نظم "اتحاد المهندسين العرب" أمس في قاعة المحاضرات في قصر الاونيسكو في بيروت مؤتمر "القدس الآن المدينة والناس: تحديات مستمرة" ألقى خلاله الدكتور المؤرخ وليد الخالدي محاضرة عن المدينة المحتلة التي تتميز قضيتها عن سائر قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي بخصائص فريدة في جذورها وأبعادها ومضاعفاتها. وتنشر "الحياة" على حلقتين مداخلة الدكتور الخالدي في "المؤتمر العلمي الأول" لاتحاد المهندسين العرب. وهنا الأولى. تتميز قضية القدس عن سائر قضايا الصراع الصهيوني العربي بخصائص فريدة في جذورها، وأبعادها، ومضاعفاتها، ذلك أن البعدين الديني والدنيوي، الروحي والمادي، السياسي والرمزي، الوجداني والعقلاني تقاطعا وتفاعلا فيها عبر عشرات بل مئات العقود التي رافقت صراع الأطراف عليها، بحيث ارتبطت العلاقة بالقدس ارتباطاً لا انفصام له ليس فقط بالعقائد الإيمانية ولكن أيضاً بتعاريف الذات والتراث والهوية والقومية. وهكذا غدت سيطرة الطرف الواحد على القدس حكماً، وإلزاماً، تحدياً وتهديداً لصميم ذات الآخر، لا يخفف من غلوائهما إلاّ بقدر ما يتحلى المسيطر بأعلى مزايا السماحة والشهامة، وحتى في حالة ذلك لا ضمانة ألاّ يقوم الطرف الآخر ان عاجلاً أم آجلاً بسعي لإعادة الأمور الى ما كانت عليه من قبل، كما يدلنا التاريخ على ذلك ان كان في حملات الإفرنج بعد مرور أربعمائة وخمسين عاماً ونيف على الفتح العمري، او في الفتح الصلاحي بعد قرن على احتلال الفرنج، او في دخول الجنرال اللّبني القدس بعد سبعمائة عامٍ ونيف على الفتح الصلاحي، او في اقتحام القوات اليهودية القدس عامي 1948 و1967 بعد ثلاثة آلاف عام على تأسيس مدينة داود عليه السلام. وببدء مفاوضات المرحلة الأخيرة يشير عقرب الساعة الى الثانية عشرة، ويقف مصير القدس مرة اخرى على عتبة دهليز حالك الظلمة لا نهاية مرئية له. ولا يعود ذلك الى جبروت ميزان القوى فحسب، اذ ان هذا الميزان قد فعل فعله في الميدان على اكثر من جبهة، وهو فاعل فعله بدرجات متفاوتة على ما تبقى من جبهات، وعلى قضايا عالقة ثنائية فلسطينية اسرائيلية، وانما يعود الى تصميم العدو: يميناً، ويساراً، على ان يجعل من وجوده بالقدس بشروط الغالب، الفاتح، تتويجاً محسوساً ورمزياً لمسيرته المنصورة عبر عقود عشرة خلت منذ تأسيس الحركة الصهيونية عام 1897، وليوحي بهذا التتويج الى كنه علاقات مستقبلية يطمح اليها بمشرقنا وبوطننا العربي وبالأمة الاسلامية. ومما يزيد في مخاطر التفجر نتيجة تصميم العدو هذا، هو تلاقي طيف من التطورات الجسام: من انبعاث لليمين المسلم والمسيحي واليهودي على حد السواء، الى سعي الغرب الى ايجاد عدو له بديل عن الشيوعية، الى شعور مستفحل في ديار الاسلام بالمحاصرة ازاء زحف الثقافة الغربية العرم، المصحوب بكلام، يلقى على هواهنه في بعض اوساط غربية، عن صراع آت بين الحضارات. والمفارقة الكبرى اننا لا نفتقر الى حلفاء في القدس: ان في اصول القانون الدولي او الوضعي، او في موقف