Ahmet Insel ed.. La Turquie et L'Europe. تركيا واوروبا. L'Harmattan, Paris. 1999. 254 Pages. لعل ما من دولة يرمز قدرها الجغرافي الى قدرها التاريخي مثل تركيا. فهذه الدولة المتوزعة بين القارتين الآسيوية والاوروبية تعاني من ازدواجية - تأخذ احياناً بعداً فصامياً - بين هوية آسيوية اسلامية متأصلة منذ القرن الرابع عشر وهوية اوروبية مستجدة منذ مطلع القرن العشرين. فتركيا، التي لم تكن معروفة بهذا الاسم طيلة الحقبة العثمانية من تاريخها، هي المحصلة الجيوبوليتيكية لآخر غزوة كبرى من غزوات قبائل آسيا الوسطى الطورانية لآسيا الصغرى بزعامة آل عثمان، الذين اعلنوا استقلالهم منذ مطلع القرن الرابع عشر عن بني جلدتهم السلجوقيين ممن سبقوهم الى غزو الشرق الاسلامي منذ القرن الحادي عشر. وقد رأت تركيا الحديثة النور في سياق المشروع التحديثي التغريبي الذي قاده كمال اتاتورك ضد العثمانيين وموروثهم الآسيوي الاسلامي ابتداء من العقد الاول من القرن العشرين. فالانقلاب الذي قاده الكماليون من جماعة "تركيا الفتاة" لم يكن محض انقلاب سياسي: فقد شاء نفسه انقلاباً في الهوية. فما دام مركز التقدم الحضاري قد انتقل الى اوروبا، فقد ازفت الساعة لتكتشف تركيا - او لتخترع بالاحرى - هويتها الاوروبية بعد طول سبات في الهوية الآسيوية الاسلامية. وهذا الانقلاب في الهوية تمحور على ثلاث جبهات: القومية والجمهورية والعلمانية، وفي طور لاحق على جبهة رابعة هي جبهة الديموقراطية. ولا شك ان هذه القسمات الاربع التي جاهدت تركيا الكمالية لكي تعطيها لهويتها الجديدة هي اهم اربع قيم بإطلاق فرزتها الحداثة السياسية الاوروبية. لكن المفارقة ان هذه القيم المعيارية هي عينها التي تستند اليها دول "الاتحاد الاوروبي" اليوم لكي تماري في الهوية الاوروبية لتركيا ولكي ترجئ بالتالي الى اجل غير مسمى بعد فتح باب عضوية هذا الاتحاد امام تركيا التي تقدمت بطلب رسمي للانتساب اليه منذ 1987. لماذا هذا التشكك - والتشكيك - الاوروبي في الهوية الاوروبية لتركيا؟ ان لهذا السؤال جوابين: نظرياً وعملياً. فعلى الصعيد النظري يلاحظ الناطقون الصريحون او المضمرون بلسان المجموعة الاوروبية ان تلك القيم المعيارية الاربع قد كفّت في التطبيق التركي عن ان تكون اوروبية خالصة، وانه قد اصابها قدر غير قليل من التحريف تحت ضغط الموروث الآسيوي الاسلامي لتركيا، كما من التشوية من جراء استدخالها عن طريق المحاكاة لا من خلال التطور العضوي الذاتي. فالشكل الجمهوري الذي شاءت تركيا الكمالية ان تحاكيه هو الشكل الفرنسي اليعقوبي الذي يعطي كل الادوار للدولة المركزية ولا يعطي اي دور لمجتمع الاطراف المدني. والحال ان التجربة التاريخية للعديد من الدول الاوروبية، وفي مقدمتها الدول الملكية مثل بريطانيا، قد قامت على اساس رفض النموذج اليعقوبي، فضلاً عن ان هذا النموذج هو اليوم قيد مراجعة واعادة نظر في الدولة الام التي انجبته: فرنسا. وكما اخذت تركيا مفهوم الجمهورية عن يعاقبة الثورة الفرنسية المتطرفين، كذلك اكتسبت مفهومها للقومية من التجربة الالمانية التي تأولت القومية تأويلاً اثنياً ادرك ذروته لاحقاً في الايديولوجيا النازية. فالتاريخ القومي لتركيا الحديثة هو تاريخ تتريك قسري وتاريخ تطهير عرقي في آن. ومن هذا المنظور تبرز ثلاث وقائع كبرى، جميعا ذات طابع مأسوي، في تاريخ البناء الاثني للهوية التركية: مذابح الارمن التي اوقعت في مطالع القرن العشرين نحواً من مليون ونصف مليون ضحية في صفوف أرمن تركيا، فضلاً عن بضعة من عشرات الالوف من النصارى العرب السريان. ثم مذابح الاكراد التي اعقبت ثورتي