تفاعلت قضية الخلاف حول نشر رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر في مصر على مستويات عدة، إذ واصل طلاب جامعة الازهر أمس التظاهرات احتجاجاً على نشر الرواية وتوزيعها في مصر، لكن لم تقع صدامات بينهم وبين الشرطة كتلك التي وقعت يوم الاثنين الماضي. ورفع الطلاب لافتات تطالب بمحاسبة المسؤولين عن نشر الرواية والقصاص منهم، وطالبوا شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي بالتدخل لوقف "الحملات التي تستهدف الإساءة للدين". وناشد الطلاب رئيس الجامعة الدكتور أحمد عمر هاشم العمل على إطلاق 75 من زملائهم بينهم ثلاث طالبات قررت نيابة أمن الدولة أمس حبسهم لمدة 15 يوماً على ذمة التحقيق بعدما وجهت اليهم تهم "التجمهر والقيام بالتظاهر وإثارة الشغب ومقاومة السلطات والاتلاف العمد للممتلكات العامة والخاصة وإحداث البلبلة بين الأوساط الطلابية وتعريض الأمن والسلام الاجتماعي للخطر". وانتقل الصراع بين معارضي الرواية والقائمين على نشرها الى ساحة القضاء إذ بدأت نيابة أمن الدولة التحقيق في بلاغ قدمه المحامي عبدالحليم رمضان ضد المسؤولين عن نشر الرواية، وأتهم رمضان في أقواله هؤلاء ب"الإساءة الى دين الدولة الرسمي". وخضع ثلاثة من المسؤولين عن نشر الرواية للتحقيق أمس وهم: رئيس تحرير سلسلة "آفاق الكتابة" التي صدرت عنها الرواية الأديب إبراهيم أصلان والامين العام للنشر في وزارة الثقافة الشاعر محمد كشيك ومدير تحرير السلسلة القاص حمدي أبو جليل. واستمر التحقيق معهم الى ساعة متقدمة من الليل. وكان الثلاثة شرعوا صباحاً في إقامة دعاوى قضائية ضد الدكتور محمد عباس الذي تبنى الحملة ضدهم في صحيفة "الشعب" المعارضة، وطالبوا ب"التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم لما كتبه عباس من تكفيرهم والتحريض على قتلهم". وقال أصلان ل "الحياة" إنه تلقى وزميليه تهديدات بالقتل من مجهولين عقب نشر مقالات عباس. وأثار بيان القاه حسني في البرلمان أمس ردود فعل ايجابية بين أوساط المثقفين الذين يستعدون لعقد مؤتمر يوم الأحد المقبل تحت لافتة "التصدي للحملة على حرية الإبداع في مصر". وفرضت قضية الرواية نفسها على الاجتماع الدوري لمجلس الوزراء، وأعلن وزير الاعلام السيد صفوت الشريف أن المجلس ناقش تقرير وزارتي الثقافة والداخلية حول ما أثير في شأن الرواية، وأن الحكومة "أكدت على ما قامت به وزارة الثقافة من عدم طرح الرواية المذكورة مرة اخرى في الأسواق احتراماً لما ستنتهي اليه اللجنة التي شكلت من كبار المثقفين والعلماء الاجلاء وما تصدر من قرارات وكذلك ما ستنتهي إليه التحقيقات التي تجريها النيابة العامة حول هذا الموضوع". وشدد على "ضرورة التزام الكافة بالحوار الموضوعي ومن خلال القنوات الطبيعية المتوافرة في مجتمع ديموقراطي بعيداً عن الاثارة ومن دون الخروج على الشرعية والذي سيقابل بالحسم دون تردد وتطبيق القانون دون تهاون". وقال إن رئيس الحكومة الدكتور عاطف عبيد أكد خلال الاجتماع "تمسك المؤسسات كافة بكل ما من شأنه احترام القيم ورفض كل ما يمس أو يسيء الى قدسية الأديان أو يشكك في العقائد السماوية". وحصلت "الحياة" على صورة من التقرير الذي أعدته لجنة خاصة قامت بدراسة الرواية، وضمت كلاً من الدكتور عبدالقادر القط مقرراً وعضوية كل من الدكتور صلاح فضل والكاتب كامل زهيري والدكتور مصطفى مندور والدكتور عماد بدرالدين ابو غازي. وسجل التقرير اعتذار الدكتور أحمد هيكل لمرضه. ووصف