الكنيسة الكاثوليكية وحبرها الأعظم، او في مجالس الكنائس الاميركية العدة، او في قرارات الأممالمتحدة، او في بيانات القمم الاسلامية والعربية المتعاقبة، بيد ان جميع هذا يذهب، كما يبدو، هباءً منثوراً ازاء ما يحشده العدو في الكفة الاخرى. ومما وطّد اقدام العدو وأوصله الى مقامه العزيز بالقدس تأييد أعلى مجلس تشريعي في اعظم دولة ديموقراطية، وقد وضع هذا الحليف الجبار اصابعه في اذانه لكل نداء سوى مطالب اسرائيل، وعقد النية على نقل سفارة بلاده الى القدس عاصمة أبدية موحدة تحت حراب اسرائيل. بكلمة، ليس هناك من وفير الدواعي للتفاؤل بمستقبل القدس، بل في حال بقاء الأمور على مجراها، فإن مدينتنا المقدسة مرشحة لأن تكون حلبة صراع مديد، في الألفية المقبلة، بين القوى العربية والاسلامية والمسيحية المتعاطفة، من جهة، وبين قوى اليهودية والصهيونية والغربية الانجيلية، من جهة اخرى. قُبيل مغادرة ريتشارد قلب الأسد فلسطين، أرسل صلاح الدين اليه يقول "القدس إرثنا، كما هي إرثكم، من القدس عرج نبينا الى السماء، وفي القدس تجتمع الملائكة، لا تظن اننا نتخلى عنها أبداً، اما الارض فاستيلاؤكم عليها كان عرضاً لضعف المسلمين فيها". انتهى كلام صلاح الدين. ومرت سنون طوال: وبعيد اصدار تصريحه عام 1917، أرسل اللورد بلفور الى زملائه في الوزارة يقول: "ان الصهيونية، أكانت حقاً أم باطلاً، حسنة ام سيئةً، لهي عميقة الجذور في تقاليدنا القديمة، واحتياجاتنا الراهنة، وآمالنا للمستقبل، وهي، لذلك، تعلو أهمية على رغائب وأهواء ال سبع مائة الف عربي الذين يقطنون تلك الأرض التليدة". انتهى كلام بلفور. واذا كان وعد بلفور بمثابة رد الغرب في القرن العشرين على صلاح الدين، فقد نتج هذا الرد عن تطورات في غاية الخطورة حدثت داخل المسيحية الغربية منذ الحملات الصليبية الكاثوليكية، أهمها: حركة الإصلاح الديني التي تمخض عنها بروز البروتستانتية، مع توكيدها الشديد، خلافاً للكاثوليكية، على العهد القديم في التوراة. وقد وصل ثمل البروتستانتية بالعهد القديم الى ذروته في بريطانيا البيوريتانية خلال القرن السابع عشر، ثم همد في القرن الثامن عشر - عصر العقلانية - ليعود ويساهم بزخم - جزئياً كرد فعل على الثورة الفرنسية - في بعث الإنجيلية التبشيرية في مطلع القرن التاسع عشر، مترافقاً ذلك مع دعوة مثابرة متواصلة الى عودة اليهود الى فلسطين. وكان اللورد آشلي، ايرل شافتسبري، الراعي العلماني للإنجيلية الإنكليزية، وزعيم الدعاة الى عودة اليهود الى فلسطين، وذلك قبل مولد مؤسس الصهيونية الحديثة ثيودور هرتسل بنحو عشرين عاماً، وتناغم مع الدعوة الى عودة اليهود هذه، سلسلة من بناة الإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر بدءاً باللورد بالمرستون رئيس الوزراء. وإذا بدا للبعض أن الربط بين وعد بلفور والحملات الصليبية فيه بعض الشطح والشطط فلا بأس في أن يذكر بأن مجلة بانش، كبرى المجلات السياسية البريطانية المصورة، نشرت بعد دخول الجنرال اللنبي