"الفوارس" مسلسل عرض على شاشة القناة الأولى السورية ضمن إطار الموسم الدرامي الرمضاني. وهو استمرار لنهج هاني السعدي الذي كرسه منذ سنوات في أعمال عدة تحت اسم "الفانتازيا التاريخية" كمصطلح أصبحت له دلالة واضحة باستخدامه المتكرر في الدوريات والمحطات التلفزيونية. وهذا النمط من الأعمال يعتمد على التاريخ العام للمنطقة العربية من دون اللجوء الى الوثيقة، خصوصاً مرحلة ما قبل الإسلام التي تشكل أرضية تدور عليها الأحداث واستخدام مفردات تلك البيئة في شكل كبير أسماء القبائل، طريقة السكن والحياة والتنقل، أسماء الأمم الأخرى المتصارعة مع العرب، أسماء الأشخاص والأمكنة، الألبسة والزي... الخ. هذه الأرضية التاريخية لصنع الأعمال الدرامية تجنب الكاتب الصدام مع الرقابات المتعددة في المحطات أولاً، ووعورة البحث والغوص التاريخيين ثانياً، ودغدغة عواطف الناس من خلال استحضار تاريخها وبطولاتها ثالثاً، وتغليف الفكرة المعاصرة والأحداث الراهنة بجملة إسقاطات عبر لعبة الرمز لبث وجهة نظر سياسية مما يدور على الساحة العربية في الحقبة الأخيرة رابعاً. التاريخ والقشور واستيحاء التاريخ مسألة مبررة أدبياً وفنياً كأحد الأساليب المتبعة لإيصال فكرة معينة ومعظم كتّاب الأدب لجأوا الى هذه الحيلة الفنية خصوصاً في ظل اشتداد الرقابة على الفكر وتقييد الحريات. لكن الاستخدام الأدبي للتاريخ يكون من خلال واقعة معينة أو حادث تاريخي موثق، ثم يأتي البناء الأدبي عليها وإلباسها فكرة الكاتب المنسوجة في خياله. أما الكاتب هاني السعدي فيلجأ دائماً في أعماله التلفزيونية الى استخدام التاريخ قشوراً فقط ما يضفي ضبابية على الحدث، وصياغة خياله للبيئة والأحداث والشخصيات وإعطاء هذه التركيبة صيغة هلامية يمنحانها عنصر التشويق وحظاً في المتابعة، خصوصاً أن الشكل الخارجي للشخصيات ولغتها مرتبط بما استقر في وجدان الناس من التراكم التراثي عبر مئات السنين. وهنا تتجلى المشكلة. فتكريس هذا النمط في أذهان الناس عبر التلفزيون، كوسيلة إعلام جماهيرية، ومع المستوى الثقافي المتدني لعامة الناس، يجعل من هذه الأعمال تاريخية تتحدث عن ماضي العرب، ما يزيد من التشويه القائم في أذهانهم، فتؤخذ أعمال الفنتازيا التاريخية على أنها الصورة الحقيقية لمسيرة الشعوب العربية، فلا نستغرب مثلاً أن يعتقد الناس أن "صقراً" صحابي جليل، وخالد العربي ربما أحد أمراء المؤمنين. وهذا الأمر هو إحدى النتائج السيئة والمشوهة للتاريخ العربي في هذه الأعمال الفانتازية. والنتيجة الثانية تكريس نموذج "السوبرمان" العربي الذي لا يهزم، الصامد أبداً، فيما الأطراف الآخرون الأعداء جبناء يخافون العربي. هذا الفهم يولّد شخصيات ذهنية يفرضها خيال الكاتب، شخصيات مقتلعة من واقعها هي أقرب الى الرجل الآلي الخالي من المشاعر والعواطف، والذي يتصرف بتخطيطية مدهشة صقر، خالد، سرمد، كايوس...الخ. وهذا الفهم يجسد تماماً مقولة الرهان القومي في الأدب والفن، أي تبخيس الأقوام الأخرى وإضفاء صفات خارقة على قوم الكاتب، ما يعني نشوء صورة مزيفة عن الواقع وتعزيز الوهم عن الذات في أذهان الناس وتقديم نموذج غير واقعي يستعاض به عن واقع رديء وقوم مهزومين. والمعروف أن أي شخص يعشق صورته البديلة حين الضعف، فهي الصورة المشتهاة، المحرضة لسيل الأماني، إنما على أرض رخوة، وغير المبنية على أسس محققة للحلم. وهذا هو الوتر الذي يضرب عليه السعدي في فنتازياته، وعلى رغم أن التنوع في الأشكال الدرامية وشكل تناول المواضيع مبرر فنياً، إلا أن هذا النوع يكرس الكسل الذهني والتمسك بعادات وتقاليد ماضوية وتقوية الفكرة القائلة: "الماضي خير من الحاضر ويجب العودة إليه والتمسك بنمطه الفكري" ولا يدري المرء ما الغاية الفكرية والفنية من إصرار هاني السعدي وبعض المخرجين لدينا على هذا النوع الدرامي. مسلسل "الفوارس" على صعيد