الهلال يطوي صفحة الدوري مؤقتاً ويفتح ملف «نخبة آسيا»    اليونيفيل : لم نسهّل أي عملية اختطاف أو أي انتهاك للسيادة اللبنانية    جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل تعقد المؤتمر العالمي لطب الأعصاب    اكتشاف قرية أثرية من العصر البرونزي في واحة خيبر    الأردن: لن نسمح بمرور الصواريخ أو المسيرات عبر أجوائنا    إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بن عبد العزيز الملكية    رونالدو يعلق على تعادل النصر في ديربي الرياض    وسم تختتم مشاركتها في أبحاث وعلاج التصلب المتعدد MENACTRIMS بجدة    حقيقة انتقال نيمار إلى إنتر ميامي    «الداخلية»: ضبط 21370 مخالفًا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.    بلدية محافظة البكيرية تنفذ فرضية ارتفاع منسوب المياه وتجمعات سطحية    السعودية تعرب عن قلقها إزاء استمرار القتال في السودان الشقيق وتصاعد أعمال العنف التي طالت المدنيين من نساء وأطفال    مرثية مشاري بن سعود بن ناصر بن فرحان آل سعود    المملكة "برؤية طموحة".. جعلتها وجهة سياحية عالمية    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الشيف الباكستانية نشوى.. حكاية نكهات تتلاقى من كراتشي إلى الرياض    في الجوف: صالون أدب يعزف على زخات المطر    مثقفون يناقشون "علمانيون وإسلاميون: جدالات في الثقافة العربية"    معدل وفيات العاملين في السعودية.. ضمن الأدنى عالمياً    آلية جديدة لمراجعة أجور خدمات الأجرة عبر التطبيقات    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    "الأرصاد": أمطار على منطقة المدينة المنورة    هيئة الهلال الاحمر بالقصيم ترفع جاهزيتها استعداداً للحالة المطرية    جمعية البر بالجنينة في زيارة ل "بر أبها"    أمانة القصيم تقيم المعرض التوعوي بالأمن السيبراني لمنسوبيها    الكلية التقنية مع جامعة نجران تنظم ورشة عمل بعنوان "بوصلة البحث العلمي"    انطلاق فعاليات "موسم التشجير السنوي 2024" ، تحت شعار "نزرعها لمستقبلنا"    ضمك يتعادل إيجابياً مع الرياض في دوري روشن للمحترفين    وقاء جازان ينفذ ورشة عمل عن تجربة المحاكاة في تفشي مرض حمى الوادي المتصدع    ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار سقف محطة قطار في صربيا إلى 14 قتيلاً    الشؤون الإسلامية في جازان تطلق مبادرة كسوة الشتاء    أروماتك تحتفل بزواج نجم الهلال "نيفيز" بالزي السعودي    تن هاج يشكر جماهير مانشستر يونايتد بعد إقالته    ماسك يتنبأ بفوز ترمب.. والاستطلاعات ترجح هاريس    الحمد ل«عكاظ»: مدران وديمبلي مفتاحا فوز الاتفاق    المذنب «A3» يودِّع سماء الحدود الشمالية في آخر ظهور له اليوم    الرياض تشهد انطلاق نهائيات رابطة محترفات التنس لأول مرةٍ في المملكة    تصعيد لفظي بين هاريس وترامب في الشوط الأخير من السباق للبيت الابيض    حائل: إطلاق مهرجان هيئة تطوير محمية الملك سلمان بوادي السلف    البدء في تنفيذ جسر «مرحباً ألف» بأبها    مبدعون «في مهب رياح التواصل»    أمير المدينة يرعى حفل تكريم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز    الطائرة الإغاثية السعودية السابعة عشرة تصل إلى لبنان    ما الأفضل للتحكم بالسكري    صيغة تواصل    هاتف ذكي يتوهج في الظلام    الدبلة وخاتم بروميثيوس    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    الأنساق التاريخية والثقافية    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    لا تكذب ولا تتجمّل!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انطلاقاً من اريك هوبسباوم : وظيفتا التاريخ والتأريخ بين تفسير العالم و ... تغييره
نشر في الحياة يوم 20 - 04 - 2000

يتميز اريك هوبسباوم، مؤرخ الثورة الصناعية البريطانية وصاحب نظرية "اختراع التقاليد"، بأنه من المؤرخين الأقدر على تنظير تأريخهم، وبكونه أحد اكثر الماركسيين الأحياء مرونةً في ماركسيتهم. ومن موقعيه هذين، يحاول شرح نظريته للتاريخ والتأريخ عبر مقالات ومحاضرات ضمها كتابه "في التاريخ" وايدنفيلد ونيكولسون الذي يستهله بالفقرة التالية: "مع انني مواطن بريطاني انتمي الى جيل ثان من المولودين انكليزاً، فانا ايضا اوروبي شرقي. وبالفعل فأنا، كيهودي، واحد من الافراد الذين تميزوا بالسمات التي اتسمت بها شعوب الدياسبورا الاوروبية الوسطى. فجدي لأبي اتى الى لندن من وارسو، وامي من فيينا، وكذلك زوجتي، مع انها اليوم تتحدث الايطالية افضل مما تتحدث الالمانية".
