة نفسه، أصدر الرجل بصفته رئيس لجنة الشؤون الدينية والاجتماعية والأوقاف في مجلس الشعب بياناً نارياً، تستنكر فيه اللجنة "ما تضمنه كتاب وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري المدعو حيدر حيدر". وتطالب اللجنة "بسرعة مصادرة" الكتاب وسحب نسخه من السوق وحظر نشره أو تداوله لما يشتمل عليه من إساءة للمقدسات الإسلامية، والتطاول على القيم العليا والمبادئ "التي تعتز بها مصر رئيسا وحكومة وشعبا ويعتز بها كل مسلم". وطلبت اللجنة محاسبة كاتب الكتاب وناشره وكل من أسهم بطريقة أو بأخرى في إذاعة محتوياته، وأهابت بجميع القراء عدم تداول الكتاب أو قراءته "فهو لا يستحق إلا أن يحرق حتى لا يكون عاملا من عوامل الفساد في المجتمع". ولم يفت اللجنة الدعوة إلى أن "تقوم الرقابة على المصنفات الفنية بعرض كل كتاب يشتمل على أمور الدين على الأزهر الشريف أولا، للتأكد من صحة ما فيه من معلومات".
ولا أحسبني في حاجة إلى التنبيه على نبرة الانفعال الشديدة التي تنطقها لغة البيان الذي طالب بمحاسبة كاتب سوري، غير مصري، على رواية لم يكن كاتب البيان قرأها بصفحاتها التي تقرب من سبعمئة صفحة. وتزداد النبرة الانفعالية وضوحاً عندما يمضي البيان إلى درجة محاسبة قراء الرواية والذين كتبوا عنها، أى كل من أسهم بطريقة أو بأخرى في إذاعة محتوياتها، بل يصل البيان إلى درجة المطالبة بحرق الرواية، ومن ثم العودة إلى أشد عصور التاريخ الإسلامى إظلاما.
وكانت المفارقة الأكثر دلالة أنه بعد ساعات من صدور بيان إحراق رواية "وليمة لأعشاب البحر"، ودون معرفة بما جاء في البيان الذي لم تنشره الصحف إلا في اليوم التالي، فرغت اللجنة المكونة من عبدالقادر القط ومصطفى مندور وكامل زهيري وصلاح فضل من تقريرها الجماعي عن الرواية التي قرأها كل أعضاء اللجنة، وكتب عنها كل منهم تقريرا منفصلاً. وأهم ما جاء في تقرير اللجنة أن الرواية رؤية مركبة للواقع السياسي المتحرك للتيارات التي ماج بها الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وأنها إبداع عالم فني متخيل، يحاكي في قوانينه العالم الكبير، اعتمادا على تكوين شخصيات متخيلة، تُنْسَبُ إليها أقوال وأفعال خاصة، ومواقف مماثلة لما يحدث في الحياة بشكل أو آخر. وكل العبارات التي ترد في الرواية لا يمكن أن تفهم على وجهها الصحيح منفصلة عن سياقها، ولا عن طبيعة الشخصيات التي تنطق بها، ولا التعليقات التي تردّ عليها من شخصيات أخرى، وأى اجتزاء لعبارة من الرواية وفهمها خارج سياقها وبعيدًا عن شخصية الناطق بها ورد المستمع لها إنما هو فهم غير سليم. وتنتهي اللجنة إلى حكم مناقض تماما لما انتهى إليه رئيس جامعة الأزهر، ورأت أن إعادة نشر الرواية في مصر لا يمكن أن يعد مساسا بالدين، ولا يجوز محاكمتها من منظور غير أدبي، وما قيل عنها فيه تجنٍّ كبير عليها وتحريف لمواضعها، وتجاهل لقيمتها الفنية المتميزة.
