"الفانتازيا التاريخية" مصطلح ساد في عقد التسعينات من هذا القرن الذي يوشك على توديعنا، وانتشر بكثرة في الاعلام الفني والأوساط الفنية، وبدأت تتوضح ملامحه من خلال اعمال تلفزيونية متتابعة، كان اولها مسلسل "غضب الصحراء" للكاتب هاني السعدي والمخرج هيثم حقي، يومها كان من المفترض ان يتم انتاج عمل "بدوي" ولكن ما حدث انه خرج من بين ايديهم مسلسل شبه تاريخي في بيئة بدوية وناطق بالعربية الفصحى فكان عملاً هجيناً. ومع مسلسل "البركان" لهاني السعدي ايضاً ومحمد عزيزية، تم توصيف هكذا اعمال "بالفانتازيا التاريخية" والتي وصلت مجدها على يد المخرج نجدت انزور في "الجوارح" و"الكواسر" و"الموت القادم الى الشرق"…الخ. ما عنته هذه التسمية من الأعمال هو نوع من الدراما التلفزيونية لا ينتمي الى مكان او زمان محددين. وان كان يحمل نكهة البيئة العربية عموماً ويحاكي المجتمعات العربية ما قبل الاسلام من خلال اسماء القبائل والأزياء واللهجة وبعض الاحداث واحوال المجتمعات المعادية للعرب قديماً. وهذا ما يوقع المصطلح في اشكالية عدم التوصيف الدقيق لهذا النمط الدرامي. فالفانتازيا تتضمن في ما تتضمنه الخوارق التي تضفي على اي عمل فني او ادبي صبغة غير واقعية مبنية على ابداع المخيلة بهدف الوصول الى تنبوء ما او الى مغزى محدد، عبر شكل فني ممتع يعتمد الخدع والتقنيات المستخدمة في السينما او التلفزيون والتي كثيراً ما نراها في الاعمال الكرتونية والفوازير وأفلام الخيال العلمي واعمال الاطفال، وأفلام العنف. لكن التكريس الاعلامي للمصطلح والتداول اليومي له في الدوريات اعطاه مشروعية واقعية وفنية، وبالتالي اصبحت مناقشة المصطلح امراً ليس وارداً، كون الركون اليه يعطيه البيئة المناسبة لتجذره في حقل المفاهيم الفنية. ان الاسباب التي دفعت الدراميين للجوء الى هذا النمط الدرامي - كما نعتقد - اولها: انفلات الكاتب من قيود التاريخ او الوثائق التي تضبطه حين الشطط وتعيده اليها ان كانت هناك مبالغة او تزوير او اختلاف لاحداث او شخصيات ما…الخ، لم يكن لها وجود ما يعني الارتباط المتين بالمرجعية التاريخية لأي عمل تاريخي يعتمد الوثيقة، وهذا ما لا يريده بعض الكتّاب نظراً لوعورة الخوض التاريخي والخوف من الاصطدام بسلطات التراث المتعددة، وثانيها: المحرمات الموضوعة في الاعمال المعاصرة والتي تحيلها في كثير من الاحيان الى اعمال "مسحوب خيرها". هذه المحرمات استوطنت مع الزمن في دواخل الكتاب والمخرجين كروادع و"أجهزة أمن" تمنعهم من تجاوز الممنوع والدخول في حقول الالغام المزروعة في كل مكان. ما يعني ان هذا الاسلوب استُخدم كمبرر للهروب من الاعمال المعارضة الى الاعمال "الهلامية" التي لا تغضب احداً كما انها مضمونة التسويق والعرض وتتسابق المحطات عليها. بينما يشكل الغموض في متاهات الحاضر العربي صعوبة شديدة لا يجدها الدراميون في "الفانتازيا"، حيث يحاكم العمل المعاصر مباشرة من قبل الناس كونه يمسهم ويتعرض لمشاكلهم مع ما يقف امام العمل المعاصر من حواجز رقابية وسلطوية. من هنا فان ضمانات نجاح وتسويق العمل المعاصر محفوفة بالمخاطر وغير مضمونة أبداً، وهذا ما يصفي العاملين في الدراما التلفزيونية من البحث عن صيغ فنية وخيارات ابداعية تمس الحاضر وتفتح ثغرات لها في دشم الرقابة العربية المتنوعة، لتكريس فن نظيف يستطيع بتراكمه ان يشكل فناً درامياً موازياً للواقع ومستشرفاً لآفاقه. وهنا نتساءل: لماذا حققت "اعمال الفانتازيا" النجاح الذي يتكئ عليه صنّاعها في الرد على منتقديها؟! وفي الجواب يأتي السبب الثالث لانتشارها: ان هذه الاعمال تدغدغ المشاعر والعواطف العربية من خلال اللعب على الارث المتراكم في الأذهان والمجد الغابر لقوم محاصرين بالهزائم والخيبات والانكسارات الحاضرة، لذلك يتابعون هذه الاعمال لرؤية نقيضهم الوهمي الذي لا يهزم ويسحق الاعداء ولا يموت ابداً وحتى في هزيمته يكون بطلاً وصنديداً، قيم البطولة هذه تم توظيفها درامياً في حكايات هذه الاعمال، معتمدة التشويق والغموض وتوقع الاحداث وفتح المجال لاسقاطات معاصرة لاطراف القصة ذات الحبكة الموفقة في كثير من الاحيان، والمبنية على صنعة درامية متقنة. اضف الى ذلك ان المحطات تتسابق للحجز على هذه الانتاجات لعرضها، فالمطلوب دراما مسلية جذابة تعتمد الابهار الشكلاني، دراما غير مشاكسة تؤثر السلامة على الخطر وترضي جميع الاطراف. المسلسلات هذه تحولت الى موضة في السنين الاخيرة والى حلبة صراع بين الكتّاب والمخرجين لا ينال شهادة الابداع الدرامي الا من دخلها وترك بصمته في سجلها "الخالد" وليس هذا فحسب انما وصل الامر "بالفانتازيا" الى ان تصبح جزءاً لا غنى عنه في الطقوس الرمضانية كل عام والذي كرسته المحطات كوجبة دسمة بعد الافطار الرمضاني. وهنا نصل الى تساؤل مفاده: وماذا بعد هذه التخمة الفانتازية التي استنفذت اغراضها ومهماتها ودخلت طور التكرار والتشابه والتقليد، حيث خفت تألق بداياتها، واصبح حتى الذين اعتبروها فتحاً في عالم الفن يملّون منها ومن حكاياتها المتناسلة من تحت إبط المسلسلات "البدوية"، محاولين الابتعاد عنها والبحث عن خيارات فنية اخرى تنقذهم من الاستنقاع والجمود؟ اما الناس وخاصة هذه السنة فقد اصابهم النفور منها كونها لم تعد تقدم جديداً والاختلاف الوحيد الذي تقدمه يكون في الاسماء، فلقد ملّ الجمهور قعقعة السيوف "الفانتازية" والقتل والعف وسيل الدماء في هذا "الكاوبوي العربي" بامتياز. ان ما يحتاجه المواطن العربي من الدراما التلفزيونية كما نعتقد هو انتاج اعمال تغوص في حاضره الشائك محاولة رسم آفاق جديدة لمستقبل افضل واكثر نضارة دون اعادة سرد الهموم اليومية التي يعيشها ويعرفها كل مواطن، دراما تعيد الثقة والأمل الى الانسان وتساهم ولو بقدر ضئيل في خلق مواطن فاعل، دراما تقدم فكرتها في سياق فن ممتع يرتقي بذوق الانسان وانسانيته.