عديدة هي القرارات الدولية التي تتعرض للجدل والتحليل وربما للرفض أحياناً والنقد أحياناً أخرى، وهذا أمر طبيعي ومقبول لأن معظم القرارات الدولية تأتي نتيجة نزاعات اقليمية وخلافات تصاحبها ظروف استثنائية معقدة تتعلق بأكثر من طرف. ولكن قرارات مجلس الأمن منذ كارثة الغزو العراقي للكويت وحرب التحرير تظل الأكثر إثارة للجدل، وذلك لأسباب عدة، لعل أبرزها أن هذه القرارات ولدت في مناخ دولي جديد، وشكلت فعلاً حازماً لهيئة الأممالمتحدة يتمثل بالتصدي للعدوان وترسيخ مبادئ ومفاهيم مثل السلام والاستقلال والسيادة والاحترام للأعراف والقوانين الدولية والاقليمية أيضاً. ولعل من الأسباب أيضاً طبيعة الغزو العراقي لدولة الكويت الجارة العربية المسلمة، بما انطوى عليه هذا العدوان من انتهاك صارخ للمواثيق والاتفاقات الدولية والاقليمية، إضافة إلى كونه تعدياً على التاريخ وتحدياً أيضاً للمجتمع الدولي. لا شك ان بين القرارات الدولية المثيرة للجدل في الآونة الأخيرة يأتي قرار 1284 بخصوص تعليق الحظر الدولي على العراق مقابل السماح للمفتشين الدوليين باستئناف عملهم في بغداد. فمنذ صدور هذا القرار في 17 كانون الأول ديسمبر من العام المنصرم، والجدل والنقد مستمران في اتجاهات مختلفة، سواء داخل أروقة الأممالمتحدة أو خارجها. ولا غرابة في أن يثير هذا القرار جدلاً ويستقطب اهتماماً واسعاً، فهكذا جرت العادة في الظروف التي تتباين فيها وجهات النظر والمواقف. ولكن الغرابة تكمن اليوم في تزايد النقد للمؤسسة الدولية من خلال نقد القرار 1284 والقرارات المتعلقة بالحظر الدولي على العراق، وفي المطالبة بإعادة النظر في هذه القرارات بحجة أن للحظر الدولي أثراً سلبياً على الوضع المعيشي العام في العراق وعلى شعب العراق وأطفاله من دون أن يبرز في الجهة المقابلة تحرك إعلامي مكثف وبالمستوى نفسه في حملة إعلامية مضادة لتوضيح حقيقة الأمور وتفاصيل الوضع داخل العراق، فيما يستمر المسؤولون الدوليون السابقون في لجنة "اونسكوم" ومنظمة "يونيسيف" والمنسقون الدوليون لأعمال الاغاثة في العراق في حملاتهم مع أطراف وجهات أخرى لتعبئة الرأي العام ضد القرارات الدولية والمطالبة برفع الحظر عن العراق، بذريعة أن الشعب العراقي يحتضر اليوم أكثر من أي وقت نتيجة هذه القرارات الدولية! وأمام هذا الوضع وما يدور من عمل لطمس حقيقة الوضع في العراق، وما إذا كان شعب العراق يعاني فعلاً بسبب الحظر الدولي أم بفعل نظام صدام، وهل ان المعاناة في العراق بدأت فقط منذ حرب تحرير الكويت أم أنها تعود إلى بداية حكم صدام... أمام هذه الحال والتغييب المتعمد من جانب بعض الأطراف لحقيقة الوضع وملابساته والأسباب الحقيقية للمعاناة في العراق، تتجلى الحاجة الملحة إلى أن تنشط المؤسسة الدولية في تحرك إعلامي منظم، لسبب مهم ورئيسي هو أنها الجهة التي يفترض ان تتوفر لديها المعلومات والبيانات كافة عن حقيقة الوضع في العراق، وهي الجهة الوحيدة القادرة أيضاً على اصدار الحكم في مدى مسؤولية نظام صدام عما يجري في عراق اليوم وعراق الأمس البعيد. والأهم من هذا وذاك، ان ردود الأممالمتحدة على النقد الموجه إليها وما تحمله الردود من توضيح وبيانات تضفي بالتأكيد الدعم والمصداقية على المعلومات الصادرة عنها أكبر مما لو اتى التوضيح والرد من واشنطن أو لندن. فظلال الشكوك والجدل تظل قائمة وواردة على رغم ان الدولتين طرفان رئيسيان في القرارات الدولية وعلى معرفة تامة بما يجري في العراق. وأسباب التشكيك معروفة وليست محلاً للنقاش. هناك كم هائل من المعلومات والحقائق عن الوضع في العراق بدءاً بموقف النظام العراقي في العام 1991، حين رفض برنامج "النفط مقابل الغذاء"، وعاد فقبل البرنامج المقترح في كانون الأول ديسمبر 1996، وبلوغ ايرادات العراق من النفط بعد ثلاث سنوات من قبوله البرنامج إلى المستويات نفسها التي كانت عليها قبل العام 1990، وانتهاء برصيد العراق المتوقع لهذا العام وفقاً لبرنامج "النفط مقابل الغذاء" بحوالى 16 بليون دولار، وهو يزيد عما كان لدى العراق قبل غزو الكويت. وطبقاً لبرنامج "النفط مقابل الغذاء"، فإن دخل العراق من النفط خلال الستة شهور يصل إلى 8 بلايين دولار، فيما يبلغ حجم مشتريات الحكومة العراقية للمواد الغذائية والطبية ومواد الاغاثة الإنسانية في حدود 8.1 بليون دولار! ومن المعروف أيضاً ان العراق لم يستوفِ الحد الأدنى من المواد البروتينية التي حددت الأممالمتحدة توفيرها للعراقيين، بل أن السجلات تشير إلى ان العراق يصرّ على طلب نسبة ضئيلة من المواد الغذائية المطلوبة للنساء الحوامل وعدم التزام برامج الأغذية التي أعدتها الأممالمتحدة. وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي اختلقها النظام العراقي بنفسه لشعب العراق، يواصل النظام تهريب المواد الغذائية التي تأتيه طبقاً لبرنامج "النفط مقابل الغذاء" من أجل الحصول على موارد مالية تدعم أنشطته، فيما تم الانتهاء من بناء 48 قصراً فخماً لصدام مطعمة بالصنابير الذهبية والبحيرات الصناعية، كما شيد لنفسه منتجعاً بملاعبه ومستشفياته وثكناته المستقلة بتكاليف بلغت مئات الملايين من الدولارات! تلك معلومات من المؤكد أنها جزء بسيط عن الواقع الذي يعيشه العراق، وهي تدلل إلى تعنت النظام وإصراره على الاستمرار في اللامبالاة واللامسؤولية تجاه شعب العراق وأطفاله، وهي معلومات وبراهين تضاف بالتأكيد إلى المعلومات الموثقة بشأن رفض النظام العراقي لأسباب وحجج واهية للمساعدات الإنسانية التي تقدمت بها جهات ودول عدة بما في ذلك الكويت، الضحية. المعلومات والبيانات حول حقيقة الوضع في العراق لا شك في أنها عديدة وهائلة، ومنها جزء كبير موثق وغير قابل للتأويل، الأمر الذي يجعل التحرك الإعلامي مبرراً وسهلاً أيضاً. * كاتب كويتي