النص الدرامي التلفزيوني، الذي تم التعارف عليه تحت اسم "القصة والسيناريو والحوار" هو نتاج ذهني إبداعي تنطبق عليه نظريات الأدب المختلفة، حتى وإن تحول هذا النص الى مجموعة صور متحركة تنقلها لنا أقنية التلفزيون بعد اجراءات فنية معقدة تستلزم الكثير من تكاليف الانتاج ومتطلباته. وفي تجربة الكاتب التلفزيوني هاني السعدي، نكتشف أن الكتابة الدرامية التلفزيونية تنبع من منشأ أدبي كان يرافق بداياته، حيث كتب الكثير من القصص القصيرة، وتأثر بالتراث العربي الأدبي والتاريخي، فانعكس ذلك في كل ما كتبه للتلفزيون. ويمكن قراءة كتابات هاني السعدي، التي شكلت تجربة "الفانتازيا التاريخية" جزءاً منها بهذا المنظور، حتى وان أثارت الكثير من النقاش، وردود الأفعال المتباينة... ودراسة نصوص هذه السلسلة ضرورية في مجال النقد التلفزيوني العربي، وخاصة بعد أن بدأت التجربة بالانحسار! لقد كتب هاني السعدي الأعمال الدرامية التالية: "غضب الصحراء" و"البركان" و"الجوارح" و"الكواسر" و"الموت القادم الى الشرق" و"الفوارس" وربما "البواسل"! وهذه النصوص، تفاعل معها الاخراج الفني عن طريق المخرجين هيثم حقي ومحمد عزيزية ونجدت أنزور، فغذّاها، وجعلها في دائرة النقد لسنوات عدة يمكن القول انها شغلت معظم سنوات العقد المنصرم. وقد اعتمد هاني السعدي على اللغة العربية الفصحى، وعلى احداث مبتكرة موحية تدور في زمن غير محدد... هائم أحياناً، يقترب من المعاصر في مضامينه ورموزه ويغوص في التاريخ في أشكاله واشكالياته. بل ان الشخصيات التي فعلت وانفعلت بهذه الأحداث كانت اشكالية أيضاً، وتراوحت بين مستوى الشخصيات التراجيدية، ومستوى البطل الشعبي أبو الركاب في "الموت القادم الى الشرق"، وصولاً الى مستوى الشخصية الأسطورية التي حفلت بها قصص الخيال الشعبي. والملاحظة التي أثارت الكثيرين كانت تلك التي تتعلق بغياب الشعر العربي عن هذه الأعمال، حيث حلت الحكاية محله، وغدت أكثر أناقة وجاذبية. قبائل ممزقة وإذا ما أراد القارئ لنصوص هاني السعدي، أو المشاهد لها بعد تجسيدها تلفزيونياً، ان يلخص مسيرة هذه الكتابات أو الأعمال، فإنه يكتشف أنها تحكي قصصاً مفترضة لقبائل عربية ممزقة تواجه ظروفاً مختلفة صعبة ونمطاً من الأعداء الشرسين، وتحاول الدفاع عن وجودها بشتى السبل، ولكن ثالوث الحلول كلها يكمن في: الاستعداد والارادة والوحدة! ففي مسلسل "البركان" نلاحق كفاح شخصية محورية، هي شخصية "ورد"، من أجل الخروج من حالة التجزئة والضعف قبيلة الجنادب الى حالة الوحدة والقوة قبيلة الصقور. وفي مسلسل "الجوارح" تتوالى صور هذه المعالجة على نحو أكثر حدة، ولكنها تدين منطق الاعتداء على الغير حتى من أجل فرض حالة الوحدة العراق والكويت!. وفي مسلسل "الكواسر" نلاحق وجهاً آخر للصراع في تخوم القبائل، وقد اكتسى ثوب النضج والاستفادة من الماضي وتجاربه. في حين يبدو مسلسل "الموت القادم الى الشرق" بمثابة ناقوس ينذر بالخطر من تغلغل النفوذ الخارجي الذي يرتدي ثوب التعايش. لكن المسلسل الأخير "الفوارس" يخرج عن تشعبات المسلسلات السابقة، ويعود الى جذور أحداث مسلسل "البركان"، ليتابعها وصولاً الى مستوى أشكال الصراع الراهن، ومن بينها: السلام!! وواقعياً، يمكن أن نلاحظ الخيط الأساسي الذي يجمع بين هذه المسلسلات، أو الكتابات، وهو هاجس الانسان العربي في الخلاص من مأزقه الحضاري والصراع مع أعدائه.. وهذا يعني أن الواقع سينبض في كل مشهد أو حدث ليشير الى نفسه، حتى ولو استنبط الكاتب تفاصيله من الجزيرة العربية أو الاندلس