عقدت في تونس مؤخراً ندوة سياسية حول واقع وآفاق الحركة الديموقراطية، شارك في ادارتها عدد من رموز المجتمع المدني، اضافة الى معارضين بارزين على الساحة الوطنية مثل السيدين محمد مواعدة ونجيب الشابي. كان الجميع يحاولون الإجابة عن سؤالين محيرين: لماذا عجز الديموقراطيون في تونس عن بناء قطب ديموقراطي قادر على ادارة الحوار أو الصراع مع السلطة؟ وهل يمكن ان يلتقي هؤلاء اليوم أو في مستقبل قريب على أرضية واحدة لملء الفراغ الكبير الذي تشهده ساحة المعارضة منذ سنوات طويلة؟ كانت الإجابة متفاوتة، لكن معظم المداخلات أجمعت على انه من دون استعادة المبادرة السياسية، وتجاوز منطق التغيير المسقط من فوق في اتجاه فرض التغيير النابع من تحت، ووضع حد للتشرذم والزعاماتية المرضية فإن الحياة السياسية ستبقى مؤممة من قبل السلطة. هذه الندوة ليست سوى احد مظاهر الحركية التي شهدتها الحياة السياسية والجمعوية في تونس خلال الأشهر الأخيرة. لقد أحدثت انتخابات 24 تشرين الأول اكتوبر الماضي الرئاسية والتشريعية رجة قوية في أوساط النخبة، التي شعرت بأن الحياة السياسية فقدت طعمها في ظل أوضاع يحكمها طرف واحد هو الحزب الحاكم المهيمن على كل شيء، بينما انحصرت مهمة بقية الاحزاب المعترف بها في انتظار الفتات المتبقي من مائدة السلطة. ثم جاءت وفاة بورقيبة وما حفت بجنازته من وقائع جعلت التونسيين يتحسسون ذاكرتهم الجماعية التي أصابها ارتجاج وتفكيك، ودخلوا في نقاشات من أجل اعادة ترتيب الأحداث والأولويات. بعد ذلك تابع التونسيون بذهول قصة الصحافي توفيق بن بريك الذي لجأ الى الإضراب عن الطعام دفاعاً عن حرية ممارسة مهنته والتمتع بجواز سفره وحقه في مغادرة البلاد، ليشكل ذلك الحدث فرصة أخرى للكشف عن اعلام ميت وعن الآثار الخطيرة التي يمكن ان تصيب بلداً خالياً من حرية الصحافة، حيث يصبح الشعب فريسة الإشاعة والرداءة وتبليد الأذهان والأذواق. الى جانب ذلك عرفت الساحة المحلية تعدد محاولات البناء الذاتي. فبعد سنوات من الانكماش عاد التنسيق بين جمعيات عرفت بنضالها الديموقراطي ونزعتها الاستقلالية منذ السبعينات، مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان وجمعية المحامين الشبان والجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات. كان لقاء 5 أيار مايو الجاري الذي حضره مئات المثقفين والنشطاء ببادرة من هذه الجمعيات مع فرع تونس لمنظمة العفو الدولية تتويجاً لعدة مبادرات جماعية أعادت الثقة في النضال المشترك. وفي خط مواز تعزز العمل الجمعوي بتشكل "المجلس الوطني للحريات" الذي على رغم الجدل الذي دار ولا يزال حول طبيعته وخلفياته، غير انه وضع سقفاً جديداً للخطاب الاحتجاجي وفرض نفسه على الساحتين المحلية والدولية. اما على الصعيد الحزبي فقد أثبتت الاحداث ان ملف حركة الديموقراطيين الاشتراكيين لم يغلق بعد على رغم كل ما فعلته السلطة، وان الكوادر الرئيسية للحركة بقيت على صلة قوية بالسيد محمد مواعدة مما دفع بالحكم الى استئناف المفاوضات معه من اجل التوصل الى صيغة تعيد الحزب الى موقعه السابق. كذلك شهد "التجمع الاشتراكي التقدمي" حركية مشابهة بالتحاق عناصر جديدة بصفوفه، وتعاونه مع العديد من الشخصيات المستقلة والقادمة من تيارات وتجارب مختلفة على تشكيل منتدى ديموقراطي يشرف على إصدار صحيفة "الموقف" التي أصبحت المنبر الصحافي الوحيد الذي يطير خارج السرب ويحاول ان يعكس ما يعتمل في أعماق الحركة الاجتماعية الصاعدة. هذه الاحداث وغيرها بينت ان هناك تلازماً جدلياً في تونس بين الحركة