يمكن أن نقول إن الفارق بين النتيجة التي انتهى إليها بيان رئيس لجنة الشؤون الدينية الذي هو رئيس جامعة الأزهر والنتيجة التي انتهت إليها اللجنة المدنية يرجع إلى الفارق بين المتخصصين في الأدب والعارفين بتقنياته وأسراره من ناحية والمتخصصين في علوم الدين الذين ليست لهم - بالضرورة - معرفة عميقة أو متخصصة بالأدب، ويفتقرون إلى أدوات الحكم المنهجي السليم عليه من ناحية مقابلة. لكن من الصعب على أي مراقب محايد، خصوصا إذا كان مهتما بتحليل الخطاب، أن يغفل ارتفاع حدة النبرة الانفعالية في البيان الذي يحض على حرق الرواية واختفاء هذه النبرة تماما في البيان الذي يتولى تحليل الرواية والكشف عن أبعادها العلائقية نقديا. هذا الفارق، في تقديرى، يرجع إلى حدة الضغوط التي كان يتعرض لها كاتب بيان الإحراق الذي خط بيانه وهتافات الطلاب المعادية تخترق أذنه، وعلامات الاحتمالات المنذرة بالخطر الداهم تحاصر بصره، ومخاوف انفلات الأحوال في الجامعة التي هو مسؤول عنها تقلق وعيه، فانتهى إلى حال تجلّى في ارتفاع حدة النبرة الانفعالية، ومن ثم المطالبة بإحراق الرواية. وما له دلالة في هذا السياق أن جملة بعينها لم تلفت انتباهي أثناء قراءة البيان للمرة الأولى، ولكنها عاودت الظهور في ذاكرتي عندما قرأت بيان الإمام الأكبر، فضيلة الدكتور سيد طنطاوي الذي أكن له كل التقدير والإجلال، وتنص هذه الجملة على ما طالبت به لجنة الشؤون الدينية في مجلس الشعب، حماية للمجتمع من الانحراف والإثارة، من ضرورة أن تقوم أجهزة وزارة الثقافة بعرض كل كتاب يشتمل على أمور الدين على الأزهر الشريف أولا، للتأكد من صحة ما فيه من معلومات. هذه الجملة نفسها تحوّلت إلى الفقرة الأولى من بيان شيخ الأزهر الذي كان خارج مصر، طوال اشتعال مظاهرات الطلاب في جامعة الأزهر، وعاد إليها بعد أن هدأت الأمور نسبيا، لكن ظلت وطأة الضغوط المرتبطة بالموقف كاملة تحدث تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة.
وكان مجمع البحوث الإسلامية قد تلقى نص الرواية من مباحث أمن الدولة لإبداء الرأي فيها بتاريخ 6/5 وبيان ما بها من مخالفات شرعية، كما ورد كتاب من رئيس مجلس الشعب بالمعنى نفسه بتاريخ 13/5 إلى "مجمع البحوث الإسلامية"، فتم عرض الموضوع على لجنة البحوث الفقهية التي كلفت اثنين من أعضائها المتخصصين، هما عبدالرحمن العدوي - عضو مجمع البحوث - ورأفت عثمان عميد كلية الشريعة والقانون، وبعد أن قام كل من العضوين بكتابة تقرير منفصل عن الرواية، نوقش كلا التقريرين في مجمع البحوث الإسلامية في جلسة استثنائية، يوم الأربعاء 17 آيار مايو الماضى. وصيغ التقرير النهائي في هذه الجلسة نفسها، وصدر على الفور في هيئة بيان باسم الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، ووزّع البيان على الصحافة ووكالات الأنباء حتى من دون توقيع. وأول ما في البيان هو المطالبة بمراقبة كل ما له علاقة بالدين، أو يشير إليه، في الأعمال الإبداعية والفكرية، ومطالبة وزارة الثقافة بأن يكون مرجعها في ذلك الأزهر الشريف أو مجمع البحوث الإسلامية. ولا معنى لذلك سوى فرض رقابة دينية على الإبداع، واستهلال موجة من التشدد التي يمكن أن تنتهي إلى إقامة محاكم تفتيش من نوع جديد، خصوصا حين ننصب من رجال الدين قضاة على ما لا يدخل في اختصاصهم، وما لو توسعنا فيه لجعلناهم قضاة على كل شيء في الحياة بأسرها، الأمر الذي يمكن أن يترتب عليه نقض المبادئ التي تقوم عليها "مدنية" الدولة، وتحويل "الدولة" نفسها إلى دولة دينية أو شبه دينية، تستمد مرجعيتها من المشايخ الذين سوف يغدون، عندئذ، أئمة لكل شيء في كل مجال.
وثاني ما في البيان الوقوف أمام ما في الرواية من بعض ألفاظ وعبارات رآها البيان ماسة بالدين، والخروج من ذلك البعض إلى أن الرواية كلها "تحرّض صراحة على الخروج عن الشريعة الإسلامية وعدم التمسك بأحكامها". ودليل ذلك جمل وفقرات منزوعة من سياقها، ولم يوضع في الاعتبار ما يقابلها من جمل وفقرات تدعو إلى صحيح الدين. وبالمنطق نفسه، أشار البيان إلى الخروج على الآداب العامة، والإغراق في الجنس، والإشارة إلى الأعضاء الجنسية بلا حياء. وختم البيان اتهاماته بأن الرواية "حرضت صراحة على إهانة جميع الحكام العرب ووصفتهم بأقبح وأقذع الأوصاف ... وطالبت بالخروج عليهم والثورة ولو بإراقة الدماء". والنتيجة هي الحكم بأن ما ورد بالرواية "خروج عن ماهو معلوم من الدين بالضرورة، وينتهك المقدسات الدينية والشرائع السماوية، والآداب العامة، والقيم الروحية، ويثير الفتن، ويزعزع تماسك وحدة الأمة". ولم يفت البيان إلقاء مسؤولية هذه الرواية على الذين أعادوا نشرها دون استطلاع رأى الأزهر.