القدس، رسماً لريتشارد قلب الأسد يحدق في القدس قائلاً: "وأخيراً تحقق حلمي". ومما يذكر أيضاً، أن السير مارك سايكس، صاحب شهرة سايكس بيكو، ومهندس النظام الجديد في المشرق العربي بعد الحرب العالمية الأولى، صمم تمثالاً لإقامته على قبره وكان التمثال لمحارب من الفرنج يرتدي درعاً ويشهر سيفاً، بينما يرقد عند قدميه محارب مسلم قتيل، ويعلو النصب لوحة نقشت عليها عبارة: "ابتهجي يا أورشليم". ولو أن هذا المنظور الغربي الذي يوقف تاريخ القدسوفلسطين عند أزمنة العهد القديم من التوراة ويجمده هناك، متعامياً عن كل ما تلاه، لو أنه أصبح من مخلفات التاريخ، لهان الأمر، ولكن المراقب السياسي المعاصر، المتمعن في مواقف حلفاء اسرائيل الحاليين في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، لا يسعه إلا أن يسمع أصداءه ويتيقن من أثره ويذهل من ديمومته. 3 عشية قرار التقسيم الصادر عام 1947 عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بلغ مجموع سكان القدس داخل حدود البلدية 000،151 نسمة: 60 في المئة منهم من اليهود، و40 في المئة من العرب مسيحيين ومسلمين، بيد أن الأكثرية الظاهرة اليهودية لا تعطي صورة صادقة للوضع الديموغرافي على الطبيعة، إذ أن حكومة الانتداب البريطانية، التي كانت ترعى تدفق المهاجرين اليهود على فلسطين، كانت رسمت حدوداً لبلدية القدس أدخلت ضمنها العديد من المستعمرات اليهودية المستحدثة خارج أسوار المدينة القديمة، مهما بعدت، واستثنت منها العديد من القرى العربية القائمة، مهما اقتربت، حتى التي كانت تحت أسوار المدينة القديمة ذاتها - هذا من ناحية. من ناحية أخرى تشمل الأكثرية اليهودية الظاهرة نسبة عالية من اليهود المهاجرين الأوروبيين الذين لم يرغبوا في الحصول على الجنسية الفلسطينية الانتدابية، ولا يجوز بالتالي اعتبارهم من سكان القدس الأصليين، وحتى لو شكل اليهود من فلسطينيين وغير فلسطينيين الأكثرية النسبية داخل حدود البلدية المصطنعة عام 1947، فإن الأكثرية الساحقة من سكان البلدة القديمة داخل الأسوار وهي قلب القدس وقصبة فلسطين كانوا ولا يزالوا من العرب مسيحيين ومسلمين. وتتجلى الصبغة العربية للقدس عام 1947 أيضاً في ملكية الأرض وفي طبيعة محيطها الريفي، فنسبة الملكية اليهودية داخل حدود بلدية القدس، عام 1947، لم تتعد ال28 في المئة، وبلغت 2 في المئة فقط في قضاء القدس، أما نسبة السكان العرب، في قضاء القدس، فكانت 62 في المئة مقابل 38 في المئة لليهود، أي أنها كانت معاكسة للنسبة بين الطرفين داخل حدود البلدية. كل هذا انقلب رأساً على عقب في مرحلتين: الأولى عام 1948 والثانية عام 1967. معلوم أن قرار التقسيم عام 1947 نص على إقامة دولتين: إحداهما يهودية، والثانية عربية، شرط أن تستثنى القدس من كلتا الدولتين، ونص القرار على اقامة كيان خاص للقدس corpus separatum، تحت الوصاية الدولية الدائمة، وعلى أن توسع حدود بلدية المدينة لتضم محيطها المباشر في الكيان الخاص، وبلغ عدد