وهذه الاطلالة من منصّة كونية تتيح لصاحبها قدرة أكبر على رؤية الكوني ومعاينته وتسجيله. ذاك ان تاريخ البلدان المتأخرة في القرنين التاسع عشر والعشرين هو، عنده، تاريخ اللحاق بالعالم الاشد تقدما عن طريق تقليده. فيابانيو القرن التاسع عشر اتخذوا اوروبا موديلا. والاوروبيون الغربيون بعد الحرب الثانية قلدوا الاقتصاد الاميركي. وقصة اوروبا الوسطى والشرقية في القرن العشرين هي، بالمعنى العريض، قصة محاولات اللحاق عبر اتباع موديلات عدة، وفشلها في ذلك.
ولأن التاريخ مادة اولية للايديولوجيات القومية والاصولية، ولأن الماضي هو العنصر الجوهري في هذه الايديولوجيات، فالمؤرخون غالبا ما يجدون انفسهم في موقع اللاعبين السياسيين. فاذا ظُن ان مهنة التاريخ، على عكس مهنة الفيزياء النووية، لا يمكن ان تؤذي، فان ظناً كهذا خاطىء بالضرورة. كذلك اذا رتّبت هذه الحقيقة مسؤولية كبرى على المؤرخ، فقوام المسؤولية ليس مكافحة الكذب بل اولا واساسا مكافحة الاجماعات المؤسسة على التلاعب بالتاريخ، والتي تنتهي جزءا من كتب التعليم المدرسية. فالقليل من ايديولوجيات عدم التسامح يرتكز على الاكاذيب البسيطة، واكثر منه بكثير ما يرتكز على اكاذيب معقدة من هذا النوع.
لكن الزمن ونيل الاستقلالات والحصول على الاعتراف يُضعف هذه الاكاذيب المسوقة بامتداح الذات. ففي البداية كان كل تأريخ اسرائيلي يستخدم المحرقة لتبرير افعال الدولة العبرية، مثلما كان كل تأريخ ايرلندي قصيدة غزل بالشخصية الايرلندية. واليوم تغير التأريخان، او شرعا. والحال ان الكائنات الانسانية كلها واعية للماضي والماضي، هنا، هو الفترة التي عيشت قبل الأحداث المسجّلة في ذاكرات الافراد. وهذا ما يكفي للتنبيه اليه مجرد العيش في جوار من هم اكبر سنا. فالمجتمعات المرشحة لأن تثير اهتمام المؤرخين مجتمعات ذات مواضٍ. وأن يكون المرء عضواً في جماعة انسانية، فمعناه أن يموقع نفسه قياسا بماضيه، ولو عن طريق رفضه. فالماضي، من ثم، بُعد دائم للوعي الانساني، ومكوّن حتمي من مكونات مؤسساته وقِيمه. لكن مشكلة المؤرخين هي تحليل طبيعة هذا "الحس بالماضي" ورصد تحولاته.
