في سلسلة "ذاكرة الكتابة" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدر كتاب جديد عنوانه "رمز الأفعى في التراث العربي"، للدكتورة ثناء أنس الوجود. والكتاب يحاول أن يتتبع كل تجليات الأفعى في الذاكرة العربية، باعتبارها معبودة، وحارسة، وشريرة، ويرصد تجلياتها بين الخير والشر، وبين الشعيرة والواقع. بالغ الإنسان - في مراحل باكرة - في رسم صورة الأفعى في مخيلته. فهو لاقى الويلات منها، وكابد الإيذاء وقوة السم. وتعود المبالغة كذلك إلى خصائص الأفعى التشريحية، وأهمها القدرة على الانسلاخ من الجلد وإمكان تغييره. فتحولت، في مختلف أشكال التعبير، من كائن طبيعي إلى كائن مهول، شبيه بالكائنات الأسطورية والخرافية التي تحفل بها الميثولوجيات المختلفة، بل إن صورتها قد تتضخم لترتقي إلى مستوى الكائنات الغيبية. وتعامل التراث العربي مع الأفعى باعتبارها كائنا خارقاً. فعلى سبيل المثال، يقول الدميري في "حياة الحيوان الكبرى" عن أنواع الأفاعي: ومنها الصلّ التي تسمى المكللة لأنها مكللة الرأس، "وهي شديدة الفساد، تحرق كل ما مرت عليه، ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع أصلاً، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط، ولا يمر بقربها حيوان إلا هلك، وتقتل بصغيرها على غلوة سهم، وضربها فارس برمحه فمات هو وفرسه". ويقول الدميري كذلك إن "الأفعى هي الأنثى من الحيات، والذكر أفعون... وكنيته أبو حيان وأبو يحيى، لأنه يعيش ألف سنة، ومنها الأصلة، وهو عظيم جداً، له وجه كوجه الإنسان، ومن خاصيته أنه يقتل بالنظر أيضاً". أما علاقة العرب بالأفعى، فإنه لم يتحقق على وجه مؤكد ما إذا كانت من قبيل العلاقة الطوطمية أم لا. ولكن آثار الديانة الطوطمية ظهرت عند العرب في مظاهر كثيرة قديمة، أهمها إطلاق أسماء الحيوانات والأشجار على القبائل والعشائر والأفراد" وظهرت كذلك في تقديس بعض أنواع الحيوانات والنباتات التي يعايشها العربي في الصحراء. لذا اعتمد بعض الباحثين على نسبة بعض القبائل إلى النبات والحيوان في تقرير معرفة العربي بالنظام الطوطمي. ونفى هذه المعرفة بعضهم الآخر، مستندين الى ضرورة توافر شروط معينة في الحيوان وفي العشيرة معاً، لكي تقوم العلاقة الطوطمية بينهما، وهي شروط يرون أنها لم تتوفر في علاقة العرب بالحيوان. فالطوطمية تقوم على اعتبارين مهمين، أحدهما ديني والآخر اجتماعي. ويمكن توفر الشرطين أو أن يوجدا منفردين، على مذهب بعض علماء الأنثروبولوجيا. وكانت العرب تتسمى بأسماء الحيوان والنبات، مثل: بني أسد، بني جعد، بني فهد، بني كلب، بني بكر، بني نعامة" ومن النبات: بنو حنظلة. وما لا شك فيه أن علاقة العرب بالحيوان تداخلت فيها العبادة الروحانية مع العناصر الطوطمية، مع عبادة الطبيعية، تداخلاً شديداً. وإذا كان التقطع بمعرفة العرب للديانة الطوطمية عسيراً، خصوصاً في غياب الأدلة والشواهد المؤكدة، فنفي وجود بقايا من هذه الديانة - التي عرفتها شعوب كثيرة في العالم القديم - لا حجة عليه. فقد عبدت فئات من العرب الحيوان الحي وقدسته. أما الأصنام الحيوانية فكانت مجلوبة من البلاد المجاورة مثل: يعوق، ونسر، وغيرها، ولكنها لم تترك أثراً في حياة البادية. وتورد المؤلفة تعريف يونغ للاشعور الجمعي، باعتباره "ذلك الجزء