النص لم يأت بجديد. فالخطوط الدرامية نفسها، والدلالة نفسها، أي الرومان والعرب واليهود، ثلاثة أقوام تتصارع في أعمال السعدي، وفي النهاية تكون الغلبة للعرب. ولكن في "الفوارس" زادت جرعة الإسقاطات الراهنة الى درجة السذاجة، حيث الرومان يمثلون أميركا وقبيلة ابن آوى إسرائيل، وصقر وقبائله العرب. تم في "الفوارس" قسر المسار الدرامي للأحداث لتناسب الفكرة التي أرادها الكاتب والمخرج، والتي اتضحت في الحلقات الأخيرة في سعي العرب الى عقد السلام مع الرومان وسرمد، بعد امتلاكهم القوة والوحدة اللتين يستطيعون بها إما فرض السلام وإما تحقيق النصر. الإنجاز الكبير هذا غير مبني على مقدمات درامية صحيحة. فمن التهلهل والتشرذم الى الوحدة وبناء الجيش القوي في شكل مفاجئ. ومن انعدام القيادة وأسر القادة الى عودتهم الى مواقعهم وتحريض القبائل على القتال والتوحد من دون أن يثنيهم التعذيب وتدمير قبائلهم عن عزمهم وعن هدفهم الكبير. فيكفي قائد ذكي كصقر ليحقق المعجزات وينقل العرب الى عصر ذهبي!! أما الرومان فعبارة عن قوم مهووسين بالنساء والخمر والقصف والقتل وسفك الدماء والتآمر بعضهم على بعض. فحضارة كحضارة الرومان التي لا تزال شواهدها أمام الأعين وما قدمته الى الإنسانية من حضارة وقوانين وطرز معمارية وفكر، تُمسخ بالطريقة التي رأيناها في "الفوارس"، وأي حاكم هذا الذي تعصف به وتغير مجرى حياته امرأة عربية تجسد الشجاعة والعفة والجمال؟ هذه الصفات ألا توجد في الأقوام الأخرى حتى أن كايوس استخدم سلاح العفة عند العربيات لتدبير مكيدة للحاكم ليعيده عن الحكم ويحل محله؟ ثم هذا الانقلاب السياسي والإنساني المفاجئ للحاكم كايوس في اتجاه العرب وسرمد، والذي ليس له تفسير سوى إسقاط سياسي راهن ساذج!! أما قبيلة ابن آوى المعادية للعرب والمستولية على أرضهم، فهي عبارة عن عصابات وقتلة وجبناء أيضاً. فيزعزعهم هجوم فرسان النار الأشاوس الذين ينشرون الرعب والخوف في نفوس القبائل المعادية بهجماتهم الصاعقة على جنود الرومان وجنود سرمد من دون أن يخسروا أي مقاتل منهم. وخط سرمد هنا شبيه تماماً بخط شقيف في الكواسر. وللطرافة أكثر نذكر أن من قام بالدور هو الممثل نفسه والاختلاف الوحيد في الماكياج، أن صقر هو نفسه خالد العربي في "الكواسر" أيضاً... الخ. كأن بالكاتب السعدي لم يكتب سوى نص واحد يعيد كتابته كل عام لتقديمه وجبة مع كل رمضان. لذلك نجد الأحداث نفسها كما نجد مواصفات الشخصيات وشكل الصراع والإسقاطات نفسها. ولكن في "الفوارس" كانت وجبة العنف والدم كبيرة جداً الى درجة السادية في التعذيب والقتل والوصول إلى صورة مقززة تشيح الوجه من هولها. أسلوب أنزور الملاحظ هنا أن المخرج محمد عزيزية الذي كان افتتح في "البركان" سلسلة الأعمال التاريخية وكان إخراجه أصيلاً هناك، عاد بعد سنوات ليخرج عملاً بأسلوب نجدت أنزور ولكن بنسخة مشوهة. نرى ذلك واضحاً عبر اختيار أماكن التصوير أو اختيار الممثلين تقريباً للأدوار نفسها وتحريك الجموع. لكن النتيجة هنا كانت مشهدية باهتة، حيث الدخان وحركة ممثلين عشوائية مع تكرار دائم للخلفية المتمثلة ببضعة مقاتلين أو أشخاص يعبرون في الخلف جيئة وذهاباً. يضاف الى ذلك صبغ الشعور بلون أحمر عند الرومان وجعل السيوف المتعرجة عند قبيلة ابن آوى، والتركيز على مشاهد التعذيب والقتل وتكرارها الكبير، خصوصاً مشاهد سجن القادة العرب في المحمية ومشاهد صقر في الحفرة وطريقة دخول الجنود وانتشارهم في المحمية وسجن القادة. فهذه المشاهد أخذت حيزاً كبيراً من المسلسل بهدف التطويل ليس إلا. وحبذا لو لجأ المخرج الى الإيحاء في بعض المشاهد بدلاً من طق الأعناق وقلع الأعين وذبح المقاتلين كالخراف، ثم إن توظيف الكومبارس لم يكن ناجحاً، خصوصاً حركة النساء والرقص في قاعات الرومان والحاكم، وحركة جموع المقاتلين الذين بدوا، كأنهم بلا مخرج يوجههم.