ذاك ان الاعتقاد بان الحاضر يعيد انتاج الماضي، ينطوي على وتيرة بطيئة من التغير التاريخي. فكيف وان افتراض الثبوتية ل"المجتمعات التقليدية" خرافة يجدها العلم الاجتماعي فظة. فإذ يتسارع التغير، ويصل تحول المجتمع الى ما يتعدى حدا ما، يكف الماضي عن ان يكون مرجع الحاضر، بل يصير الحاضر مرجع الماضي، لا تجميلاً وتعظيماً بل مراجعةً وقياساً ونقداً. ولأن محاولة استعادة الماضي الضائع لن تنجح بالطبع، ما خلا جوانب مِعلَمية منها كاعادة تعمير المباني المهدّمة، فان المحاولة هذه ستأتي، في احسن احوالها، انتقائية جدا.
وما هو ابعد، وعلى نحو مفارق تماماً، أن ابتعاد الماضي عنا يمكن ان يبلغ حداً يصير معه احياؤه صنعاً ابداعياً جديداً. فالماضي يبقى الاداة التحليلية الاشد ملاءمة لمواكبة التغير الدائم، شرط ان يتم ذلك في شكل متجدد. فما يعطي الشرعية للحاضر ويشرحه ليس الماضي بصفته مجموعة نقاط استدلال كالماغنا كارتا مثلاً، ولا حتى كتعاقُب زمني عصر المؤسسات البرلمانية مثلاً، بل بوصفه عملية صيرورة الحاضر. ومشهد الماضي كاستمرار جماعي للتجربة يبقى مهماً حتى لاولئك الذين كرسوا انفسهم وفكرهم للتجديد. وما إصرار اشد الثوريين ثورية على العودة الى سباراتاكوس وتوماس مور وغيرهما الا من هذا القبيل. لا بل ان حسّنا بالسياحة وفهمنا لها، وللآثار كجزء منها، يقول ذلك.
لكن ما الذي يمكن للتاريخ ان يُعلّمنا في ما خص المجتمعات المعاصرة بوصفها "ليست مثل" الماضي. فالتاريخ حين يعمم بطريقة مفيدة، يكون بالغ الحذر حيال عدم التشابه. والدرس الاول الذي يتعلمه المؤرخ المحترف هو ان يراقب التفارُق التاريخي، او الخلاف بين ما قد يبدوان للوهلة الاولى، متماثلين، كالملكية البريطانية في 1797 وهي نفسها في 1997. ذاك ان الماضي بذاته دليل بالغ النقص لفهم الحاضر. فمع ان تاريخ يابان توكوغاوا مفيد ليابان اليوم، فليس من المفيد اطلاقا الزعم أن ذاك المرجع كاف. وهذا علما بان التحولات العميقة والدرامية والمستمرة غدت، منذ اواخر القرن الثامن عشر وخصوصا مع اواسط التاسع عشر، شديدة التلازم مع عالمنا. فالتجديد هو القاعدة، لا سيما في بلدان كالولايات المتحدة يقع معظم تاريخها في حقبة التغيرات الثورية.
ثم ان التاريخ لا يستطيع ان ينأى بنفسه عن المستقبل، على الاقل لأن ما من خط يفصل حاضرنا عنه. فاذا صح ان كل الكائنات والمجتمعات الانسانية جذورهم في الماضي، عبر وسائط الطوائف والعائلات والامم بل الذاكرات الشخصية، الا ان الجزء الاكبر بما لا يقاس من السلوك الانساني الواعي والمرتكز على التعلم والتجريب والتذكر، يؤلّف اليوم ميكانيزما موسّعا لمعالجة الماضي والحاضر والمستقبل.
والمؤرخون مثل العلماء الاجتماعيين عديمو الحيلة في مواجهة المستقبل، نظرا لانعدام النسق الذي يمكن ان يُقاس عليه. وحتى حين يستطيعون التكهن بحركات شديدة التعاقُب، فان منطق تعاقبها قد لا يكون مفهوما لديهم بالكامل. وهذا لا يلغي ان الشيء الكثير يبقى في نطاق قدرة المؤرخين حيال المستقبل: فهم يسعهم اكتشاف ما الذي تستطيع الكائنات الانسانية فعله، وتقرير حدود فعل ما وآثاره، مميزين دوما بين ما هو قابل للانقشاع وما هو غير قابل.
