اتبعت السياسة الاسرائيلية منذ إعلان الدولة في 14 أيار مايو 1948 استراتيجية تقوم على محورين: أولهما، مقاومة كل الضغوط الخارجية والقرارات الدولية حول التدويل بدءاً من أول قرار صدر في هذا الشأن في 1947 لتدويل القدس وهو قرار قبلته الوكالة اليهودية حينذاك وقبلته اسرائيل بعد ذلك ولم ينفذ بسبب حرب التحرير الأولى، وكذلك كل القرارات التي دانت قرار توحيد القدس بعد 1967 وحتى الآن. وثانيهما، تأكيد مطالبتها التاريخية والدينية بالسيادة على القدس من دون كلل واستخدام كل فرصة تسمح لها بتغيير جو العداء من جهة ثم ترجمة المطالب الى حقيقة مثلما حدث ما بين 1948 و1967 من تقسيم فعلي للمدينة بينها وبين الأردن ثم انتهاء هذا التحالف الواقعي في حرب 1967 والاستيلاء على القدسالشرقية. وفي إطار تنفيذ هذه الاستراتيجية المزدوجة اتبعت اسرائيل عدة خطوات: - لم تعترض اسرائيل على قرار التدويل عند مناقشة الجمعية العامة لقرار قبول عضويتها. وكما ذكر بن غوريون تفسيراً لهذا الموقف بأن الأسبقية الاستراتيجية في قيام الدولة فرضت السكوت وعدم المعارضة. - بعد أن أصبحت اسرائيل عضواً في الأممالمتحدة، واجهت قرار التدويل للجمعية العامة في 1949 بأن أصدرت قراراً يعتبر القدس الغربية التي وصل عدد سكانها من اليهود في تلك السنة الى مئة ألف عاصمةً للدولة. - وما بين 1949 و1953 أبقت الحكومة الاسرائيلية على وزارة الخارجية في تل أبيب حرصاً على عدم إثارة دولية اخرى ضدها. وعندما تبين لها أن الأوضاع هدأت نوعاً ما، نقلت وزارة الخارجية الى القدس، وهو ما أدى الى أزمة في العلاقات مع واشنطن والعواصم الغربية الاخرى واستمرت هذه الأزمة حتى 1956. - و بعد 1956 نجحت اسرائيل في أن تقنع غالبية الدول التي اقامت علاقات ديبلوماسية معها بأن يكون مقر سفاراتها في القدس. - وعندما تحقق لإسرائيل دخول القدس في حرب 1967، أعلنت على الفور ضم القدسالشرقية وتوحيد المدينة كعاصمة لإسرائيل. - لم تأبه اسرائيل بعد ذلك بكل ما صدر من قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن الجامعة العربية والمؤتمر الاسلامي او دول عدم الانحياز أو المؤتمرات العالمية حول القضية الفلسطينية، وصمدت في مواجهة هذه التيارات على أساس أن عامل الوقت ومركز القوة الذي تتمتع به سيكسبها اعتراف العالم بقرارها في نهاية الأمر. - لعل من أهم الخطوات التي واصلت اسرائيل اتخاذها بعد ذلك هو نجاحها في أن تكون مسألة اعتراف الولاياتالمتحدةبالقدس عاصمة لاسرائيل هي أحد المطالب الرئيسية للوبي اليهودي الاميركي في كل انتخابات للرئاسة أو انتخابات الكونغرس، بحيث حصلت على هذا الاعتراف تدريجياً مع كل دورة انتخابية. ولذلك فإن قرار الكونغرس الاميركي بناء سفارة في القدس واعتماد 100 مليون دولار لهذا الغرض هو الخطوة ما قبل الاخيرة قبل اعتماده من قبل الرئيس الاميركي آل غور او بوش. - وفي الوقت نفسه فإن إقامة علاقات ديبلوماسية مع الفاتيكان من دون اشتراط وضع دولي للمدينة أو كيان دولي خاص للأماكن المقدسة فيها يعتبر خطوة في غاية الأهمية، لأنه منذ 1948 وموقف الفاتيكان من القدس يحكم مواقف الكثير من دول العالم الثالث الكاثوليكية عند التصويت على هذه القضية بالنسبة الى نقل السفارات اليها. ويعني ذلك أن اسرائيل نجحت في احتواء موقف دولي مؤثر ومعاد لها، وجاءت زيارة البابا أخيراً لاسرائيل كخطوة مهمة في إطار ما تتبعه الدولة العبرية من تدريجية في فرض موقفها. - في هذا الإطار لم تتوقف اسرائيل منذ 1967 وحتى الآن عن تغيير معالم وخريطة القدس، بحيث زالت الفواصل بين شرق المدينة وغربها من خلال حزام سكني يحيط بها من كل جانب. فمنذ دخول القوات الاسرائيلية القدسالشرقية خلال هزيمة حزيران يونيو 1967، تحركت الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة - بعد إعلان ضم القدسالشرقية - نحو توسيع دائرة القدس بشقيها الشرقي والغربي الى دائرة قطرها 20 كيلومتراً بدءاً من جبل