} يسخر المستشرق برنارد لويس في مقاله "قراءة جديدة للشرق الاوسط" من التيار العربي الذي يرى ان "السبب الجذري لكل الشرور والاخفاقات في العالم العربي هو فقدان الحرية، وان في الديموقراطية وحدها حلولاً لمشاكلهم". وبرأيه ان العقبة الكبرى هي في "المشاكل الاقتصادية الكبرى في المنطقة، كالفقر والتخلف الاجتماعي والتكنولوجي. ومن دون حل هذه المشاكل، يرجح ان يبقى سراباً كل احتمال لقيام ديموقراطية سياسية حقيقية". ولا يكتفي لويس بالقاعدة الاجتماعية ومستوى التطور الاقتصادي بل يلجأ الى تعديل فكرته بربط الديموقراطية بالجغرافيا والتكوين العرقي للشعوب. فالديموقراطية، برأيه، جغرافية النشوء ومركزية الارتقاء وهي خاصية اوروبية ولا صلة تاريخية لها بالشعوب غير الاوروبية، فهي مسألة صعبة "بل لعلها الاصعب في ادارتها والمحافظة عليها بين جميع انواع الانظمة المعروفة، اذ نشأت في منطقة محدودة بين شعوب اوروبا الغربية والشمالية الغربية، ثم نقلها هؤلاء معهم الى مستعمرات وراء البحار". وينطلق لويس من "اوروبية" الديموقراطية ليفسر اسباب انعدامها عند العرب ووجودها في اسرائيل. فالعرب مجموعة شعوب غير اوروبية بينما اسرائيل أسستها غالبية "اوروبية من السكان في اعقاب الادارة الاستعمارية البريطانية. وهي استمرت في شكل ملحوظ على رغم التغييرات الديموغرافية والسياسية، ولم تسقط على رغم ضغوط عقود من حال الطوارئ العسكرية". فالمستشرق يلمح الى ان اسرائيل ديموقراطية لأنها اوروبية في تكوينها السكاني بينما الدول العربية ليست كذلك وينقصها المجتمع المدني الحقيقي الذي يحافظ على تماسك الدولة وتفتقر الى "حس حقيقي بهوية وطنية مشتركة او ولاء مطلق للدولة - الأمة". وعلى اساس هذا الموقف الجغرافي - الشعوبي الذي يقارب العنصرية يستثني لويس تركيا من مقصلته. وبرأيه ان تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم الاسلامي "استمرت فيها الديموقراطية تعمل وتنمو على رغم الصعوبات والعقبات. ففي تركيا لم تأت الديموقراطية موروثة من حكام امبرياليين، ولا مفروضة من اعداء منتصرين. كانت اختياراً حراً من الاتراك انفسهم". نشر لويس مقاله في مجلة "فورن افيرز" التي تعبر عن اراء قوى نافذة في الخارجية الاميركية، واعادت مجلة "قراءات سياسية" نشر النص الكامل للمقال في عددها الثاني، السنة الثالثة، ربيع 1993. لم يكتب لويس مقاله للقارئ العربي بل قصد من افكاره الاسقاطية واللاتاريخية التوجه الى القارئ الاميركي وتحديداً اصحاب القرار في البيت الابيض. فالهدف ليس الديموقراطية بل تبرير التحالف الاسرائيلي - التركي انطلاقاً من "الايديولوجيا" وليس من الجغرافيا والتاريخ. فاستثناء تركيا، على رغم ان تكوينها السكاني والتاريخي والجغرافي ليس اوروبياً، جاء ليفسر، بل ليبرر، العناصر غير السياسية للتحالف. فالتحالف برأيه قام لاعتبارات ديموقراطية وليس استراتيجية. والمشكلة في هذا النوع من الكلام الذي يقارب العنصرية، من دون ان يتطابق معها، يلاقي الصدى والرواج في اصناف معينة من النخب العربية المتغربة، بل هناك من يحاكيه في اوساط اسلامية تقليدية اتصفت بالنضج والمرونة. فزعيم حزب الامة السوداني الصادق المهدي، مثلاً، يذهب في اتجاه المستشرق البريطاني - الاميركي في قراءة التكوين التاريخي لفكرة الديموقراطية والمتطلبات الاجتماعية لاعادة تأسيسها اذ يقول: "ينبغي الاعتراف بان المؤسسات السياسية الديموقراطية نشأت في الشمال يقصد اوروبا بعد مرحلة معينة من التقدم الاقتصادي الاجتماعي. لذلك فان بلاد الجنوب يقصد العالم الثالث المتطلعة