ولا أريد أن أناقش البيان في تفصيلاته، ولكنني لا أستطيع أن أغفل طرائقه في المحاجة أو استدلالاته الداخلية التي أوصلته إلى نتيجة لم تختلف كثيرا عن النتائج التي وصلت إليها جماعات التكفير التي استغلت هذه الرواية لإحداث فتنة سياسية. ولي في ذلك عشر ملاحظات، أذكرها فيما يلى:
أولا: أن البيان يناقش الرواية ليس بوصفها عملا أدبيا تخيليا، لا ينبغي أن نقرأه قراءة حرفية، وإنما بوصفها عملا فكريا، تؤخذ كلماته وعباراته ورموزه بمعناها الحرفي الظاهر. وفى ذلك تجاهل للطبيعة الأدبية للرواية التي يمكن - إذا قرأناها قراءة أدبية حقيقية - أن ننتهى إلى نتائج مناقضة. وهذا ما فعلته لجنة أخرى أكثر عددا وأكثر علما بطبيعة الأدب وخصوصيته.
ثانيا: أن البيان قام على انتزاع بعض الجمل من سياقها، وعمم معناها على الرواية كلها بما يرفضه السياق الكلي للرواية نفسها.
ثالثا: أن البيان لم يضع في اعتباره إلحاد الشخصيات التي تنطق هذه الجمل الملتبسة، وأن هناك مقابل هذه الشخصيات شخصيات أخرى مؤمنة، وغير ملحدة، تواجهها وتقيم توازنا اعتقاديا في علاقات الرواية.
رابعا: ترتب على ذلك أن طابق البيان بين أقوال الشخصيات الملحدة وموقف الكتاب، متجاهلا أن هناك شخصيات مؤمنة وعبارات إيمانية وفقرات تمجيدية للإسلام، ليس من العدل اطراحها، بل من الأمانة الدينية - قبل الأخلاقية - ذكرها والنص عليها.
خامسا: أن البيان أقام تطابقًا بين بعض الشخصيات المتخيلة والمؤلف، وجعل من أقوال بعض هذه الشخصيات دليلا على صحة عقيدة المؤلف أو عدم صحتها، ولو كان الأمر كذلك لكان كل من كتب إبداعا عن الشيطان شيطانا، أو عن الإلحاد ملحدا، أو الجريمة مجرما، أو التصوف متصوفا، وكان نجيب محفوظ، مثلا، بعدد الشخصيات الخيرة والشريرة التي تخيلها في رواياته.
سادسا: أن البيان يعكس عقلية فقهيه، لم تستطع أن تدرك المغزى الأدبي للرواية التي تنتهي ببطلها الشيوعى الملحد إلى الدمار الذاتي، ومن ثم الانتحار، نتيجة عوامل الفساد التي ينطوي عليها، ونتيجة عصابيته التي اغتربت به عن الجميع. وأخيرا، نتيجة تعصبه الذي عماه عن مساءلة معتقداته الحزبية المتصلبة. وكان ذلك في مقابل ترك الباب مفتوحا كالأمل الواعد - في نهاية الرواية - للفتاة الجزائرية التي أوصى أبوها المجاهد بتربيتها تربية إسلامية قبل استشهاده، وحرصت على تعلم اللغة العربية بوصفها علامة الهوية القومية ووسيلة للحماية من الضياع في الثقافة الفرنسية.
سابعا: ألح البيان على الجنس الموجود في الرواية، ولو صادرنا الجنس في الأعمال الإبداعية لصادرنا المئات من ذخائر التراث العربى وإبداعه الأدبي، ابتداء من كتابات الجاحظ وليس انتهاء بكتابات التوحيدى، ناهيك عن كتابات للإمام السيوطي، لا أجرؤ على ذكر بعض عناوينها. ولا سبيل إلى الرد على ذلك بأنها كانت كتابات للخاصة، فهذا غير صحيح، وقد دافع أهل السلف عن ذلك، وليتذكر مشايخنا الأجلاء في الأزهر ما قاله ابن قتيبة في مقدمة "عيون الأخبار"، خصوصا حين قال مخاطبا القارئ: "إذا مرَّ بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن ... تعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب".