الديموقراطية وحركية المجتمع المدني، يمكن القول انهما وجهان لعملة واحدة، فإذا تراجعت الأولى انكمشت الثانية، واذا تسارعت وتيرة الثانية عكست في شكلها ومضامينها تطلعات الحركة الديموقراطية، وأثرت على احتمال استئناف دورة من دوراتها. بناء عليه فإن الحركة الديموقراطية التي ينشد البعض بناءها لا يمكن ان تتشكل خارج دوائر ثلاث بدأت تتحرك في الفترة الأخيرة وتتقاطع على أكثر من صعيد، على رغم ان لكل منها خصوصياته ووسائل عمله. تشكل الأحزاب دائرة أولى نظراً لوظيفتها السياسية التي تجعلها على ارتباط مباشر بالمسألة الديموقراطية. ثم تأتي الجمعيات أو المنظمات غير الحكومية، التي وإن اختلف دورها عن الاحزاب الا انها تشكل فضاء حيوياً لتنمية الديموقراطية والتربية عليها، كما أثبتت حضورها بشكل فاعل في اللحظة التي تخلت فيها الاحزاب عن وظيفتها النقدية، وراهنت على التعاون مع السلطة الى حد رهنت فيه قرارها ومستقبلها. أما الدائرة الأخيرة فتتشكل من الشخصيات الثقافية والسياسية التي مع تمسكها باستقلاليتها، يمكن ان تساهم من موقعها في الدفاع عن القيم والحريات وتدفع في اتجاه تأسيس ثقافة جديدة، فتقلل بذلك من حجم الفراغ السياسي الناتج عن الاختلال الفظيع لموازين القوى. اذا كان الاصطفاف وراء السلطة الذي تورطت فيه أغلب التنظيمات السياسية والمنظمات المهنية والنقابية قد اضر كثيراً بالمسار الديموقراطي الذي بدأ يتبلور بوضوح أكثر مع أواسط السبعينات، وتعزز دوره في الثمانينات، فإن العاهة الأساسية التي جعلت من هذا التيار أشبه بالكسيح هي علاقة الإقصاء القائمة بين مختلف فرقاء الساحة الديموقراطية. لهذا لا يمكن الحديث عن بناء حركة ديموقراطية مستقبلية الا اذا أبدت مكونات هذه الحركة استعدادها للحوار مجدداً والتضامن في ما بينها وتوطين الأنفس على العمل المشترك بعيداً عن رواسب الماضي وخلافاته. لعل في مقدم العوامل المغذية لنزعة الإقصاء تلك الرغبة الجامحة لدى كثيرين في التوقف مطولاً عند المرحلة السابقة من اجل تصفية الحسابات وتحديد المسؤوليات عن سلسلة الاخطاء التي أدت الى السنوات العجاف التي مرت بها الساحة الديموقراطية. لكن بقدر ما يعتبر ذلك أمراً مشروعاً حتى يستفاد من الدروس الماضية ولا يقع تكرارها، فإن نزعات التشخيص وتبادل الاتهامات والاختفاء وراء أنصاف الحقائق والجنوح الغريزي نحو تنزيه الذات وتبرير سلوكياتها، ينتهي غالباً باستمرار حرب داحس والغبراء ووضع مزيد من العوائق أمام العمل المشترك. ان استئناف محاولات بناء الحركة الديموقراطية أصبح في الوضع الراهن التونسي ضرورة استراتيجية ومهمة رئيسية لتدارك التخلف الحاصل في مجال التنمية السياسية. ليس المقصود بالحركة تشكل حزب قوي أو كتلة حزبية متجانسة ايديولوجياً وسياسياً وذات قيادة موحدة، ان ما تتطلبه المرحلة هو بروز تيار فاعل مستقل عن استراتيجية الحكم، يعبئ مختلف الفعاليات حول قدر أدنى من المطالب ويضغط بطرق سلمية من أجل خلق مناخ سياسي جديد يتميز باحترام الحريات الاساسية، ويضع حداً لعمليات التأطير الاجباري للمجتمع المدني، ويفتح المجال واسعاً امام ممارسة الحق في التعبير والتنظيم والاجتماع، فبتوفر تلك الحريات تعود الحركية الى الصحافة المستقلة ومختلف الفعاليات الديموقراطية، وتتراجع الحواجز بين المواطنين وانخراطهم في الحركة الاجتماعية، وتعود المصداقية لصندوق الاقتراع وللمحطات الانتخابية ببروز خارطة سياسية غير مزورة. عندها يتحقق ما سماه مواعدة بالانتقال بالديموقراطية من "مشروع رئاسي الى مشروع مجتمعي". * كاتب تونسي