والمؤرخون يمكن ان يصابوا بالعتق والتجاوز، مع ان هذا يحصل لهم بوتيرة ابطأ من التي يعرفها العلماء. وهذا العتق سببه الرئيسي توسع المعرفة. فما شهدناه، على صعيد التأريخ، في القرن العشرين هو بالتحديد ما كان مؤرخو تسعينات القرن التاسع عشر قد رفضوه كليا، اي مجانسة التاريخ والعلوم الاجتماعية. لقد ابتعد التاريخ عن الوصف والسرد ليقترب من التحليل والتأويل، كما ابتعد عن الفرد المتفرّد الى التعميم. وهذا ما يشكل تقدما في عمل التاريخ تحقق خصوصا في الاجيال الثلاثة الاخيرة، غير انه تقدم متواضع.
حصل التقدم اساسا على يد تبسيط ضروري بدأت تتكشّف الآن عيوبه. ولهذا تظهر اليوم حركات "تعيد" قراءة بعض الاحداث وتؤكد ما لم يحظ بالتأكيد على يد ثوريي التأريخ. ثم انه مع التطور الضخم الذي احرزته العلوم الاجتماعية، انتج تطابق التاريخ معها بعض التجزوء والتنافر. فنحن، راهنا، نملك تاريخا اقتصاديا "جديدا" هو اساسا نظرية اكاديمية سائدة تمد نتائجها الى الماضي. والشيء نفسه يصح في الانثروبولوجيا الاجتماعية والتحليل النفسي واللغويات البنيوية. وهذه النزعة الى التجزيء وجدت ما يعززها في التوسع المدهش لحقل الدراسات التاريخية، والذي ربما كان الانجاز الاكثر ابهارا للسنوات الثلاثين الماضية. فاذا كانت كتابة التاريخ عملية انتقائية، فنحن بتنا اشد معرفة بكثير من اي جيل سابق، بمدى ضيق العمليات الانتقائية.
واستخلاصا يمكن القول ان التاريخ احرز تقدما ملحوظا في القرن العشرين، ولو بطريقة ملتوية. وينطوي هذا القول على معنى ضمني هو انه ينتمي الى الانظمة التي يصح فيها نعت التقدم، اي امكان الوصول الى فهم ارقى لعملية موضوعية وفعلية. واذا كان كثيرون ينكرون هذا، لكن التاريخ عميق التداخل مع الايديولوجيا والسياسة، خصوصا حين تفضي كشوفاته الى آثار سياسية مرغوب او غير مرغوب فيها. فدائما كان تعبير "تاريخ اجتماعي" صعب التعريف، وحتى وقت متأخر لم يكن ثمة حاجة ملحّة لتعريفه. فقد انجذب عدد من المؤرخين الى هذا الميدان اما لأنهم كانوا راديكاليين او اشتراكيين. وبصفتهم هذه اهتمّوا بقضايا لها وطأتها العاطفية عليهم. هكذا تشكّل الاساس غير المنطوق لما وضعه المؤرخ الراحل ج. م. تريفيليان في كتابه "التاريخ الاجتماعي البريطاني"، بوصفه "التاريخ وقد أُخرجت منه السياسة". كذلك اكتسب التاريخ الاجتماعي معنى آخر يجعله وثيق الارتباط بالتاريخ الاقتصادي.
وكائنا ما كان الحال لم ينشأ حقل اكاديمي مختص بالتاريخ الاجتماعي حتى خمسينات القرن العشرين، مع ان مدرسة "الحوليات" الفرنسية الشهيرة للوسيان فيفر ومارك بلوخ اسقطت، في احدى مراحلها، النصف الاقتصادي من اسمها الفرعي وصوّرت نفسها اجتماعية بحتة.