الزيتون، وأدى هذا التوسع المنتظم والمتواصل من دون توقف الى حقائق على الارض تمثلها أحياء سكنية تصل الى حدود رام الله في الشمال. - وفي اتفاق اوسلو نجحت اسرائيل في كسب الوقت بحيث لا تبحث هذه القضية إلا في إطار الوضع النهائي بعدما تكون غيّرت جذرياً من أوضاع المدينة المقدسة. وعند بحث الموقف الحالي بالنسبة الى السكان من العرب واليهود نجد أن في هذه القدس الكبرى يصل التعداد الاسرائيلي الى 56 في المئة والعرب الى 44 في المئة في حال ضم مناطق "أ" و"ج" المحددة في اتفاقات المرحلة الانتقالية، الى هذه الدائرة الكبرى للقدس. ونلاحظ أنه نتيجة لهذا الضغط اليميني، تراجع باراك عن تصريحاته بشأن دخول أبو ديس والقرى المجاورة لها في أراضي الدولة الفلسطينية مبرراً ذلك بأن ليس من مصلحة اسرائيل ضم الفلسطينيين اليها. ولكن يمكن القول - مع ذلك - إن هذا التراجع تكتيكي خصوصاً وأن هذه الاراضي سبق أن حسم أمرها. ولذلك عاد باراك ليعلن أنه وافق على تسليم هذه القرى، وإن أجّل موعد تسليمها إلى ما بعد الاتفاق على مرحلة الوضع النهائي. ولعله من المفيد الإشارة الى أن هذه القرى تتصل فعلاً بالقدسالشرقية وتعتبر ضمن احيائها في الإطار المحدد للقدس الكبرى، وإن كان لا يعني ذلك قبول أبو ديس بديلاً من القدسالشرقية. ويلاحظ أيضاً أنه على رغم السياسات الاسرائيلية المتعاقبة لتحقيق زيادة سكانية اسرائيلية بالنسبة الى الفلسطينيين في هذه القدس الكبرى، إلا أن النتائج جاءت مخيبة، لأنه في 1967 وبعد الضم بلغت نسبة الاسرائيليين 74 في المئة والفلسطينيين 26 في المئة، في حين انخفضت نسبة الاسرائيليين في 1999 الى 68 في المئة وزادت نسبة الفلسطينيين الى 32 في المئة، من دون أبو ديس والقرى المجاورة لها. وتأكيداً لما تقدم، بلغ عدد الفلسطينيين في القدسالشرقية والغربية أخيراً 233 ألف نسمة، وفي مناطق "أ" و"ج" 263 ألفاً و181 نسمة، أي أن اجمالي عدد الفلسطينيين بلغ 499 الفاً و181 نسمة مقابل 536 ألفاً و242 اسرائيلياً في إطار القدس الكبرى. والهدف من العرض السابق هو تحديد الأوضاع الفعلية للقدس الكبرى، التي أصبحت القدسالشرقية داخلها محاطة بالكتل السكنية الإسرائيلية من كل جانب. ولكن هذا الوضع الذي آلت اليه الأمور يؤكد في الوقت نفسه أنه لا يمكن إنكار حق مواطني القدس والقرى المحيطة بها في أن يكون لهم وجود سياسي مستقل في هذه المدينة، لأننا أمام حق سياسي وتاريخي ووطني مشروع لما يقرب من نصف مليون فلسطيني في هذا المحيط الكبير للقدس. وهم - على مدى السنين - تمسكوا بالوجود على أرض القدسالشرقية ودعموا المؤسسات الفلسطينية فيها. ومن جهة أخرى، يستحيل على اسرائيل أن تضم هذا الزخم الفلسطيني، سواء لتعارض ذلك مع هويتهم المقدسية أو ما يترتب عليه من اختلال في التوازن السكاني. ولذلك اتجهت "حركة السلام الآن" وعدد من الأكاديميين الاسرائيليين الى القول بأن الحقائق السكانية تتحدث عن نفسها وأنها تؤكد حق كل من الشعبين في القدس. ووجه غابي لاسكي، المدير التنفيذي ل"حركة السلام الآن" خطاباً مفتوحاً الى باراك يحذر فيه من مشاريع عمدة القدس ايهود أولمرت لبناء 200 وحدة سكنية في أبو ديس للفصل بينها وبين القدسالشرقية، وذكر في هذا الخطاب المنشور في الصحف الاسرائيلية أن عمدة القدس لم يتعلم من درس النفق وما أ ثاره من أزمة وأنه يرجو ألا يكرر باراك اخطاء نتانياهو ويسمح لأولمرت بأن يحدد سياسة اسرائيل. قضية القدس هي إحدى القضايا الشائكة في المفاوضات الجارية بين السلطة الفلسطينية واسرائيل، ومن المعتقد أن ثبات الموقف الفلسطيني وأوضاع السكان العرب والاسرائيليين في القدس الكبرى لا بد أن يفرض نفسه كحل لهذه القضية بما يضمن الوجود الفلسطيني وحقه الوطني المشروع في القدسالشرقية كعاصمة للدولة، وذلك في إطار القدس الكبرى الموحدة بلدياً، وهو على ما أعتقد ما تطالب به السلطة الفلسطينية ويتزايد قبوله تدريجياً لدى الرأي العام الاسرائيلي. * كاتب مصري.