دقت أعمال العنف التي وقعت في تركيا أخيراً ناقوس الخطر حول إمكان تدهور الوضع في البلد المعروف بتعدد القوميات والأديان والتوجهات السياسية فيه. وزادت الشكوك حول عودة الصراع التركي الداخلي، بين جهة لا تزال تحِن إلى عصور الخلافة العثمانية، وأخرى ترفع راية العلمانية الأتاتوركية، وثالثة تنادي بحقوق الأقليات وتحارب من أجل قوميتها. وتصدرت قضية الأكراد المشهد التركي مجدداً، إثر انهيار الهدنة المعلنة بين «حزب العمال الكردستاني» والحكومة في العام 2013، والتي ظلت سارية المفعول حتى العام الحالي. لكن تظاهرات على خلفية موقف الحكومة من الصراع بين الأكراد وتنظيم «الدولة الاسلامية» (داعش) في سورية، أسفرت عن مقتل 31 شخصاً على الأقل، أججت الوضع مجدداً، واتهم الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حزب «العمال الكردستاني» بالوقوف خلفها لتأجيج الوضع. وانطلقت الشرارة بين الأكراد والدولة التركية مع اقتراب «داعش» من بلدة عين العرب (كوباني) الحدودية، إذ شعرت الحكومة بالخطر من تزايد قوة الأكراد السوريين المقيمين على حدودها، خوفاً من سيطرتهم على البلدة، ما سيقوي اكراد الداخل وقد يدفعهم إلى العنف والمطالبة بالاستقلال، خصوصا بعدما أصبح أكراد العراق اكثر قوة منذ سقوط الرئيس العراقي صدام حسين. وتأجج الموقف داخلياً، بعدما منعت الحكومة التركية الاكراد الاتراك من التوجه الى كوباني للمساعدة في منع سيطرة «داعش» عليها، وزادت حدته بعد وقوع تفجيرين انتحاريين في سروج وانقرة استهدفا تجمعات تركية. وتبادل الرئيس التركي والاكراد الاتهامات في شأن التفجيرين، فبينما اتهم الأكراد الحكومة التركية بتسهيل الهجومين في محاولة لتحجيم الدور السياسي الكردي الذي اصبح اكثر قوة، خصوصاً بعد حصول الأكراد على 80 مقعداً في البرلمان، اتهم الرئيس التركي «مسلحين أكراد وضباطاً في المخابرات السورية بالتعاون مع داعش بتنفيذ هجوم أنقرة». وعلى رغم أن الأكراد هم القوة المؤثرة سياسياً داخل البلاد، لكن توجد أيضاً فئات عدة تؤثر السياسة التركية داخلياً وخارجياً، أبرزها: الاقليات رسم مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك من خلال اتفاق «لوزان» وحدة عرقية للأتراك، تجاهل خلالها العرقيات المختلفة داخل البلاد. ورفع أتاتورك شعار «هنيئاً لمن يقول: أنا تركي»، ليحرم به غير الأتراك من التعبير عن هويتهم أو استخدام لغاتهم القومية. ويصعب معرفة تعداد كل أقلية في تركيا، إذ ترفض الحكومة وضع الأصل واللغة والدين في الأوراق الرسمية، باعتبار أنه "يخالف مبدأ الدولة القومي والعلماني"، لكن بعض الدراسات حددت الأقليات كالتالي: أولا: اقليات عرقية 1- الاكراد تُعتبر الكردية ثاني أكبر قومية في تركيا بعد الأتراك، ويشكلون من 17 إلى 20 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو 75 مليون شخص. وبدأ الاكراد في الشعور بقوميتهم في بداية القرن العشرين مع تنامي القومية في أوروبا. وقرروا خلال الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) التعاون مع الحلفاء (بريطانيا العظمى، ارلندا، فرنسا، والإمبراطورية الروسية) بعدما وعدوهم بإنشاء دولة كردستان. لكن اتفاق «لوزان» الذي وزع أراضي دولة كردستان المفترضة بين العراق وإيران وتركيا وسورية قضى على الحلم آنذاك. وأنكرت السياسة الحاكمة آنذاك الوجود الكردي تماماً، ومنعوا تدريس اللغات الكردية، فيما حورب بشراسة كل من نادى بالقومية الكردية. ويعتبر «حزب العمال الكردستاني» الذي أُنشئ في العام 1978 بقيادة عبد الله اوجلان من أكثر الأحزاب التي تعرضت للقمع. وحمل الحزب السلاح ضد الحكومة في العام 1984، وأسفر الصراع بين الطرفين عن مقتل 40 ألف شخص، وتهجير مئات الآلاف، لكن في العام 2013 نجحت مفاوضات سرية في التوصل الى اتفاق بين الطرفين. وعلى رغم ما اعطاه حزب «العدالة