السكان، داخل الكيان الخاص 000،107 من العرب مسيحيين، ومسلمين و000،102 من اليهود، أما ملكية اليهود، داخل الكيان الخاص، فبلغت 500،12 دونماً: أي 6،6 في المئة من مجمل مساحة الكيان الخاص. وهذا الرقم 500،12 دونم لجدير بأن نستبقيه في الذاكرة على ضوء ما هو آت. ومن الخير أن نشير هنا الى أنه لولا استثناء القدس من كلتا الدولتين، وبخاصة من الدولة اليهودية، لما أقرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة التقسيم عام 1947، ذلك أن المجموعة الأميركية اللاتينية، التي كانت تشكل ثلث العضوية حينئذ، وتتأثر بمشورة الفاتيكان، وقفت موقف المناهض لتقسيم فلسطين من دون هذا الاستثناء. ومعلوم أيضاً أن الشعوب والحكومات العربية رفضت قرار التقسيم عام 1947، وكانت على حق في ذلك لأن القرار أعطى اليهود دولة على أرض عربية، ولأن مساحة الدولة اليهودية المزمعة بلغت بشطحة قلم 55 في المئة من مجمل مساحة فلسطين، في حين لم تزد المساحة في حوزة اليهود عام 1947، بعد 70 عاماً من الاستيطان منذ بدء الثمانينات في القرن السالف على 7 في المئة من مساحة فلسطين. والشائع أن اليهود، خلافاً للعرب، وافقوا على قرار التقسيم، والواقع، أن القيادة الرسمية الصهيونية اليسارية وافقت على قرار التقسيم على طريقتها، بينما رفضته المعارضة الصهيونية اليمينية رفضاً قاطعاً، كما رفضت المعارضة استثناء كيان القدس الخاص من الدولة اليهودية رفضاً قاطعاً وحشدت في المدينة قوات عصابتيها الإرهابيتين: الشتيرن والأرغون. قلت أن القيادة الصهيونية الرسمية وافقت على التقسيم بما في ذلك استثناء كيان القدس الخاص من الدولة اليهودية على طريقتها، إذ أن الموافقة هذه كانت لأسباب تكتيكية لضمان إقرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة للتقسيم، لما فيه من مكاسب خيالية لم تكن القيادة لتحلم بها من قبل، بيد أن موقف القيادة الصهيونية الفعلي كان اعتبار حدود الدولة اليهودية المزمعة الحد الأدنى والمنطلق لإضافة أقصى ما تستطيع القوة العسكرية اليهودية اضافته اليها من الأراضي الفلسطينية، وعلى رأسها القدس ومحيطها الريفي، أي الكيان الخاص. وواجهت القيادة الصهيونية حقائق على الأرض تحول دون الوصول الى القدس بسهولة، إذ أن القدس كانت تقع في قلب الدولة العربية المقترحة وكانت تفصلها عن الدولة اليهودية الواقعة على الساحل عشرات القرى العربية القوية النشطة المنتشرة في سهل الرملة وفي الجبال الى الشرق. وعليه وضعت القيادة الصهيونية بعيد قرار التقسيم خطة هجومية كبرى أسمتها "الخطة دال" لتنفيذ قرار التقسيم بقوة السلاح، وكان هدفها الإضافي الأول، بحجة الدفاع عن الأحياء اليهودية بالقدس، احتلال قضاء القدس بكامله بعد احتلال القرى المشار اليها، وبالفعل بدأ بتنفيذ الهجوم على القدس في الأسبوع الأول من نيسان ابريل 1948 تمهيداً لإعلان قيام الدولة اليهودية عند انتهاء الانتداب في 15 أيار مايو 1948، أي أن الهجوم بدأ قبل نهاية الانتداب ودخول الجيوش العربية