التقرير الرواية بأنها "تقدم رؤية مركبة للواقع السياسي المتحرك للتيارات التي ماج بها الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين وتبرز المشاهد الاستهلالية للرواية الروح التي تسيطر على اتجاه المعنى فيها". وشدد على أن تقويم الأعمال الإبداعية عموماً والروائية خصوصاً "يعتمد على إدراك طبيعة الرواية، بوصفها تتمثل في إبداع عالم فني متخيل يحاكي في قوانينه العالم الكبير، اعتماداً على تكوين شخصيات متخيلة تنسب اليها أقوال وأفعال خاصة، ومواقف مماثلة لما يحدث في الحياة بشكل أو آخر". وقال أن كل العبارات التي ترد في الأعمال الروائية "لا يمكن أن تفهم على وجهها الصحيح منفصلة عن سياقها، ولا عن طبيعة الشخصيات التي تنطق بها، ولا التعليقات التي ترد عليها من شخصيات أخرى"، وأشار إلى أن "اجتزاء لعبارة من عمل روائي وفهمها خارج سياقها وبعيداً عن شخصية الناطق بها ورد المستمع لها هو فهم غير سليم". ولاحظ التقرير "ان طبيعة الشخصيات التي تتحرك في الرواية على قدر كبير من القلق والتوتر العصبي ما يجعل أحاديثها أحياناً تبدو مجاوزة للمألوف، وقد يجد فيها القارئ غير المتمرس بقراءة الأعمال الإبداعية إسرافاً في المرارة والحدة. لكنه عندما ينسبها الى طبيعة الشخصية ويستحضر الموقف في جملته يتبين أنها تعبر عن لحظة بعينها وتصبح ضرورية من الوجهة الفنية لتصوير الموقف". وتطرق التقرير الى الحملة على الرواية قائلاً: "ما نسب الى الرواية من بعض العبارات التي يبدو في الظاهر انها يمكن أن تمس شعور القارئ غير المدرب لما يظن أنه مساس بالدين أو طعن في القرآن الكريم أو تعريض بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من قبيل سوء فهم الفن الروائي وتحريف عباراته، وانتزاعها من سياقها وتجاهل ما يرد في النص ذاته من رد عليها من شخصيات مخالفة". وأضاف: "ان نسبة الأقوال المعترض عليها الى الرواية والمؤلف غير صحيحة، لأنها تصدر عن شخصية متخيلة تناسب معتقدها، وهي في منظور شخصية أخرى نوع من لوثة العقل. كما أن إلغاء النقطة التي جاءت بعد لفظة القرآن والقول بأن الوصف البذيء الذي جاء في عقبها ينصب على كلمة القرآن فيه تحريض مقصود، وإساءة واضحة لتهييج المشاعر الدينية، وهو مخالف لأمانة النقل يترتب عليه تغيير للمعنى واختلاف الدلالة. لأن ما يوصف بأنه خراء هو الحكم السياسي بتبريرات دينية، اضافة الى أن إهمال الإشارة الى رد فعل الشخصية المقابلة واعتبار كلامها لوثة عقل مختل يصبح من قبيل لا تقربوا الصلاة". وتابع التقرير "من المعروف - حتى في الكتابة غير الأدبية - ان من يروي الكفر ليس بكافر، والقرآن الكريم مليء بأقوال الملحدين والكفار الواردة في سياق الرد عليها وتفنيدها، ولا ينتظر من الأعمال الإبداعية سوى أمرين: ان تكون الأقوال ملائمة لطبيعة الشخصية التي تنطقها، وهذا متحقق، وأن تكون الدلالة الكلية للعمل مغايرة لهذا المنظور الجزئي". وأكد التقرير أن "القراءة الكاملة للنص الروائي تشهد بورود عشرات العبارات الأخرى التي تعلي من شأن التجربة الدينية التي أدت الى انتصار ثورة الجزائر، وتؤكد شعور التقديس المهيمن على بقية الشخوص تجاه القرآن الكريم واحترام التربية الاسلامية والتنديد بالاستعمار الاجنبي". وخلص الى أن "إعادة نشر الرواية لا يمكن أن تعدّ مساساً بالدين، ولا يجوز محاكمتها من منظور غير أدبي"، وأن ما قيل عنها "فيه تجنٍّ كبير عليها وتحريف لمواضعها، وتجاهل لقيمتها الفنية المتميزة".