من النفس الذي لم تمر محتوياته أبداً بمنطقة الشعور، على عكس اللاشعور الفردي، الذي يتكون بالضرورة من مكونات وردت على الشعور ذات يوم، ولكنها نسيت وكبتت". وانطلاقاً من فكرة اللاشعور الجمعي ترى المؤلفة أن العقلية العربية كانت تميل في الحكايات التي ترويها عن الأفعى، إلى إلصاق إشارات معينة بها، لها دلالات مقدسة. ويتبين ذلك من إصرارهم على أن يكون للأفعى أضلاع ثلاثون، ومثلها من البَيْض. وإذا كسر نابها نما في ثلاثة أيام ناب آخر غيره. أما إذا بتر ذنبها عاد فنما مرة أخرى في ثلاثة أيام. ومن المعروف أن الرقم 3 له دلالة خاصة سحرية عند كثرة من الشعوب، من بينها العرب. وهو بذلك يشبه الرقم 7، بما له من دلالات مقدسة. والشعب العربي يزخر باستخدام الرقم 3. وكذا الحكايات الشعبية. ويكفي أن نعرف من هذه الحكايا أن الرغبة الثالثة عادة ما تلبى، وأن الضربة الثالثة غالباً ما تصيب. ومن المعروف أن مضاعفات الرقم 3، ومنها الرقم 12 و30، في حضارة ما بين النهرين التي كان للعرب الأولين تماس ثقافي معها، كانت ترمز الى دائرة البروج السماوية المسماة "الزودياك"، وإلى عدد دورات القمر. ومجموع سني دورة زحل 3. وترمز الأعداد التي حرصت العقلية العربية على خلعها على الأفعى إلى لفظة الإلهة المقدسة. وهي أمر سحري مألوف، يلجأ إليه من يمارسون السحر، فيما يعرف ب"الجيماتيريا" أو حساب الجُمَّل. ومن ينظر إلى جداول الإمام البوني، في مؤلفاته عن السحر، يصل إلى هذه "الحقيقة": فلفظ الله مكون من أربعة حروف تساوي عددياً 66، فالألف تعادل الرقم 1، واللام تعادل 30، وهي مكررة مرتين، والهاء تعادل 5، وحاصل جمعها جميعاً 66. وعدد بيض الأفعى - كما سبق - 30، وعدد أضلاعها 30، وينمو الذنب والناب في ثلاثة أيام لكل منها.وحاصل جمع هذه الأعداد هو 66. ولفظ الله لا يحمل دلالة إسلامية فقط، وإنما هو لفظ ذو دلالة أقدم من الإسلام، ويشير الى المعبود بصفة عامة في الثقافات السامية. ومما سبق ترى الباحثة أن اللاشعور الجمعي قد أسقط من الإشارات المقدسة على الأفعى، ما يجعلنا نعتقد أن ثمة علاقة بين الأفعى والعبادات العربية القديمة. فالدراسات التشريحية للأفعى تنفي ارتباط مثل هذه الأرقام بها. وتشير الباحثة إلى أن العرب اعتقدت أن الحيات هي من نسل الجن، وهذه الرواية يثبتها المسعودي. أما عند أهل التاريخ والمصنفين لكتب البدء، مثل وهب بن منبه وابن اسحق وغيرهما، فالله عز وجل خلق الجان من نار السموم، وخلق منه زوجته، كما خلق حواء من ادم. وعندهم أن الجان غشيها فحملت منه، وأنها باضت إحدى وثلاثين بيضة، وقد تعلقت منها قطربة هي أم القطارب، وكانت على صورة هرة. أما الأبالس فجاءوا من بيضة أخرى، ومسكنهم هو الجزائر. وجاء الغيلان من بيضة ثالثة، ومسكنهم الخرابات والفلوات، بينما السعالي من بيضة رابعة، وسكنوا الحمامات والمزابل. وجاءت الهوام من إحدى البيضات، وسكنوا الهواء في صورة الحيات ذوات الأجنحة ويطيرون هنالك. وأخيراً جاء الحماميض من بيضة خامسة واعتقد العرب في وجود الجن في الصحراوات والأماكن الموحشة، وهم يختبئون في كل كهف فيها، ووراء كل حجر، وخلف كل دغل. وتفضل الجن عادة الإقامة في الأشجار. وتعد الثعابين أشهر الصور التي تظهر بهاالجن، وهي الأرواح في الثقافة العربية. فمن الجائز أن يسمى