لا تكاد كتب الإخباريين العرب القدماء والمسلمين تخلو من الادعاء المثير التالي: إن فراعنة عرباً حكموا مصر. فالطبري، والمسعودي والفاكهي وابن الأثير، وسواهم، لا يتحرجون في نصوصهم التاريخية من إعطاء أسماء بعض هؤلاء الفراعنة العرب. الطبري مثلاً وعلى منواله ينسج ابن الأثير، يعطي اسم الرّيان بن الوليد بن مصعب، فيما رأى آخرون أنه الوليد بن صعب، وإلى هذا، هناك مزاعم إخبارية لا حصر لها عن وجود أسر عربية حكمت مصر في عصر الهكسوس. فهل ثمة ما يؤيد هذه المزاعم؟ نبدأ من نقطة انطلاق بعيدة نسبياً عن هذا الحقل من المزاعم" لكي نتمكن من تقديم جواب مقبول. تساءل اليونانيون القدماء، وقبل صعود حضارتهم العظيمة، عن الموطن التاريخي الذي جاءت منه آلهتهم؟ على نحو ما، كان هناك ما يشبه الإجماع على أن الآلهة اليونانية جاءت من الخارج. وهذا المعتقد المصري عينه الذي رأى في عصر الهكسوس زهاء 1720ق.م. عصر "دخول الآلهة الأجنبية". وسنرى، في ما بعد، دلالة هذا التوافق المثير بين المعتقدين اليوناني والمصري عن وجود آلهة أجنبية. والمعروف، تاريخياً، أن هذا المُعتقد كان منذ عصر هيرودوت 450 ق.م. حاضراً بقوة. يقول هيرودوت، في مقتطف طويل نقله برنال أثينا السوداء 1987، نيويورك ما يلي: "لقد جاءت كل أسماء الآلهة - اليونانية - تقريباً إلى بلاد الإغريق من مصر، إني أعرف من تحقيقاتي وتدقيقاتي التي قمت بها، أنها جاءت من الخارج. ويبدو من المرجّح أنها جاءت من مصر، لأن أسماء كل الآلهة كانت معروفة في مصر قديماً. وهكذا، فإن الممارسات الطقوس وغيرها مما سأتحدث عنه لاحقاً، قد أخذها الإغريق عن مصر. وفي العصور القديمة حسبما عرفت مما حدثوني عنه في دودونة كان البلاسجيون يقدّمون كل أنواع القرابين وكانوا يُصلّون للآلهة ولكن من دون تمييز بين الأسماء، لأنهم لم يكونوا قد سمعوا بعد بمثل هذا التمييز وكانوا يطلقون على الآلهة الإغريقية Theoi أي: أصحاب القرار النهائي. يفيد هذا المقتطف من هيرودوت الحقائق التالية: 1 من الواضح أن المعنى الذي تفيد به كلمة Theoi، مماثل للمعنى ذاته الذي تفيد به كلمة ذو العربية. وهما تشيران الى كل صاحب شأن أو قرار، أو مالك. فإذا كان الإغريق - بحسب هيرودوت - يسمّون كل "إله" بTheoi فإن الاستعمال العربي لكلمة ذو في توصيف الآلهة معروف تماماً، مثلاً: ذو بكة، ذو الخلصة، ذو الشرى، ذو غابة، ذو رجل، ذو شَعر، ذو طين، ذو الكفين، ذو سمائي...الخ. يعني هذا أن ثمة استعارة جرت في وقت ما، كانت ترتكز الى توصيف الإله اختصاراً بذي، ذو. وهذه تحولت الى مكافئ يوناني هو Theoi والمعنى واحد: صاحب الأمر، صاحب القرار، مالك الأمر، "مالك يوم الدين" كما في النص القرآني. في هذا الإطار تخيّل الإغريق كبير آلهتهم على أنه زيوس - وفي الاسم كل العناصر الصوتية لTheoi أو ذو. 2 لأن هيرودوت يقطع بالأصل المصري لمعظم الآلهة الإغريقية، فمن المُحتّم - في هذه الحال - أن يكون الدخول المفترض لآلهة أجنبية قد حدث في عصر شديد الاضطراب، بحيث أن