والتنمية»، الذي حكم تركيا منذ العام 2002، للأكرد من حقوق، مثل حق تعلم اللغة الكردية في المدارس الخاصة والسماح بإنشاء وسائل اعلام كردية، لكن حملات اعتقال في حق عدد من الناشطين الاكراد استمرت، بالاضافة الى تدمير بعض القرى الكردية. واعتبر البعض ان ما قام به الحزب من تحسين الحقوق الكردية، ما هو إلا محاولة لتلميع الحكومة التركية أمام الاتحاد الاوروبي الذي طالما نادى بإعطاء الحرية للأقليات في تركيا، حتى يناقش مسألة انضمام أنقرة إلى منطقة اليورو. ويثير ارتفاع معدلات النمو الكردي في تركيا مخاوف الحكومة الحالية التي تتوقع ان يصبح الاكراد هم الغالبية في العام 2038. 2- العرب: انتقل العرب إلى تركيا خلال القرن الماضي، بسبب الحروب التي شهدتها المنطقة، ولا تزال اعدادهم في ازدياد بسبب التوتر في البلاد العربية المجاورة، ويشكلون حالياً القومية الثالثة في البلاد، ويقدر عددهم ببضعة ملايين. 3- القوقاز: ويقدر عددهم بثلاثة ملايين شخص غالبيتهم قدموا إلى تركيا من روسيا في منتصف القرن التاسع عشر، ويعتنقون الديانة الاسلامية. 4- الغجر: تشير إحصاءات قديمة إلى أن عددهم وصل في السابق إلى مليوني شخص، ويعتقد انه بلغ نحو خمسة ملايين في الوقت الراهن. 5- شعب اللاز: ترجع أصولهم إلى سكان سواحل البحر الأسود وجورجيا، ويقدر عددهم حالياً بين 750 و1.5 مليون شخص. وكانوا يتبعون الديانة المسيحية الارثودكسية، لكنهم اعتنقوا الاسلام خلال القرن الخامس عشر. 5- الارمن: كانوا مليوني شخص خلال فترة الخلافة العثمانية، لكن عددهم يقدر ب60 ألف شخص حالياً، ويتبع غالبيتهم المذهب الارثودوكسي. 6- أقليات وطوائف دينية أخرى: توجد في تركيا أقليات اخرى عدة أصغر من الاقليات المذكورة سلفاً مثل البوسنيين والألبان. ثانيا: اقليات دينية هي أكبرالطوائف الدينية بعد المسلمين السنة، وتتشكل من مسلمين عرب وأكراد. وبينما يصر العلويون على أنهم نحو 20 مليون شخص، تنفي الحكومة ذلك، وتؤكد أنهم لا يزيدون عن ستة ملايين شخص. وتؤيد الطائفة العلوية العلمانيين، وبالتحديد حزب «الشعب الجهوري». اهم الاحزاب التركية «حزب العدالة والتنمية» : أُنشا في العام 2001 على أساس توجه إسلامي، ويُعرف الحزب عن نفسه بأنه يتبى «الهوية السياسية الديموقراطية المحافظة»، وحكم الحزب تركيا منذ العام 2002 وحتى الوقت الراهن. لكن يواجه الحزب اتهامات من قبل معارضيه بممارسة «الديكتاتورية» من خلال محاولة السيطرة على الجيش، والموافقة على تحويل البلاد من النظام البرلماني الى الرئاسي، لزيادة نفوذ رئيس البلاد رجب طيب اردوغان الذي كان رئيسا للوزراء وللحزب ذاته، فيما يرى البعض ان الحزب يحاول تدريجياً التقليل من علمانية الدولة ويسعى إلى أسلمتها. «حزب الشعب الجمهوري»: تأسس في العام 1923 على يد مصطفى كمال اتاتورك، وهو يحمل الفكر اليساري العلماني والقومي، ويعارض بشدة أي حقوق للأقليات. كان قوياً في بداية تأسيس الدولة الحديثة، لكن أطاحت المشاكل الداخلية بقوته. وفي العام 1999 اختفى من البرلمان للمرة الأولى منذ تأسيسه، لكن عادت له قوته تدريجياً حتى حصل في العام 2015 على 25.13 في المئة من الأصوات، وحصل على 132 مقعداً في البرلمان. «حزب الشعوب الديموقراطي»: يعتبره البعض الجناح السياسي ل«حزب العمال الكردستاني». تأسس الحزب في العام 1994، وهو الحزب الوحيد المسموح له بالتحدث عن حقوق الأكراد، وازدادت شعبيته تدريجياً حتى حصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على 12.96 في المئة أي 80 مقعداً، الأمر الذي شكل صدمة للحزب الحاكم. ومع تعدد العرقيات داخل الدولة التركية، وتوتر الأوضاع في الحدود المتاخمة لها، إضافةإلى ازدياد الهجرة إليها من مناطق الصراع في الشرق الأوسط، أصبح الحفاظ على صلابة الدولة ووحدتها أمراً يتطلب جهداً كبيراً على المستوى الداخلي والخارجي.