بستة أسابيع وتم تنفيذ الهجوم عبر سلسلة من العمليات المحكمة الترابط أدت الى سقوط ما سِمُِّي "بالقدس الغربية" والى تشريد سكانها العرب والاستيلاء على أملاكهم بحلول 15 أيار 1948 وهو يوم انتهاء الحكم البريطاني في فلسطين، وإعلان قيام الدولة اليهودية، ودخول الجيوش العربية البلاد. ولم تكن واقعة دير ياسين سوى إحدى المحطات الكبرى في هذا الهجوم على القدس عام 1948. ان تسمية القدس الغربية تخفي هول ما حدث، إذ الذي حدث هو سقوط 13،84 في المئة من مساحة بلدية القدس في أيدي اليهود كانت ملكية معظمها غير يهودية، وكانت تضم أهم المراكز التجارية والأحياء السكنية العربية خارج الأسوار، وكان يقطن هذه الأحياء 000،25 مقدسي عربي من المسيحيين والمسلمين من أصحاب المهن الحرة والتجار والموظفين. وهكذا، فالذي بقي في أيدي العرب في الخامس عشر من أيار 1948 وما سُمي بالقدسالشرقية لم يتعد 48،11 في المئة من مساحة بلدية القدس، بما في ذلك البلدة القديمة داخل الأسوار، وحتى هذا الجزء من القدس لم ينقذ إلاّ بعد تدخل الجيش العربي الأردني، في اللحظة الأخيرة، وهو التدخل الذي لولاه لسقطت القدس بكاملها مع قضائها في أيار 1948. وهكذا فإن وجود اسرائيل في القدس الغربية يقوم على الاحتلال العسكري، خرقاً للقانون الدولي لكونه خرقاً لمشروع التقسيم وللكيان الخاص Corpus separatum الذي نص عليه المشروع إضافة لانتهاكات اسرائيل بالقدس لاتفاقات لاهاي وجنيف الخاصة بالأراضي المحتلة من خلال الحرب. فصلت خطوط هدنة 1949 ومنطقة الحرم بإشراف دولي بين القدس الغربية والقدسالشرقية طيلة السنوات 1949 - 1967، وسارعت اسرائيل الى نقل الأملاك العربية في القدس الغربية الى هيئات وأفراد اسرائيليين، وأعلنت القدس الغربية عاصمة لها، وبنت على الأملاك المغتصبة أهم مؤسساتها الرسمية بدءاً بالدوائر الحكومية والوزارات وانتهاء بالكنيست ومقبرة عظمائها على ما أسمته جبل هرتسل الذي هو من أملاك قرية دير ياسين، وضربت اسرائيل بذلك عرض الحائط بكل قانون واتفاق دولي وقرار لمجلس الأمن أو للجمعية العمومية لهيئة الأمم، وهذا هو الذي يدفع دول العالم، باستثناء من نعرف، الى عدم الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس الغربية الى يومنا هذا. 4 يكاد ما حدث للقدس الغربية عام 1948 يتضاءل ويهون، مقارنة بما حدث للقدس الشرقية في أعقاب حرب حزيران يونيو 1967، إنما ثمة وجه شبه أساسي بين الوضعين: فكما دخلت اسرائيل القدس الغربية بقوة السلاح انتهاكاً للقانون الدولي عام 1948، دخلت اسرائيل القدسالشرقية بقوة السلاح انتهاكاً للقانون الدولي عام 1967. سيتكلم غيري عن تفاصيل ما اقترفته في القدسالشرقية منذ 1967 وسأقصر كلامي هنا على الخطوط العريضة لذلك. تسوق اسرائيل حجتين رئيسيتين لتبرير احتلال القدسالشرقية وتدابيرها فيها منذئذٍ: الأولى أن الأردن منع الوصول الى حائط المبكى الواقع داخل البلدة القديمة في الفترة ما بين هدنة 1949 وحرب 1967 وذلك بدافع روح