جبل أرارات 1930 ومدينة درسيم 1938 اللتين قمعتا بالنار والحديد وبالمشانق الجماعية. واخيراً عمليات التهجير الجماعي لليونانيين من سكان السواحل التركية، وهي العمليات التي اعقبت الحرب التركية - اليونانية عام 1922 وطالت نحواً من مليون ونصف مليون مواطن تركي من اصل يوناني وتواصلت الى عام 1964 عندما تم اخلاء مدينة اسطنبول من الرعايا اليونانيين المقيمين فيها. ويضاف الى كل ذلك سلسلة من المذابح والاضطهادات "الصغرى" ضد اقليات دينية واثنية اخرى مثل اعمال العنف المناهضة لليهود في مقاطعة تراقيا عام 1934، ومذابح الاقليات الدينية في اسطنبول في يومي 6 و7 ايلول سبتمبر 1955، واخيراً عمليات الترحيل الاجباري او الطوعي للنصارى العرب في انطاكية والاسكندرون ومدن اخرى في الجنوب الشرقي من الاناضول، مما ادى في نهاية المطاف - كما يلاحظ الباحث التركي احمد أنسل - الى تحويل الشعار القائل بأن "تركيا مجتمع مسلم بنسبة 99.9 في المئة" الى "حقيقة واقعة" خلال 85 سنة من تاريخ تركيا الحديثة. وهذا التحول ما أملته اعتبارات دينية بل - وهنا المفارقة - اعتبارات قومية. فالايديولوجيا الكمالية أرادت تركيا امة متعددة من قدّة واحدة من الصخر الصلد، ومن هنا وجهت رأس حربة عدائها الى التعدد الاثني والديني معاً. وذلك هو مؤدى الشعار الذين اطلقه في 1995 احد قادة اليمين التركي: "ليس يصمد إلا الرخام، لا الفسيفساء". هذا المفهوم الاثني الانغلاقي للقومية، الذي لم يستطع ان يطور تصوراً للهوية التركية مبنياً على فكرة المواطنة المفتوحة والانتماء السياسي الى الدولة، لا الى الامة بالمعنى العرقي، يصادم مصادمة مباشرة مفهوم المواطنة الاوروبية كما هو قيد التكوين اليوم في اطار الاتحاد الاوروبي بما يجسده من تحول تاريخي كبير من مرحلة الدولة القومية الى مرحلة الدولة ما فوق القومية. ومن هنا صعوبة اللقاء، وكم بالاحرى الاندماج، بين تركيا التي ما زالت في مرحلة ساخنة من النهج القومي الادماجي وبين اوروبا التي شبعت حتى التخمة من القومية ودخلت في مرحلة البناء العقلاني البارد لاتحاد سياسي واقتصادي وثقافي يقوم على اساس وحدة الحضارة، لا وحدة الامة. واذا جئنا الآن الى العلمانية فسنلاحظ انها هي الاخرى لا تمثل، رغم الظواهر، قسمة مشتركة بين تركيا واوروبا. فالعلمنة التركية كما اطلقها اتاتورك قبل ثلاثة ارباع القرن، ما طالت حتى الآن سوى سطح الدولة ولم تمسّ بعد عمق المجتمع. فقانون الاحوال الشخصية في تركيا ما زال الى اليوم غير معلمن، ولا زالت بطاقة الهوية التركية تسمي المذهب الديني الطائفي لحاملها، ولا زال الزواج المدني مرفوضاً. ورغم ان القانون التركي يمنع تعدد الزوجات، الا ان المحاكم التركية لا تجد بداً في نهاية المطاف من ان تضفي صفة شرعية على تلك الزيجات التي قدر احد المؤلفين عددها في الفترة ما بين 1933 و1970 بأكثر من 270 ألف زيجة نتج عنها اكثر من 10 ملايين مولود. والاخطر من ذلك بعد ان الدولة نفسها لا زالت تمارس تمييزاً دينياً طائفياً في مجال الوظيفة العامة. فأبواب هذه الوظيفة ليست مفتوحة امام جميع المواطنين الاتراك بلا استثناء. فأبناء الاقليات الدينية ما زالوا مستبعدين عنها منذ القانون الصادر في 18 آذار مارس 1926 والذي يشترط للدخول الى الوظيفة العامة والجيش "الاصل التركي" لا "المواطنة التركية". واذا كانت عمليات التطهير العرقي والتهجير الجماعي قد حسمت عملياً مسألة الاقليات الدينية - باتجاه لا ديموقراطي صارخ - فهي لم تحسم في المقابل مسألة الاقلية الطائفية التي يمثلها الاتراك العلويون الذين يقدر عددهم بنحو عشرة ملايين مواطن. فهؤلاء