السكان اضطروا الى ممارسة شعائرهم وعباداتهم في معابد لآلهة غريبة. وليس هذا العصر، برأينا، سوى عصر الهكسوس، كما سنرى. ولكن، وقبل الخوض في هذا الأمر، لدينا قائمة طويلة بأسماء الآلهة العربية التي دخلت بلاد الإغريق، وتمّت هلينتها من الهلينية عبر مصر، وتحديداً عبر منطقة وسيطة أخرى هي المستوطنة المصرية في كريت، طيبة التي تفيد الأخبار التاريخية والأساطير اليونانية أنها بُنيت من قبل شعب فينيقي جاء من الخليج العربي هو شعب القدمونيين. ومن هذه الآلهة الإلة ذو الشرى، وهو صار عند اليونانيين دوسير، فضلاً عن مُناة الالاهة الأكثر شهرة وأهمية في المكانة عند عرب الجاهلية الأولى. وهذه أخذها الإغريق في صورة مونيتا التي اشتبه على فهمي خشيم آلهة مصر العربية: 251 أنها ذات صلة بمادة Money الإنكليزية، أي نقود. وبالفعل فإن مُناة كانت في الأصل إلهة للحساب، وهي غير مَناة الأخرى التي عناها القرآن الكريم بقوله تعالى: "ومناة الثالثة الأخرى". إذ إن مُناة - ثم مونتيا حيث تحولت الضّمة في أول الاسم الى حرف واو - هذه، هي إلهة الحساب عند العرب. وقد استعمل الأكديون وحدة الوزن منا أو مَنَّ اشتقاقاً من مُناةِ هذه، وهي وحدة لا تزال مستعملة حتى اليوم في ريف العراق، بينما كانت مناة إلهة للقدر - كما نقول مثلاً: لمّا وافته المنيّة: أي قدره المحتوم - ويبدو أنهما عبدتا على نحو مستقل عن وظائفهما الفعلية إذْ تمّ - عملياً - دمجهما في صورة واحدة. ولأن الإغريق أخذوا مُناة هذه في صورة مونيتا، إلهة للحساب، صكّ الرومان، في ما بعد، النقود باسمها، ودخلت اللاتينية في صورة Money. ولدينا في هذا السياق اسم الإله العربي القديم، وأشهر معبودات العرب في الجاهلية، هُبَل، الذي دخل بلاد الإغريق من طريق مصر في عصر الهكسوس في صورة Apollo أبولو. ونحن نرى أن أسطورة صراع هابيل وقابيل، في التوراة والمصادر العربية، ذات صلة حميمة بهبل الذي كان إلهاً للصيد ووفرة الطعام، وتحديداً: اللحم. إذ الاسم في صورته القديمة، يتضمن هذا المعنى. وفي حديث عائشة في إشارتها الى سُمنة البنات والنساءُ يومئذ لم يُهِبلُهنَّ اللحم أي أنهن لم يَسمنّ بعد. ومادة هُبل - على وزن زُفَر بالضم ثم الفتح تعني كثرة اللحم والشحم. وهذه الصورة أخذها اليونانيون في صورة أبولو، كإله للصيد. وإن قراءة أكثر جذرية في أسطورة صراع هابيل وقابيل ستوفر أمامنا فرصة لمطابقة مصرع الإله هابيل - هُبل على يد شقيقه: مقتل إله الصيد والوفرة والطعام، الذي صوّر في هيئة راع قدّم قرباناً من أجود غنمه. ولذا تضمنت صورة Apollo كل العناصر التي تشكّلت منها صورة هُبَل. ولمّا كان هُبَل من أصنام كنانة وكان معبودها الأكبر كما ارتأى ابن الكلبي في الأصنام فقد كتب عنه قائلاً: "كان هُبَل - من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى. أدركته قريش كذلك فجعلوا له يداً من ذهب". وفي وقت تال أخذ الإغريق الإله العربي القديم قيس - الذي نعرفه في صورة اسم أب لأكبر قبائل العرب وأقدمها: قيس عيلان - ليدخل في جامع الآلهة الإغريقي في صورة الإله كاسيوس. ولمّا كان قيس العربي إلهاً جبلياً وشديداً انتقل بصفاته هذه، تماماً، عبر مصر، الى بلاد الإغريق، في صورة إله الجبل: كاسيوس. 