التعصب الإسلامي، والأخرى أن الأردن أطلق الطلقات الأولى في القدس في حرب 1967، فهو البادىء بينما كانت اسرائيل، كما تدعي، في موقع الدفاع عن النفس، كما تدعي أنها كانت أيضاً عام 1948. طبعاً الكلام عن التعصب الإسلامي بالنسبة الى حائط المبكى هراء: فالذي طرد اليهود من القدس هم الرومان ثم البيزنطيون، وقد حوّل البيزنطيون موقع هيكل سليمان الى مزبلة لقاذوراتهم، والذي أعاد اليهود الى القدس هو الفتح العمري، والذي ذبح اليهود في القدس حتى وصلت دماؤهم ركب الخيل هم الإفرنج، والذي أعادهم ثانية هو صلاح الدين، والذي حافظ عليهم ورعاهم طيلة العهود التالية من حكم الأيوبيين والمماليك والعثمانيين هو الإسلام، والذي سمح لهم، أصلاً، بالصلاة أمام حائط المبكى الذي هو موقع البراق هو السلطان سليمان القانوني العثماني، والذي أوصلهم الى أوج مدنيتهم في العصور الوسطى هم عرب الأندلس، والذي آواهم بعد طردهم من إسبانيا هي ديار الإسلام مغرباً ومشرقاً. أما الوصول الى حائط المبكى فقد وقع ضحية حرب 1948، وهي ضحية لا تقاس بسائر ضحايا حرب 1948: من احتلال اسرائيل لمدن يافا وحيفا وعكا وطبريا والناصرة وصفد واللد والرملة والقدس الغربية والمجدل وأسدود وسمخ وبيسان وبئر السبع وافراغها جميعاً من سكانها العرب واحتلال اسرائيل ل500 قرية عربية صودرت أراضيها وهدم منها 400 قرية درست معالمها وسويت مع تراب الأرض ووزعت حقولها ومزارعها وبيادرها ومقابرها على مستعمرات يهودية، الى تهجير 000،750 من سكان هذه المدن والقرى وتشريدهم وذريتهم من ملايين البشر في شتات الى يومنا هذا. أما أن الأردن أطلق الرصاصة الأولى في القدس عام 1967، فهذا القول يتعامى كلياً عن أن الذي شن الهجوم المفاجىء، على غرار بيرل هاربر، فجر الخامس من حزيران يونيو 1967 على مصر: هو اسرائيل ذاتها، وأن الأردن، إذا تحرك، فإنه تحرك بعد أن كانت اسرائيل البادىء، ولعل أبلغ تعليق على نيات اسرائيل تجاه القدسالشرقية 1967 هو ما قاله اسحاق رابين، رئيس الوزارة لاحقاً، ورئيس الأركان لجيش اسرائيل خلال حرب 1967. يقول رابين: "في سنة 1948 أجبرنا على ترك القدسالشرقية بين أيدي العدو، ومنذ انفجار الحرب الراهنة، لازمنا الشعور بأن علينا ألا نضيع هذه الفرصة التاريخية ثانية". انتهى كلام رابين. فور احتلالها القدسالشرقية، باشرت اسرائيل في تنفيذ مخطط بعيد المرامي، خطير الأبعاد، غايته: ضم القدس بشطريها قسراً الى اسرائيل وابقاء الشطرين تحت السيادة الإسرائيلية حصراً، اعتماداً على قوتها العسكرية الطاغية، وذلك عبر سبل رئيسية خمسة: أولاً - توسيع رقعة بلدية القدسالشرقية بالسلخ من أراضي الضفة الغربية. ثانياً - مصادرة الأرض العربية داخل هذه الرقعة الموسعة وخارجها، ونزع ملكيتها ونقلها الى الملكية اليهودية، على غرار ما فعلت في القدس الغربية طيلة السنوات 1948 - 1967. ثالثاً - انفاق المال الوفير على تنظيم الأراضي المصادرة وبناء مستعمرات وأحياء لليهود حصراً، قائمة بذاتها، مكتملة