ما زالوا يعانون من اشكال صامتة من التمييز ومن الاستبعاد، فضلاً عن ان تطور الحركات الاصولية في السنوات الاخيرة قد جعل منهم - حتى في اسطنبول - هدفاً معلناً لعمليات الاغتيال الطائفي والحرق المتعمد للأملاك والمخازن. وتمثل المسألة الديموقراطية اخيراً رابع نقطة احتكاك وعدم تفاهم بين تركيا والمجموعة الاوروبية. فتركيا قطعت بكل تأكيد شوطاً واسعاً في مسار التحول الديموقراطي. لكنها لم تنجز في المقابل تمام تحولها من آلية الديموقراطية الى ثقافة الديموقراطية. فالحياة السياسية التركية ينتظمها، تماماً كما في البلدان الاوروبية، مبدأ الانتخاب والتداول الدوري للسلطة. لكن هذه السلطة المنظورة تقف وراءها وتعلو عليها سلطة لامنظورة هي سلطة المؤسسة العسكرية التي ما زالت، منذ العهد الكمالي، تعطي نفسها حق الفيتو على قرارات السلطة السياسية، هذا ان لم تتدخل مباشرة لتعليق هذه السلطة عن طريق الانقلاب العسكري. واذا لم يكن لأحد ان يماري في ان تركيا خاضعة ككل دولة ديموقراطية لحكم القانون، فان القانون التركي نفسه يدلل احياناً على روح غير ديموقراطية، ومن قبيل ذلك القانون الذي كان يحظر تدريس اللغة الكردية او حتى التكلّم بها، وقانون الاحزاب الذي حظر - ولا يزال - نشاط الاحزاب الشيوعية والماركسية، والاحزاب الكردية، ومؤخراً حزب الرفاه الاسلامي. والواقع ان العقبة الكبرى التي لا تزال تحول دون تطوير الخصوبة الاوروبية لتركيا الى زواج دائم هو عجزها حتى الآن عن ايجاد حل ديموقراطي للمسألة الكردية. فتركيا، التي ترعرعت على التقاليد القومية الاوروبية للقرن التاسع عشر، تعتقد ان المسألة الكردية شأن داخلي من شؤونها. وهذا صحيح ما دامت تركيا هي تركيا بسيادتها القومية غير القابلة للمساس من الخارج. ولكن تركيا هي ايضاً طالبة انضمام الى الاتحاد الاوروبي، ومن منظور هذا الانضمام فان منطق الشأن القومي الداخلي لا يعود ساري المفعول تمام السريان، لا سيما اذا كان الامر يتعلق بمسألة هي بحجم المسألة الكردية التي يرتهن بها مصير نحو عشرين مليون مواطن تركي من اصل كردي، فضلاً عن خمسة عشر مليوناً آخرين موزعين ما بين ايران والعراق وسورية والمهجر الاوروبي. ولكن هل هذه القضايا "النظرية"، ذات العلاقة بإشكاليات القومية والعلمانية والديموقراطية، هي السبب الوحيد في تلكؤ المجموعة الاوروبية في قبول طلب تركيا بالانضمام اليها؟ الواقع ان العين الثاقبة لأحمد أنسل - وهو الاستاذ التركي الاصل في جامعة باريس الاولى/ السوربون - تلاحظ ايضاً وجود اسباب "عملية": فتركيا تنتمي ديناً وثقافة وتقاليد، وبجزء كبير من جغرافيتها، الى جناح حضاري آخر هو غير الجناح الاوروبي. وصورة "التركي" في المخيلة الاوروبية ما زالت صورة مرعبة منذ ان دق العثمانيون ابواب فيينا، ثم ان تركيا امة ضخمة ديموغرافياً 64 مليون نسمة وشابة. واوروبا، التي استقبلت حتى الآن اربعة ملايين مهاجر تركي، لا تستطيع ان تفتح ابوابها بلا قيد او شرط، كما تقتضي معاهدة الاتحاد الاوروبي، امام موجات جديدة وكثيفة من المهاجرين الاتراك. وفضلاً عن الرواسب التاريخية اللاشعورية، والحفزات العنصرية الشعورية، فإن البلدان الاوروبية المعنية بالهجرة التركية، لا سيما المانيا، تبدي تخوفاً من ان تكون عاجزة عن "الهضم"، اما لقصور في "معدتها الحضارية"، واما - وهذا أسوأ - اعتقاداً منها بأن العناصر المهاجرة بكثافة غير قابلة للهضم. وفي الاحوال جمعياً، فان تلكؤ الاسرة الاوروبية في قبول تركيا في عضويتها يجرّ الماء الى طاحون الاصوليين والقوميين المتطرفين الاتراك الذين ينكرون اصلاً ان لتركيا هوية اوروبية.