3 إن تأكيد هيرودوت القائل إن الآلهة الإغريقية جاءت من الخارج يمكن فهمه، وبطريقة مثالية، بإعادة تنسيبه إلى ما يُعرف ب الحقبة الهكسوسية، وهي الموجة البشرية التي قادت العرب العاربة زهاء 1720ق.م. الى الاستيلاء على شرق الدلتا حيث أقاموا فيها ما عُرف عند الإخباريين العرب بعصر الفراعنة العرب في مصر. ووصف المؤرخ المصري مانيتون زهاء 300ق.م. هذه الموجة البشرية بقوله: "إنهم كانوا عرباً". لكن التوصيف الذي غلب، في النهاية، كان توصيف الإغريق الذين أطلقوا في مروياتهم التاريخية اسم الهكسوس على ما عُرف عند المصريين ب"ملوك البدو" أو "ملوك الرعاة". ولذا، لا بد من وضع الآلهة العربية التي انتقلت الى بلاد الإغريق عبر مصر في إطار هذا العصر الذي جاءت فيه سلالات عربية، سنرى تالياً المغزى الحقيقي للمزاعم الإخبارية حول صحة وجودها في مصر. 4 لقد أحلّت هذه الموجة، الآلهة القومية للهكسوس البدو محل الآلهة المصرية. وهذا هو مصدر شكاوى المصريين من مجيء آلهة أجنبية لتحل محل آلهتهم. وتُظهر بعض أسماء ملوك الهكسوس شبهاً مثيراً للحيرة بأسماء قبائل من العرب العاربة، كما هو الحال مثلاً مع اسم Khamoudi ثمودي الذي سجلته بردية مصرية يعرفها الباحثون ببردية تورين وهذا الاسم يشير الى ملك، كما يشير الى جماعة بشرية بعينها في هذا العصر. وقد اشتبه د.لويس عوض مقدمة في فقه اللغة العربية، القاهرة: 1980 بأن اسم الملك الهكسوسي Asis مماثل في صيغته للاسم الذي أطلقه القرآن على فرعون مصر العزيز. ولكننا نرى أن الاسم، في صورته الأصلية، كما تقدمه نقوش اليمن القديم، هو اسم لإله عربي جنوبي عُبد في صورة عزيزو - عزيز. بل إن صيغة عزيز العربية هذه تظهر في النقوش اليمنية على هذا النحو: عَثتر عزيزو، بإضافة صيغة متحوّلة من عشتار البابلية. وكان عزيز، في الأصل، إلهاً يمنياً، ويبدو أن بعض ملوك الهكسوس تسمّوا باسمه تيمناً، وهذا يدعونا الى افتراض صلة بين اسم الملك، بما هو لقب لا اسم، وبين عبادة الإله عزيز الذي سنجده محفوظاً حتى اليوم في صورة اسم من أسماء الله الحسنى الله العزيز. ونجد الاسم في السويداء السورية في صيغة عزيزو/كبّارو. وفي نقش بيت ضبعان الذي اكتشفه مُطهّر علي الإرياني ترد العبارة التالية: "وإلههم الخاص عثتر عزيز ذي جأوب سيد المعبد". 5 فضلاً عن ذلك، هناك اسم الإله الأكثر شهرة في الأساطير المصرية، نعني سث Seth الذي يتجلى كإله صحراوي شرير، شيطاني، يصرع شقيقه، إله الخصب أوزيروس. وهذا الاسم، Seth، هو صيغة أخرى من الاسم العربي، سيت، كما نراه في اسم شيت بن آدم... ألخ. فهذه، بصورة شديدة الاقتضاب، العناصر اللازمة لتأسيس إطار تاريخي عمومي لمعالجة المزاعم الإخبارية العربية عن وجود فراعنة عرب حكموا مصر. * كاتب عراقي مقيم في هولندا.