المستلزمات: من مساكن، ومدارس، ومتاجر، ومطاعم، وحدائق، وملاعب، وصناعات متخصصة، ودور للسينما. رابعاً - حشد أمواج من المهاجرين اليهود في هذه المستعمرات والأحياء بإغراءات، وتسهيلات، وإعفاءات ضريبية، وقروض متنوعة. خامساً - التضييق على المقدسيين العرب من مسيحيين ومسلمين عن طريق طيف مريع من التدابير التمييزية والضغوطات في السكن، والتعليم، والتنقل، والخدمات، والضرائب، والعقوبات، والإهانات الفردية والجماعية - كل ذلك وغيره الكثير بغية إقناعهم بالرحيل أو الانتشار في الضفة الغربية بعيداً عن القدس ومحيطها. وفي سياق تنفيذ هذا المخطط شحذت اسرائيل أخطر أداتين مدنيتين في جعبتها وحرّرتهما عن غايتهما الأصلية أعني بذلك: أداة التنظيم المدني Town planning وأداة التشريع، وارتفعت في تسخيرهما في خدمة سياسة التطهير العرقي السلمي التي انتهجتها في القدس الى مستوى الفن الإبداعي، وأردفتهما باستعمال آلة أصبحت الرمز الرهيب للغطرسة الإسرائيلية: الجرّافة البولدوزر: ضابطة الاتصال بين اسرائيل والمواطن العربي المقدسي العادي. وحبست اسرائيل القدسالشرقية داخل دوائر ثلاث متراكزة concentric: الدائرة الأولى - الداخلية وقوامها حدود بلدية القدسالشرقية الموسعة، إذ أنها فور احتلالها عام 1967، أعلنت اسرائيل، بكل بساطة، "توسيع" حدود بلدية القدسالشرقية من 6000 دونم الى 000،73 دونم من أراضي الضفة الغربية وضعتها تحت السيادة الإسرائيلية. الدائرة الثانية - الوسطى مساحتها 000،260 دونم من أراضي الضفة الغربية: أسمتها "القدس الكبرى" Greater Jerusalem، وشملت هذه الدائرة طوقاً من المستعمرات المستحدثة منذ 1967، وربطت اسرائيل هذه المستعمرات بالبنية التحتية للقدس بشطريها الشرقي والغربي، كما ربطتها بها عبر طرق إلتفافية وأنفاق جديدة. الدائرة الثالثة - الخارجية مساحتها 000،340 دونم: أسمتها حاضرة القدس Metropolitan Jerusalem وشملت هذه الدائرة طوقاً ثانياً من المستعمرات المستحدثة في الضفة الغربية. وإذا كنتم أبقيتم في ذاكرتكم مساحة الأرض التي كانت في حوزة اليهود عام 1948 في القدس ومحيطها أي الرقم 500،12 دونم، لتبين لكم الى أين آلت الأمور منذئذٍ. طبعاً رافقت هذه الثورة في السيطرة على الأرض ثورة ديموغرافية متوازية: فارتفع عدد سكان القدس الغربية من اليهود من 000،100 نسمة عام 1948 الى 000،400 نسمة اليوم ولم يسمح لأي عربي من سكان القدس الغربية الأصليين بالعودة اليها. وارتفع عدد السكان اليهود في القدسالشرقية الدائرة الداخلية الموسعة من صفر عام 1967 الى 000،180 اليوم بحيث أصبح يساوي عدد المقدسيين العرب الحاليين فيها من مسيحيين ومسلمين. وارتفع عدد اليهود في الدائرتين الوسطى والخارجية من صفر عام 1967 الى 000،70 في كلتا الدائرتين مقابل 000،120 عربي في الدائرة الثانية الوسطى و000،230 عربي في الدائرة الخارجية، غير أن اسرائيل تخطط لرفع عدد اليهود في هاتين الدائرتين من 000،70 الى 000،500 عام 2015. غداً: الحلقة الثانية.