في صفحات التاريخ القديمة... الماضي والحاضر ورغم ان هاني السعدي يؤكد في الحوارات التي أجريت معه انه كاتب غير تخطيطي ولا يرسم رموزه وفقاً لموازيات معاصرة، فإن كتاباته اتسمت بامكانية اسقاط أحداثها على الواقع السياسي المعاش، ويعتبر ذلك في نظر البعض اغلاقاً للنص، وحصراً له بدلالة واحدة، بل ان المشاهد كاد يقع في حالة من قولبة الأشياء، وهو يتابع أحداث مسلسلات السعدي، فهناك عملية استخدام لايحاءات واضحة، يكتشفها المشاهد بسرعة ومنها: في مسلسل "البركان": التركيز على أسماء مثل "ورد" و"الغضنفر"... بل ان مشهداً كاملاً أمام حاكم الروم خصص للتأشير على دلالات هذه الأسماء. في مسلسل "الجوارح": هناك طاغية أسامة بن الوهاج دفعه جنون العظمة الى التفكير بالسيطرة على أراضي قبيلة أخرى، رافضاً كل المحاولات لثنيه عن ذلك، ومنها: حمامة السلام ووجود أهله في القبيلة الثانية ومحاولات الأب ان يثنيه عن عزمه في الغزو... وصولاً الى قول الأشعث: "هذا رجل يجب أن نخشاه كما نخشى الطاعون". ان تصورات الكثير من المشاهدين ربطت بين هذا المسلسل ومعطيات حرب الخليج الثانية، وأهمها: احتلال العراق للكويت! في مسلسل "الفوارس": طرح الكاتب مسألة السلام في خضم الصراع مع الخصم، مع معطيات تكاد تكون حرفية للخطاب السياسي السوري المتعلق بالحرب والسلام. في مسلسل "الفوارس" ايضاً: تبرز الصيغة التخطيطية بشكل واضح، فالحالة السردية دلت على مفصلين زمنيين موازيين في التاريخ العربي المعاصر، هما: 1- هزيمة حزيران 1967، التي هزت الانسان العربي، ثم حرب تشرين 1973. 2- ظهور المقاومة فرسان النار في المسلسل ثم توحد فرسان النار مع العمل العام للقبائل. إن السيرورة العامة لكتابات هاني السعدي في "الفانتازيا التاريخية" وضعت المشاهد أمام عناوين بارزة في التاريخ العربي وأبرزها: - حضارة العرب تترافق مع الوحدة والقوة. - قوة العرب وفعاليتهم مرهونة بقيام الوحدة أو التكاتف الفاعل. - العرب مستهدفون دوماً الى درجة الإبادة. - المكان العربي له رؤية جديدة غير الرؤية العادية المحصورة بالصحراء. - المستقبل العربي في سيرورة ناصعة ولكنها مشروطة بتحقيق الكثير من الخطوات. محاولة مباشرة وهذه العناوين، والتي يبدو استخدامها في العمل الدرامي، محاولة تعليمية مباشرة، هي عناوين لقضايا هامة يجب أن تعالجها الأعمال الفنية والدرامية، حتى وان اتهمت بالقولبة والصيغة التخطيطية والمباشرة رغم الصورة الخادعة التي تعيد الحدث الى زمن آخر. فصورة الواقع السياسي لا بد أن تنعكس فيأتي عمل إبداعي حتى على مستوى الدراما التلفزيونية. وسواء نجح الكاتب التلفزيوني هاني السعدي في نقل رسالته أم لم ينجح، فإنه تمكن من وضع مادة اشكالية أمام النقد التلفزيوني أو الدرامي. لكن الدعوة التي توجه إليه حالياً هي الالتفات الى أعمال واقعية تحمل الهموم العامة للانسان العربي بالطريقة نفسها التي حملتها أعماله الاجتماعية، وتحديداً عمله الجميل "دائرة النار". لقد شغلتنا الفانتازيا التاريخية طوال عقد من الزمن، أو ربما أكثر من عقد، وتمكنت من دفع مستويات الاخراج العربي الى مستويات جديدة، ولكن صار مخيفاً أن تجهض هذه التجربة من خلال تحولها الى أعمال فروسية دامية و"وحشية" في بعض صورها، ثم نقوم بتغطيتها بشعارات تمس قضايا الانسان العربي. إن الصورة، في هذه الحالة، لم تعد تعبر عن روحية النص. فروحية النص تكمن في قدرته على الاقناع والإيحاء حتى فنياً. وهاني السعدي، رغم كل هذا، اسم أعطى الدراما التلفزيونية العربية الكثير!