اقتربت ساعة الحسم سواء تجمدت مفاوضات السلام الفلسطينية الاسرائيلية او حققت تقدماً... فالمماطلة لم تعد تجدي نفعاً، والتأجيل له حدود لا يمكن تجاوزها على رغم قناعتنا بالخبث الصهيوني المزمن، ولا سيما الخبث الغامض الذي تميز به رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي ايهود باراك الذي يحاول الآن اللعب على المسارات وتمرير المؤامرة الكبرى لتغييب القضايا الرئيسية ومتطلبات الانسحاب الكامل وتحرير القدس. ساعة الحسم أم ساعة تقرير المصير بالنسبة لقضايا جوهرية لا تمس الفلسطينيين وقضيتهم العادلة فحسب، بل تمس كل انسان عربي ومسلم ومسيحي لأن القدس، مدينة السلام والمقدسات تأتي على رأس قائمة القضايا المؤجلة التي حان أوان البت في مصيرها. فقد أصبح معروفاً ان الفلسطينيين جرّوا الى فخ صهيوني في أوسلو، واضطروا الى عقد اتفاقات ملغومة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فقد صيغت بأسلوب ماكر لتبدو وكأنها اتفاقات سلام ولكنها لم تتعد مجالات القضايا الهامشية والشكلية مع التسليم بعمليات "اعادة انتشار" لقوات الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية مع الإبقاء على المستعمرات الاستيطانية مشروع ألون القديم معدلاً نحو الأسوأ والانسحاب غير الكامل من قطاع غزة الذي يكرهه الصهاينة ويخشى من ابنائه الأشاوس حيث تمنى رئيس وزراء اسرائيل السابق اسحق رابين ان يستيقظ من النوم يوماً ليجده وقد غرق في البحر! اما القضايا الأساسية، قضايا اللب والجوهر فقد تركت لعبة في مهب الريح، او في مهب مكر الصهاينة وابتزازهم ونياتهم الخبيثة على رغم تنازل القيادة الفلسطينية، حكماً بحسب الاتفاقات، عن المطالبة بالجزء الغالي من أرض فلسطين الطاهرة الذي يرزح تحت الاحتلال منذ عام 1948. هذه القضايا الرئيسية والأساسية وهي: عودة اللاجئين، ومصير القدس، والمياه والمستوطنات، والسيادة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وغيرها، تركت لما يسمى بمفاوضات الحل النهائي التي تراوح مكانها بعد ان نجح باراك، ومن قبله نتنياهو في تأجيل استحقاقاتهم مرددين اسطوانة: انه ليس هناك مواعيد مقدسة!! كل القضايا المطروحة باستثناء قضية القدس يمكن اعتبارها من اختصاص السلطة الوطنية الفلسطينية، على رغم ايماننا كعرب، او هكذا تربينا وآمنا، بأن قضية فلسطين، قضية عربية اسلامية تخص كل واحد منا، ولكن ظروف مسيرة السلام تحتم الرضوخ لهذا الواقع مثله مثل الكثير من الأمور التي تبت وتحسم ويتخذ فيها قرارات مصيرية بعيداً من ارادة الشعوب مما جعلنا نردد على الدوام ان السلام الذي يحكى عنه الآن هو سلام أنظمة لا سلام شعوب وان التعنت الصهيوني المدعوم أميركياً بالنسبة للمسارين السوري واللبناني سيؤدي حتماً الى مواجهات وعدم استقرار وضرب مسيرة السلام بأكملها. فقضية القدس لا يمكن لاسرائيل ولا للسلطة الوطنية الفلسطينية ان يبتا بأمرها ومصيرها بمعزل عن العرب والمسلمين والمسيحيين ولا يمكن لأحد ان يمرر علينا نظرية ان قضية القدس بالنسبة الينا هي قضية كيلومتر واحد، والمقصود محيط الحرم القدسي الشريف، او انه يمكن القبول ببديل ممسوخ او منسوخ عن القدس مثل اعتبار بلدة ابو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية يطلق عليها اسم القدس زوراً وبهتاناً بعد ان توصل بممر آمن نحو "المسجد الأقصى، لنزع فتيل المعارضة". وقبل عدة أسابيع تسربت معلومات عن لقاء عاصف بين مسؤول عربي كبير ووفد من اليهود الاميركيين أكد فيه ان السلام العادل والشامل لن يتحقق الا بتحرير القدس الشريف، وان اي تطبيع مع اسرائيل، لا يمكن ان يتم، الا بهذا الشرط