على ان التاريخ الاجتماعي لا يمكنه اطلاقا ان يكون تخصصا تاريخيا آخر كالتاريخ الاقتصادي او غيره، لأن الموضوع الذي يدور عليه مما يستحيل عزله عما عداه. فاذا امكن تعريف احد الانشطة بانه اقتصادي، فالاجتماعي هو ما ينطبق على انشطة واشياء لا حصر لها. لكن صحة التشكيك باعتماد النظريات الاقتصادية كاطار لتحليل المجتمعات تاريخيا، لا تلغي عظيم الفائدة التي يسديها الاقتصاد لمؤرخ المجتمع.
فهل يمكن القول اننا بتنا نقع على موديل اعلى لكتابة هذا التاريخ؟ لقد اعطانا مارك بلوخ في "المجتمع الاقطاعي" عملا رائدا، وهو موديل في كونه يتناول طبيعة البنية الاجتماعية وتحولاتها منظورا اليها نظرة مقارنة. وأسبق منه كان ابن خلدون وكارل ماركس اللذان اعطيا شذرات وملامح يستحيل الاستغناء عنها. ومؤخرا حصل تقدم ملحوظ نحو دراسة انماط معينة من المجتمع، لا سيما ذاك المرتكز على العبودية في الاميركتين او على العدد الفلاحي الضخم. غير ان المحاولات التي قامت لترجمة تاريخ اجتماعي متكامل الى تركيب واستخلاص شعبيين لا تزال غير مقنعة، ما يحمل على القول ان تاريخ المجتمع لا يزال قيد البناء، وهو نشاط زاهر وواعد.
تراجعت عناوين التاريخ الاقتصادي او تاريخ الفكر الاقتصادي، من نسبة 13 في المئة في اطروحات الدكتوراه التي تعد في اميركا في الربع الاول من القرن العشرين، الى 3 في المئة في النصف الاول من سبعيناته. وفي المقابل شكّل النمو الاقتصادي الذي لم توضع عنه اية اطروحة جامعية حتى 1940، 13 في المئة من جميع الاطروحات. وهذا غريب جدا ما دام ان التاريخ والاقتصاد نموا معا. فاذا ارتبط الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ببريطانيا فهذا ما لم ينجم عن ريادة بريطانيا الاقتصادَ الرأسمالي، لأن القطب الآخر، هولندا، لم يُعرف كثيرا بهذا الاهتمام. فسبب ذلك اذن ان المفكرين السكوتلنديين الذين قدموا جليل المساهمة في هذا الحقل، رفضوا ان يعزلوا الاقتصاد عن باقي التحول التاريخي للمجتمع الذي انخرطوا في همومه. فرجال كآدام سميث رأوا الى انفسهم بصفتهم يعيشون انتقالا من نظام اقطاعي الى آخر رأسمالي. وهم رغبوا في تسريع التحول وعقلنته، إن لم يكن لسبب فلتجنّب الآثار الضارة التي يمكن ان تنشأ عن ترك "النمو الطبيعي للثراء" على سجيّته. فاذا اعتبر الماركسيون ان البربرية احد احتمالات الرأسمالية، فان سميث قبلهم اعتبرها احد احتمالات الاقطاعية. وهكذا فتجريد الاقتصاد السياسي الكلاسيكي عن السوسيولوجيا التاريخية التي كرّس لها سميث الكتاب الثالث من "ثروة الامم"، خطأ يعادله خطأ تجريدها عن فلسفته الاخلاقية.
ومثل هذا التماسك يصح ايضا في ماركس. فالاقتصاد اذا ما فُصل عن التاريخ، غدا سفينة تسير على غير هدى. وقيمة الرؤى الاقتصادية التي يكمن جذرها في التاريخ هي ما يمكن الاستدلال عليه في ماركس كما في شومبيتر: فالاثنان ركّزا على الميكانيزمات الاقتصادية الداخلية التي تحرك الاقتصاد الرأسمالي. وعلى المؤرخين ان ينطلقوا من ملاحظة ماركس القائلة ان الاقتصاد دائما معيّن ومحدد تاريخيا، وان الانتاج دائما انتاج "افراد اجتماعيين".