للديموقراطية قد تجد نفسها مضطرة لوسائل مرحلية توفق بين الديموقراطية التعددية وحركة البناء الاجتماعي". ويلاحظ المهدي ان "النظم الديموقراطية الحديثة اضافت جانباً هاماً هو انها وضعت للمبادئ السياسية ضوابط مؤسسة لممارستها بدقة والحيلولة دون الانحراف الذي ينحدر اليه الطبع البشري". ويستنتج المهدي ان التعاليم الاسلامية السياسية خلت من تلك الضوابط. راجع كتابه "تحديات التسعينات". الصادر عن شركة النيل للصحافة والنشر، القاهرة 1990، صفحات 135 و197. والسؤال الى اي حد تتطابق نظريات لويس مع الواقع، وهل تأويلاته السياسية جاءت لتنتقد سلبيات الوضع العربي ام لتبرر التحالف الاستراتيجي الاسرائيلي - التركي باسم الديموقراطية؟ الرد على لويس في هذا المعنى ليس مهماً لكن الضرورة تفرض قراءة زمنية تحاول تفسير ذاك الاضطراب، بين الدولة والمجتمع الواقع حالياً في طول العالم العربي وعرضه. سابقاً حاول هيغل تفسير الاضطراب المذكور، فلسفياً، برد المسألة الى عجز "العقل الشرقي" وقصوره عن اكتشاف صيغة توفيقية بين الدين والدولة وهو امر نجحت اوروبا، برأي هيغل، في التوصل اليه. فهل الصراع بين الدين والدولة مسألة شرقية بينما التوافق بينهما مسألة غربية اوروبية؟ هذا ما يجب الرد عليه انطلاقاً من فهم معرفي لخصوصية العلاقات وزمنيتها في العالم العربي - الاسلامي المعاصر في فترة انتقالية شديدة التعقيد وربما تقرر مستقبلنا لفترة ليست قصيرة. لا شك في ان الحوادث الصعبة التي نمر بها تساعدنا على التقاط مفارقات نستطيع من خلالها ان نضبط المشترك السياسي بين الدولة والمجتمع كذلك المشترك التاريخي بين جماعات الدولة نفسها. فقراءة فكرة الديموقراطية في العالم العربي وتطور منظوماتها الايديولوجية ليست قراءة نظرية تقوم على ترجمة النصوص وتركيب فقرات دستورية بل هي اساساً قراءة تاريخية ترتبط بتطور فكر الجماعات السياسية ودور الدولة في قيادة التحول الاجتماعي والاقتصادي والدستوري للبلاد. يحيلنا الامر المذكور الى اعادة قراءة المشكلة انطلاقاً من محاولة الاجابة عن سؤالين: تحليل طبيعة الدولة الدول العربية ودورها في تلبية حاجات المجتمع ومدى استعدادها للقيام بوظائفها الاجتماعية والدستورية. والثاني تحليل طبيعة المجتمع وصولاً الى تفكيك ايديولوجية الجماعات السياسية وموقفها من الدولة الوطنية. يلاحظ من قراءة حوادث الثمانينات ومطلع التسعينات، التي احدثت صدمات سياسية في مصر والسودان والجزائر وتونس والسلطة الفلسطينية، ان الدولة اخذت تفقد وظيفتها التوحيدية وبدأت تنزلق الى طرف سياسي في مواجهة مكشوفة مع المجتمع أو على الأقل مع اكثرية من جماعاته. الانزلاق المذكور نحو المواجهة ليس جديداً بل نجد تفسيره في نشأة الدولة الوطنية المعاصرة والحديثة وتكوينها الاجتماعي التي قامت اساساً على فكرة الانقلاب النخبوي الحزبي، الايديولوجي، العسكري على الجماعات والاندفاع نحو تأسيس نزعة سلطوية لا تحترم كثيراً التكوين التاريخي للمجتمع خصوصاً تلك الموروثات التقليدية والهيئات الاهلية التي تشكلت في فترات زمنية متباعدة وتقوم بوظائف حياتية مستفيدة من شبكة العلاقات الاجتماعية ومنظوماتها المتوارثة. تصورت النخبة الدولة المعاصرة انها تستطيع باسم التقدم والحداثة ان تحقق قفزات اجتماعية بمعزل عن الجماعات السياسية وهيئاتها الاهلية ومنظوماتها المتوارثة تقليدياً. وبسبب ذاك التصور لجأت الى ابتكار، واحياناً ابتداع، اساليب قسرية في صناعة التحول. ولم تدرك ان التغيير بحاجة الى قوة بشرية تملك الامكانات ومقتنعة بان التقدم حاجة يخدم مصالحها ولا