المبدئي والأساسي والايماني... وعندما قال رئيس الوفد: ولكن ماذا لو وافق اصحاب العلاقة، اي الأردن والسلطة الفلسطينية على الحل المطروح مع بقاء القدس بشطريها الغربي والشرقي عاصمة لاسرائيل، رد المسؤول العربي غاضباً: ولكن ماذا يمثل هذان الطرفان بالنسبة للأمة العربية والاسلامية... نصف في المئة... واحد في المئة... ان القدس هي لأكثر من مليار ونصف مليار عربي ومسلم عدا عن انها تعتبر مدينة السلام بالنسبة للعالم اجمع... وللمسيحيين كلهم فلماذا هذا الظلم التاريخي؟ والى متى تستمر ازدواجية المعايير؟ وأين قرارات الشرعية الدولية التي ذهبنا الى مدريد على أساسها والتي تنص على تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي وانسحاب اسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. والآن وقد اقترب موعد الحسم، وحانت ساعة تقرير مصير القدس على رغم المناورات الاسرائيلية، ما هو الجديد في هذه القضية المحورية؟ يبدو واضحاً ان اسرائيل مصرة على موقفها وتمسكها بقرار ضم القدس الصادر في تموز يوليو 1980 الذي يعتبر القدس عاصمة أبدية لاسرائيل وانها سترفض أي نقاش في هذا الموضوع خلال مفاوضات الحل النهائي وستعمل على المساومة على قضايا اخرى وتقديم اغراءات للفلسطينيين تتناول تحقيق بعض مطالبهم حتى تحملهم على التوقيع على وثيقة الاعتراف بشرعية الاحتلال وعلى صك التنازل عن حق تاريخي وديني مقدس لا يمكن لأحد ان يقدم على هذه الفعلة مهما بلغ به الضعف او الهوان. وتعتمد اسرائيل على الزمن... وعلى ضعف العرب وتفككهم وعلى تشتت المسلمين وشن حملة ظالمة ضد الاسلام وتخويف العالم منه... وابتزاز الدول بقضية اللاسامية والمحرقة وضحايا النازية حتى تساومها على القدس. كما تعتمد اسرائيل على اللوبي الصهيوني القوي في الولاياتالمتحدة الذي استطاع ان يحشد التأييد الكامل للظلم التاريخي بضم القدس ويشجع الحزبين الجمهوري والديموقراطي على التنافس على كسب ود اسرائيل واصدار قرار أسود عن الكونغرس يعترف بالقدس عاصمة لاسرائيل ويطالب بنقل السفارة الاميركية من تل أبيب الى القدس، ويخصص 100 مليون دولار لإتمام هذا العدوان الصارخ على الحق والشرعية. والقرار، او القانون المذكور، موضوع الآن في ادراج الرئيس الاميركي في البيت الأبيض، عمل الرئيس كلينتون على تجميده وتجنب تنفيذه حتى لا يثير غضبة العرب والمسلمين ورغبة منه في عدم تعريض مسيرة السلام لنكسة خطيرة لا يريد ان يدفع ثمنها مما تبقى من رصيده، خصوصاً وان الانتخابات الرئاسية على الأبواب ولم يعد يفصلنا عنها سوى اشهر قليلة ولا بد ان تكون القدس مادة رئيسية للابتزاز الصهيوني والتنافس الرخيص على كسب ود اسرائيل. وبانتظار ساعة الحسم يبقى مصير القدس معلقاً في حالتي تجميد مفاوضات السلام او انهيارها... او في حال تحقيق تقدم نحو مفاوضات الحل النهائي بينما الموقف العربي والاسلامي نائماً ان لم نقل متخاذلاً... ولولا استئناف اعمال لجنة القدس قبل عدة اسابيع لخيل إلينا ان قضية القدس قد دخلت عالم النسيان في ضمائر العرب والمسلمين مع انها قضية حيوية تمس مقدساتهم ومسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله، اولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين والصخرة المشرفة والمساجد والأضرحة والمواقع التي صمدت في وجه كل الحملات الصليبية والصهيونية. وهناك الآن عملية شد وجذب بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية خصوصاً بعد نجاح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في التوقيع على اتفاق مع بابا الفاتيكان يؤكد ان القدس قضية دولية ويرفض اي تغييرات