ان الميل الراهن الى التجانس أغرى العلماء الاجتماعيين والايديولوجيين بتبسيط التاريخ عبر جعله يجاور "التحديث"، وجعل التنمية الاقتصادية صنوا ل"النمو". لكن قلة من المؤرخين هي التي انجذبت الى هذا الاغراء. اما الكثيرون فانجذبوا الى تلك المنطقة الرمادية بين الكلام السكولائي والكلام السياسي، والتي ربما كانت تهمّ المؤرخين اكثر من سواهم. فهم اعتادوا منذ ازمنة يصعب حصرها على اسباغ الشرعية على مزاعم السياسيين. وسوف يكون من غير الواقعي ان يمتنعوا عن اداء دور المحامين خصوصا اذا ما ظنوا ان القضية صالحة للدفاع عنها. وبالتأكيد هناك اخصائيون بلغار ويوغوسلاف ويونان مستعدون، من دون ان تطالبهم حكوماتهم او احزابهم او كنائسهم، ان يقاتلوا حتى آخر سطر وهامش لمصلحة تأويل أممهم للمسألة المقدونية. وهناك بطبيعة الحال ما لا يُحصى من حالاتٍ يُقبل فيها المؤرخون على "التأريخ" بما يفيد مواقف حكوماتهم في لحظة عابرة بعينها.
لكن هناك، في المقابل، مرافعات مشروعة عن قضايا: وهل لأحد ان ينكر درجة الافادة التي حققتها الحركات الوطنية من كشوفات سكولائية تتعلق بتواريخ شعوبها. ثم اذا كان في وسع العالم الطبيعي ان لا يكون منحازا، فالمؤرخ والاقتصادي وسائر العاملين في حقل اجتماعي لا يمكنهم الا ان يكونوا ملتزمين. والسبب بسيط، وهو ان العالم الطبيعي او الطبي لا يمكنه الا ان يكون ملتزما الكفاح ضد المرض، فيما المؤرخ والاقتصادي يعرفان امراضاً اخرى يصعب الصمت في مواجهتها. والى ذلك فسلطة الوضع القائم لا بد ان تتعزز اذا ما تُركت التعاليم السائدة في العلوم الاجتماعية على حالها، لا كآراء سياسية بل كحقائق ابدية.
وهذا الارتباط بين العلوم الاجتماعية والانحياز لا يعني ان الانحياز مفيد لها بالضرورة، لكنه يعني انه حتمي، ما يستدعي تدقيقين ضروريين: أن الانحياز لا يعني بالضرورة ايديولوجيا مُلزمة بعينها، وأن القضايا الخلافية الكبرى قد تجذب حتى العلماء الطبيعيين الى الانحياز، كما كان قائماً ابان سجالات العلم والدين. اكثر من هذا فالانحياز هو اليوم اقوى ما يكون في العلوم الانسانية التي يصبح تطورها، من دونه، عرضة للخطر.
لقد حقق القرن التاسع عشر الذي كان قرن الحضارة البورجوازية، عددا كبيرا من الانجازات الثقافية والفكرية. بيد ان النظام التاريخي الذي نما آنذاك لم يكن واحدا منها. فباستثناء تقنيات البحث التي تقدّمت، حصلت انتكاسة عما كان الحال ابان الثورتين الصناعية والفرنسية لجهة تفهّم تحولات المجتمع الانساني. فالتاريخ الاكاديمي، كما استوحي من تعاليم ومثال ليوبولد فون رانكه والذي نشرت أعمالَه مجلات مختصة كانت بدأت بالظهور، كان مصيبا في ازوراره عن البناء فوق الحقائق المتوافرة والتعميم انطلاقا منها. وهذا النهج اذا غدا مقصورا في المكان على اوروبا، فانه بات في المنهجية اقرب الى سرد كرونولوجي. هكذا كانت اسهامات التأريخ العائد الى التاسع عشر في فهم المجتمعات، بماضيها وحاضرها، ضئيلة وصُدفية. وكان لا بد من ايجاد بدائل عن هذا التأريخ، وهي ما شرع يظهر اواسط ذاك القرن واستمر حتى 1910. فهناك، وتحت وطأة المسألة الاجتماعية، ارتفعت راية التأريخ الاقتصادي والسوسيولوجي فيما نُكست راية التأريخ السياسي. واذا تأخر اقرار المجتمعات بهذا الجديد، بقيت الماركسية في طليعة الدافعين باتجاهه، وإن تفاوت تأثيرها بين بلد وآخر وطغى النوع المبتذل منها في احيان عدة.