يصب في اطار تعزيز سلطة النخبة وسيطرتها الكلية على حركة المجتمع وتوازنه الطبيعي. ساهم ضعف الوعي التاريخي عند النخبة الانقلابية في تكوين تصورات، هي اقرب الى الاوهام، لصوغ العلاقة مع الناس واعادة انتاج التقدم في سياقه الزمني. فالنخبة اعتقدت ان التقدم الاوروبي حصل في لحظة زمنية قصيرة وانه يمكن تقليده اذا ترجمنا دساتيره ومنظوماته المعرفية وقمنا يتطبيقها كأمر واقع. لم تنتبه النخبة الى مسألة التاريخ والطبيعة الثقافية للجماعات الانسانية. فالدستور لا يستورد بل هو اصلاً نتاج التطور الداخلي للشعب ويعبر عن روحيته التاريخية ونظرته الى الحياة والكون. كذلك الديموقراطية لا تترجم نصوصها وهي مثلها مثل قوانين الاحوال الشخصية وغيرها من مسائل تتعلق بالتربية والمعيشة واسلوب الحياة والتنظيم المتوارث. وخطأ مصطفى كمال اتاتورك الاساسي انه تصور ان مشكلة تركيا بعد حصول الانقلاب على السلطان هو في السلطنة والشريعة الاسلامية والابجدية العربية والآذان والحجاب والصيام وغيرها من انظمة الملل والنحل التي كانت تعتمدها اسطنبول في تنظيم جماعاتها القومية والدينية والمذهبية، فأقدم على الغاء السلطنة وشطب الشريعة وبدّل الابجدية ومنع الآذان بالعربية وحارب الدين والتدين واعتمد ترجمات مختلفة للدساتير الاوروبية ظناً منه ان تلك الخطوات ستدفع بتركيا الى مصاف الدول المتقدمة وتصبح خلال سنوات قليلة على مرتبة واحدة مع المانيا وفرنسا وبريطانيا. كانت النتيجة عكس ما تصور، اذ تراجعت مكانة تركيا وتدهورت سياسياً واجتماعياً. وادى اسلوبه الانقلابي الى احداث فجوة زمنية قطعت تاريخ البلاد الى نصفين وسلخت الجماعات عن هوياتها الثقافية وحولت الناس في اقل من يوم الى أميين بسبب تغيير اللغة الى الحرف اللاتيني. واضطر اتاتورك الى محاربة الجميع بقصد توسيع القاعدة الاجتماعية للدولة وتوحيد مختلف الجماعات في تصور واحد، وساهم الامر في دفع الدولة العلمانية الى ارتكاب مجازر ضد الاكراد والارمن والمسيحيين والعرب وطرد الالاف منهم بذريعة عدم انسجامهم مع منظور الدولة القومية التركية. وبدلاً من تحقيق التقدم المنشود لعب الزمن دوره المعاكس اذ انتهت الدولة الى عزلة سياسية بعد ان توسعت دائرة صداماتها مع الاقليات الاقوامية والمذهبية التي يتكون منها المجتمع الامر الذي ترك تأثيره على النمو الاجتماعي والتطور الاقتصادي. ليس صحيحاً قول برنارد لويس ان تركيا هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط الى جانب اسرائيل، فتركيا دولة اتاتوركية وخياراتها السياسية ليست ديموقراطية بدليل ان اي قوة تفوز بالانتخابات عليها ان تستجيب لشروط حارس الدولة الجيش والخضوع للدستور المنقول عن قوانين اوروبية، الذي لم تتم كتابته بالاتفاق مع الجماعات الاهلية او من خلال الارادة الحرة للناس. ولولا حكمة نورالدين اربكان وحاجة النخبة الحاكمة لحارس مساعد لكان حصل في تركيا ما يشبه الكارثة التي وقعت في الجزائر. كذلك اسرائيل لا يمكن ان نضعها في خانة الدول الديموقراطية لأنها اصلاً تقوم على احتلال أراضي الغير وممارسة التمييز الديني واحياناً القومي ضد اصحاب البلاد الاصليين. ليس القصد هنا الحديث عن اسباب فشل الاتاتوركية وطبيعة اسرائيل وتكوينها ودورها في المنطقة بل محاولة الاستفادة من ذاك الفشل الذي تكرر للاسف في العالم العربي بعد ان اخذت النخب العربية تقلد النهج الاتاتوركي في تركيب الدولة واستيراد المنظومات المعرفية والدستورية متجاوزة بذلك الناس والتاريخ. هناك الكثير من التشابه بين الاتاتوركية والنخب العربية الحاكمة مع