في وضعها وهويتها مما اعتبر رداً على عمليات الضم والتهويد. في الوقت نفسه لم يخف الاسرائيليون رفضهم لأي بحث في مصير القدس، وزادوا عليه رفضهم للانسحاب حتى من محيط القدس كما كان متفقاً عليه من قبل. هذا الموقف الذي أعلنه باراك بنفسه يبدو انه يهدف لابتزاز الفلسطينيين في قضية اقتراح البديل في ابو ديس وقيل انه ابلغ عرفات بهذا القرار في رسالة نقلها دنيس روس المبعوث الاميركي مؤكداً انه "ليس من الوارد بأي حال من الاحوال ان يتم نقل اراض في منطقة القدس الى الفلسطينيين ضمن خطة الانسحاب المفترض من 6.1 في المئة من الضفة الغربية فيما تقدم نائب من الليكود باقتراح قانون يحظر تسليم اي جزء من منطقة القدس الى اي "كيان اجنبي" !!! في الوقت نفسه انتقد رئيس الوفد الاسرائيلي المفاوض عوديد عيران ما اسماه باصرار الفلسطينيين على "ادخال أحياء عربية تقع في ضواحي القدسالشرقية مثل حي أبو ديس ضمن خطة الانسحاب المقبل زاعماً انه يصنف حالياً ضمن المنطقة "ب" حيث تنقل السلطات المدنية الى الفلسطينيين بينما تبقى السلطة الأمنية بيد اسرائيل. وكانت قد تسربت معلومات بعضها نشر في كتاب للكاتب الاسرائيلي مناحيم كلاين وعنوانه "حمائم في سماء القدس" تتحدث عن مسودة اتفاق بين يوسي بيلين الوزير الاسرائيلي ومحمد عباس أبو مازن ويقضي بتغيير حدود القدس لتتناسب مع الشروط الجغرافية والسياسية الجديدة في المنطقة بحيث تكون ابو ديس عاصمة للدولة الفلسطينية وتضم اليها بعض الاحياء والقرى وتحمل اسم القدس، وقد بدأ الفلسطينيون خطوات في هذا المجال ببناء مقر المجلس الوطني الفلسطيني على مفرق أبو ديس على بعد مواز من الحرم القدسي شرقاً لبعد الكنيست الاسرائيلي من حائط المبكى! ويبدو ان هذا الاتفاق الذي حاول نفي وجوده الطرفان، سيكون الورقة الأخيرة في عملية الشد والجذب على رغم ما يتردد الآن من رفض اسرائيلي للانسحاب من أي شبر من القدس، وأبو ديس تدخل في هذا المجال ربما كورقة ضغط مستقبلية. ولكن هل يمكن السكوت على مثل هذا التعنت الصهيوني؟ وما هو رد فعل العرب والمسلمين على تكريس ضياع القدس الشريف، والتنازل عن المقدسات؟ والى متى التواكل والتخاذل على رغم معرفة الجميع بأن ساعة الحسم قد اقتربت وان مصير القدس سيتقرر خلال أشهر قليلة؟ انها أسئلة موضوعة بتصرف كل عربي وكل مسلم، بل هي أيضاً بتصرف كل مسيحي لأن المقدسات المسيحية تعرضت بدورها للانتهاكات والتهديدات، كما تم تنظيم خطة صهيونية محكمة لتهجير المسيحيين العرب من القدس وأراضي فلسطينالمحتلة ولافراغ المدينة المقدسة من الوجود المسيحي فيما عمدت الى بذر بذور الفتنة بين المسلمين والمسيحيين عبر اذكاء نار قضية المسجد في الناصرة. فقد عمدت اسرائيل منذ اكثر من 33 سنة من عمر احتلالها للقدس الشريف على تهويد المدينة وتغيير هويتها العربية الاسلامية وأقامت عشرات الاحياء الاستعمارية الاستيطانية التي شوهت وجه مدينة السلام وحاولت عبثاً العثور على اي اثر أو موقع يهودي وانتهت الحفريات الى نتائج صدمت الصهاينة... ومع هذا استمرت خطط التآمر لانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك وتعريضه للخطر بل وللهدم بزعم البحث عن هيكل سليمان. فالقدس في خطر، ومصيرها اليوم مهدد، ولا بد من دق ناقوس الخطر... فمسؤولية تحريرها وإنقاذها من براثن الاحتلال مسؤولية عربية اسلامية، بل وعالمية ولهذا لا بد من تحرك سريع وشامل للتنبيه للخطر القادم والتأكيد على ان السلام الشامل والعادل في المنطقة لا يمكن ان يتحقق الا بتحرير القدس وإنقاذ المقدسات مهما طال الزمن، ومهما وقعت من اتفاقات أو قدم من تنازلات. * كاتب وصحافي عربي.