ثامنا: اتهام البيان للرواية بأنها تدفع الناس "إلى إهانة جميع الحكام العرب" اتهام عجيب لا محل له من الصحة، فالرواية تتحدث عن بعض حكام الستينيات فى الجزائر والعراق تحديدا وليس فيها من تعميم الهجوم على الحكام في ذلك الزمان إلا ما يرتبط بالنقد الذي يهدف إلى إصلاح أحوال الأمة.
تاسعا: أن البيان كله يصدر عن قراءة تحريمية، صيغت تحت وطأة عاصفة التكفير السائدة، ومن ثم خضعت آليات القراءة التي اعتمد عليها البيان للمؤثرات السلبية لحملات التكفير التي استمرت على الرواية، وتأثرت بها في اتجاه النظر، واختيار العبارات، والاستسلام القصدي أو التوجه اللاشعوري إلى حيث موقع الاتهامات السابقة نفسها. ودليل ذلك أن ما انتهى إليه بيان شيخ الأزهر يناقض تماما تقرير اللجنة العلمية التي رأسها شيخ النقاد الدكتور عبدالقادر القط وزملاؤه الذين لم يكن تقريرهم صدى للاتهامات الظالمة، وإنما كان قراءة أدبية من أهل الاختصاص الأدبي الذين هم أدرى بشعاب الإبداع ومذاهبه من رجال الدين الذين ينبغي أن يظلوا في دائرة علمهم الديني الذي هو، وحده، مبعث توقيرنا لهم.
عاشرا: ينطوي البيان على عدم ثقة بمعتقدات المسلمين، ومن ثم افتراض أن رواية من الروايات يمكن أن تثير الفتن، وتزعزع تماسك وحدة الأمة. وتاريخ الإسلام كله شاهد على انفعالية هذه العبارات الإنشائية، وعدم سلامتها أو حتى جدواها، فالإسلام أقوى عند أهله وأرسخ من أن تزعزعه رواية مهما كانت درجة إلحاد بعض شخصياتها، أو كتاب مهما كانت درجة فساده. ولذلك كان عقلاء الأزهر وعلماؤه، قديما، يتميزون بالتسامح الغالب على مواقفهم في مثل هذه الأمور، ولم ينزعجوا حتى من إعلان الإلحاد في الكتب الفكرية المؤلفة. وليتذكر أساتذتنا الأجلاء من مشايخ الأزهر أن الإمام محمد عبده لم يفكر في تكفير ما كتبه شبلي الشميل 1853-1917، عندما أصدر كتابه عن "فلسفة النشوء والإرتقاء" الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1884، ولم يعنف فرح أنطون 1861-1922 عندما اختلف حول ما كتبه الثاني عن ابن رشد وفلسفته سنة 1903.
وكان ذلك هو النهج الفكري نفسه الذي مضى على هديه الشيخ محمد فريد وجدي 1878-1954 الذي كان يتولى رئاسة تحرير "مجلة الأزهر"، حين نشر الدكتور إسماعيل أدهم 1911-1940 مقالا مسهبا بعنوان "لماذا أنا ملحد" في شهر آب أغسطس سنة 1937، فرد عليه محمد فريد وجدى في "مجلة الأزهر" نفسها، مجادلا بالتي هي أحسن حتى لمن يعلن إلحاده، مستهلا مجادلته "بأن علينا، ما دمنا نعيش في بحبوحة الحكم الدستوري، أن نسلك من عالم الكتاب والتكفير هذا المنهاج نفسه، "فلا نضيق به ذرعا ما دمنا نعتقد أننا على الحق المبين، وأن الدليل معنا في كل مجال نجول فيه. وأن هذا التسامح الذي يدعى أنه من ثمرات العصر الحاضر هو في الحقيقة من نفحات الإسلام نفسه، ظهر به آباؤنا الأولون أيام كان لهم السلطان على العالم كله. فقد كان يجتمع المتباحثون في مجلس واحد بين سني ومعتزلي ومشبِّه ودهري.. إلخ، فيتجاذبون أطراف المسائل المعضلة، فلم يزدد الدين حيال هذه الحرية العقلية إلا هيبة في النفوس، وعظمة في القلوب، وكرامة في التاريخ".
هذا الدين الذي يزداد هيبة في النفوس، وعظمة في القلوب، وكرامة في التاريخ، لا يمكن لعاقل أن يخشى عليه من رواية تتنازع فيها الآراء، أو تختلف فيها الأفهام، كما أن درس هذا الدين وإشاعة مبادئه السمحة هو مناط عمل الأزهر الذي تعلمنا منه، وتعلمنا به، في تقاليد رجاله العظام، أنه إذا ورد قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، فذلك أقرب إلى تأليف القلوب والعقول التي أرَّقها بيان أزهر هذا الزمان.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.