اختلاف اساسي واحد وهو ان تركيا استخدمت وسائل السلطة لتحقيق مشروع انقلابي يلغي الاسس التاريخية للدولة السلطانية بينما النخب العربية حاولت تأسيس سلطة جديدة بدأت احياناً من الصفر لتقوم بمهمة الدولة على الطريقة الاتاتوركية. وكانت النتيجة ان الاتاتوركية نجحت في تأسيس الدولة الحديثة لكنها فشلت في توحيد المجتمع فأخذ يتفكك وتتدهور علاقاته ومنظوماته بينما انتهت الدولة الحديثة عندنا الى فشل في تحقيق الوحدة القومية الدولة القومية فانعزلت في داخل كياناتها السياسية محاولة اعادة صوغ المجتمع وفق تصورات فوقية انقلابية مستخدمة القوة لتنظيم الجماعات في قوالب دستورية تخدم النخبة لا المجتمع. وانتهى الأمر بعد 70 سنة من التجارب الايديولوجية في تركيا والعالم العربي الى تحول الدولة الى قوة معرقلة لتقدم المجتمع في وقت تعتقد النخبة ان سلوكها السياسي سيدفع الناس الى الحداثة والتطور. ويمكن هنا قراءة التشابه بين الفشلين الاتاتوركي في تركيا والنخب الحاكمة العربية في الاساليب والنتائج. فالاتاتوركية لم تفصل الدين عن الدولة بل حاولت السيطرة على الدين من خلال القاء الدولة القبض على المجتمع وفرض التجانس القسري على الجماعات المتفاوتة. كذلك نخبنا الحاكمة لم تفصل الدولة عن الدين بل حاولت توسيع وظائف الدولة لتهيمن على الدين من خلال الهيمنة على المجتمع ومصادرة حركته الداخلية وضرب مؤسساته التقليدية الموروثة وتفكيك هيئاته الاهلية وتغيير طبيعته الاجتماعية وتزييف هويته الثقافية من طريق القهر والتسلط. فالدولة الحديثة الدول العربية المعاصرة تحولت الى دولة تسلطية تعرقل التطور من خلال تعطيلها لادوات المجتمع ومؤسساته الاهلية الامر الذي زاد ويزيد من عزلتها وربما يؤدي الامر الى تفككها كما كاد ان يحصل في الدولة الاتاتوركية واضطرت اخيراً الى التراجع لافساح المجال لتمثيل خيارات الناس في السلطة والحكومة مع الاحتفاظ بحق الاشراف العام على الدولة والتدخل اذا اقتضت الظروف. ومع ذلك لا يزال شبح الانقسام يهدد "دولة الجنرالات" على رغم تعاون النخبة العسكرية مع اسرائيل ودعمها من قبل الحلف الاطلسي. تنقلنا أزمة الدولة العربية الحديثة وعلاقتها السلبية مع المعارضة الى السؤال عن طبيعة التكوين التاريخي - الثقافي للمجتمع ودور الاخير في صوغ مستقبله. أدى ضعف القاعدة الاجتماعية للدول العربية الحديثة الى لجوء الدولة الى الاستبداد السياسي لتعويض النقص في الشرعية الدستورية والتاريخية، فاقدمت على تشكيل قوة سياسية متراصة ايديولوجياً تعتمد المركزية الشديدة في تنظيم المجتمع وترتيب وظائفه واخضاعها لرقابة السلطة واشرافها الدائم. فضعف بنية الدولة كان الدافع الاساسي نحو تعويض الضعف بالاستبداد السياسي وتعزيز السلطة المركزية ومنع حرية الجماعات بقصد توحيدها لتوسيع قاعدة الدولة الاجتماعية فانتهى الامر الى الغاء حق المعارضة في التحرك المستقل حتى ضمن سياق المشترك بين الناس والدولة، فباتت الدولة اشبه بالقوة الغريبة التي تمارس سياساتها بمعزل عن حركة المجتمع وتحولاته الداخلية. وبدلاً من ان توحد الدولة الناس وتوسع قاعدتها الاجتماعية من خلال تأسيس وظائف جديدة اقدمت من دون وعي منها، او ادراك لحاجات الناس، الى اضعاف البنية الاجتماعية التقليدية وعزل وظائفها ودفع الناس نحو المزيد من التفكك وتعطيل الاندماج والتوازن الطبيعي المتوارث، وأخيراً انكفاء الجماعات الى هوياتها الثقافية في أضيق حلقاتها الأمر الذي يفسر اتساع دائرة اضطراب العلاقات بين السلطة والكثير من الجماعات السياسية. * كاتب لبناني من أسرة "الحياة".