لكن يبقى ان القيمة الابرز لمساهمة ماركس في ما خص المؤرخين تكمن في ما قاله عن التاريخ، او حقائق التطور الاجتماعي، لا في ما قاله عن المجتمع عموماً. فما يرسخ ان تحليل اي مجتمع، وفي اية واحدة من لحظات تطوره، ينبغي ان يبدأ بنمط انتاجه. وماركس نفسه لم يكن من دعاة الخط الواحدي في التاريخ بدليل اهتمامه بما اسمي نمط الانتاج الآسيوي. لهذا جميعاً يبقى الاساسَ الجوهري لكل دراسة وافية في التاريخ اذ كان الوحيد، حتى الآن، الذي حاول ان يصوغ مقاربة منهجية للتاريخ ككل. وهو، بهذا المعنى، متفوق على فيبر الذي هو منافسه الاوحد كصاحب تأثير نظري على المؤرخين، مع ان الاخير يمكن اعتباره ملحقاً تصحيحياً لماركس. فالتاريخ المرتكز على ماركس يمكن تصوّره من دون اضافات فيبر، لكن تاريخاً فيبيرياً يبقى غير قابل للتصور من غير ماركس.
وهنا لا بد من رفض التقليد الانثروبولوجي الذي يعامل المجتمعات الانسانية، اي عمليا الميكرو شعوب التي كانت موضوع عمل حقلي ومونوغرافات، بصفتها محتواة ذاتيا، منتجة لذاتها، وذات انظمة مستقرة ذاتيا على نحو امثل. فما من قبيلة او جماعة كانت ذات يوم جزيرة، على ما يقول إريك وولف. والعالم كخلاصة عمليات متداخلة، او كنظام سيستم، ليس، ولم يكن، حاصل مجموعات انسانية وثقافات محتواة ذاتيا. فما قد يبدو ثبوتيا وتكراريا ليس سوى نتاج تكيّف مع العمليات المعقدة للتغير التاريخي. وبالمعنى نفسه يخطىء من يراهن على انبعاث "التاريخ السردي" تبعاً لتراجع التأريخ الذي يتناول السؤال الكبير: لماذا. الا ان مؤرخي السؤال الكبير هم اؤلئك المعنيون بالتعميم في ما خص المجتمعات الانسانية. واذا كانت ال"لماذا" التي يطرحونها قابلة لأن تتغير عما كانته قبل عشرين سنة، يبقى ان هؤلاء المؤرخين لم يغادروا محاولة "انتاج تأويل متماسك للتغير الذي طرأ في الماضي" بحسب لورانس ستون. فالنظر الى العالم بالميكروسكوب وبالتليسكوب في آن، ممكن. غير ان الاول لا يغني عن الثاني ولا يتوافر له المعنى الا به.
وهناك دائماً تاريخ الناس العاديين، او التأريخ القاعدي، كحقل خاص للدراسة. وهذا انما يبدأ بتاريخ الحركات الجماهيرية للقرن الثامن عشر، والذي كان ميشليه اول ممارس كبير له اذ كانت الثورة الفرنسية قلب كتاباته واهتماماته. ومن ميشليه الى جورج لوفيفر، اهتم التقليد التأريخي الفرنسي المغموس ب"الشعب" لا بالطبقة الحاكمة وحدها، بتأسيس معظم موضوعات التأريخ القاعدي، بل مناهجه كذلك. وهو ما لم ينتشر في البلدان الاخرى الا بعد الحرب الثانية، فيما لم يزدهر الا مع سطوع تأثير الماركسية في الخمسينات. والمؤرخون القاعديون ممن يصرفون جهدهم على كيفية اشتغال المجتمعات، لا يستطيعون الا ان يفعلوا ذلك ما دام ان موضوعهم، الناس العاديين، يشكلون القطاع العريض في اي مجتمع. وهم في هذا يملكون امتيازا على العلماء الاجتماعيين ممن يتحولون الى التاريخ، مفاده انهم يعرفون مدى قلّة ما نعرفه عن الماضي.
وفي المقابل، فتاريخ القارات القائم على انفصال واحدتها عن سائر العالم يتبدى مستحيلا. فأوروبا، مثلا، عاشت نصف ألفية تدافع عن نفسها، ونصف الفية اخرى تغزو غيرها. والحال ان فكرة تاريخ اوروبا كشيء يتم تعريفه كارتوغرافياً خرائطياً، فكرة لم تتحصل الا مع صعود الاسلام. فالاخير هو ما فصل، بصورة دائمة، الساحلين الجنوبي والشرقي للمتوسط عن ساحله الشمالي. والايديولوجيا او النزوة وحدهما هما اللذان يدفعان مؤرخاً للعصر القديم الكلاسيكي ان يكتب تاريخاً للمقاطعات المتوسطية الشمالية من الامبراطورية الرومانية. مع هذا فأهمية تاريخ اوروبا تحديدا انه ليس تاريخا لفسحة جغرافية او لجماعة انسانية: انه، في المقابل، عملية بروسيس. فلو لم تقم بتحويل نفسها، ومن ثم تحويل العالم، لما كان هناك تاريخ متماسك واحد لأوروبا نفسها. وبالمعنى نفسه فمع انتهاء زمن التمحور حول اوروبا، تعاظمت ضرورة الاهتمام بذاك التاريخ كجزء من تاريخ كوني. والشيء نفسه يصح في التأريخ للثورتين الفرنسية الروسية هما اللتان أثّرتا الى ابعد الحدود على بلديهما، لكنهما اثّرتا بالقدر نفسه على العالم.
وعلى العموم يواجهنا اريك هوبسباوم بنزعتيه الكونية والتنويرية اللتين يصعب من دونهما فهم الكون واكتساب قدر من التفاؤل به. الا ان اطلاقيته التنويرية، ومكثه عند المرجعية الاطلاقية هي الاخرى للقرن الثامن عشر والثورة الفرنسية، يصبغان نصّه بتشاؤم لم ينج منه كتابه في تأريخ القرن العشرين.
فبمثل هذا التشاؤم يشكك بمستقبل الاقتصادات الغربية راسماً لها لوحة داكنة، بحيث تكاد "هزيمتها" تتساوى، عنده، مع انهيار المعسكر الاشتراكي. ولئن علّق الحكم على الثورة البلشفية بصور شتى، لم يفته تسجيل أن "البربرية" توالي صعودا ابتدأته الحرب العالمية الاولى، بحيث ان الشيء الوحيد الذي يحول دون تسارع هبوطنا الى الظلام، هو "منظومة القيم الموروثة عن تنوير القرن الثامن عشر".
ويترتب على ذلك مجتمعاً تغليب مبرم للسيناريو الصراعي الذي لا يُرى العالم، ولا التاريخ والتأريخ، الا من ثقبه. ف"الكثير من حياتي، وربما معظم حياتي الواعية"، كما كتب، "كانا مكرّسين لأملٍ بات واضحاً اخفاقه: الشيوعية التي ابتدأتها ثورة أكتوبر. لكن ما من شيء يمكن ان يشحذ ذهن المؤرخ كالهزيمة". ومهما بدت المهنة تتسع للعاطفية والانحياز، فبإرزاحها تحت ثقل الهزائم والانتصارات وأحكام القيمة، تفوح رائحة العتق من بعض صفحات هوبسباوم. فالمؤرخ الكبير لا يزال، في النهاية، أميناً لتلك الاطروحة الماركسية الشهيرة عن العالم الذي اكتفى الفلاسفة بتفسيره فيما المطلوب تغييره. والحال ان بعض ما تعلمنا اياه دروس القرن الذي انقضى، وهي بالغة الثراء طبعاً، اننا لا نزال في حاجة ماسّة الى التفسير. اما التغيير فما ينبغي ان نعدّ الى الملايين، لا الى العشرة فحسب، قبل الاقدام عليه.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.