الثعبان جاناً وشيطاناً، وقد يكنى بأبي مرة مثل إبليس لذلك. فهم إذا قتلوا ثعباناً خافوا من الجن أن تأخذ بثأره، كما يذكر الألوسي. وكدليل على أهمية الحية في التراث العربي، تسرد المؤلفة ما ورد في قصص الأنبياء للثعلبي، والمسماة ب"عرائس المجالس"، من أن هناك أفعى ضخمة تلتف على أقدام كرسي العرش السماوي الذي يستوي عليه الله عز وجل في الملأ الأعلى. ووظيفة الأفعى هذه حماية الكرسي من الغرور والزهو لاستواء الذات الإلهية فوقه. فإذا داخله شيء من ذلك، التوت عليه الأفعى بشدة ليفيق من غفلته. فينتقل العربي بالأفعى من كونها حارسة في العالم الأرضي، إلى عالم آخر مفارق هو عالم الغيبيات. والحية الحارسة متمثلة بقوة في التراث العربي القديم. فدورها يتجاوز حماية الأفراد أو إثابة المحسن منهم، ويتجاوز حماية الأودية والآبار، كما يصادفنا في كثرة من كتب التراث. ويتسع دورها ليشمل حماية القيم الدينية والأخلاقية. فهي مدافعة عن الحق، حامية للخير، وإحدى الوسائل التي تسخرها القوى العليا لإشاعة النظام في الكون، وتحقيق العدالة. وهل يمكن أن ننسى في هذا المجال حية موسى؟ ومن ذلك ما يورده الدميري من أن شاباً حنفياً طعن في حديث لأبي هريرة، فسقطت عليه من سقف الجامع حية ضخمة، فهرب الناس، وقالوا للفتى: عليك بالتوبة" فلما نطق بها غابت الحية، ولم يبق لها أثر.والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصى. وتنتقل المؤلفة من الحية المقدسة الى الحية الحارسة، وأخيراً إلى الحية الشريرة. فالعرب عرفوا الأرواح الخبيثة، ومنها الجن والشياطين، واعتبروها مصدراً للأعمال الشريرة. فهي المسؤولة عن كل الظاهرات الطبيعية والإنسانية التي تشذ عن المألوف. وكان العربي يقي نفسه منها بالرقى والأحجبة والتمائم، إلى بعض الطقوس التي اعتقد أنها تحميه. وكانت الحيات هي الصورة المألوفة التي يسكنها الجن والشياطين غالباً. ولعل المثال الأوضح على الحية الشريرة هي التي أغوت آدم بأكل التفاحة، وتسببت في طرده من الجنة. ونظراً لأن الشيطان كائن مخيف، لا يجد الإنسان مبرراً لوجوده سوى إيذاء الناس وتدميرهم. وخلع العرب على الأفعى، بوصفها صنفاً من الشياطين، كل صفاته. فالصلّ حية قصيرة حمراء، لها رجل واحدة تقوم عليها، وتساور الإنسان، وتنفخ فلا تصيب شيئاً بنفخها إلا أهلكته. وقيل هي مثل الرحى مستديرة حمراء، لا تمس شجرة ولا عوداً إلا سممته. وهذا الضّرب من الحيات هو ما نعرفه اليوم ب"الطريشة"، وهي الحية الوحيدة التي تساور الإنسان أو الحيوان لتقتله. فالعربي من وجهة نظر صاحبة الكتاب، كان يخلع على الحياة صفات وملامح شيطانية، باعتبارها مخلوقاً عنيداً عنيفاً وله القدرة على القتل بمجرد النظر، وعلى إحراق الأخضر واليابس بالكيفية نفسها. وهو يتصامم عن الرقية. ولأن الشيطان كائن مخيف، وصفات الأفعى - التي تتصل بالشيطان - كائن مخيف، تطابقت مع ما تراه العقلية العربية شيطانَ "الحماطة". والحماطة والحماط هي شجر التين الجبلي، والعلاقة بين شجرة الحماط والحية مثل العلاقة بين سقوط آدم والجلوس أسفل هذه الشجرة نادماً. وشجرة "الحماط" تشير في أصلها اللغوي - الحماط - إلى حركة القلب وشدة الحسرة. لذا ارتدت الأفعى في الذاكرة السامية عموماً تصوراً مؤداه أن الأفعى ليست شيطاناً فحسب، بل هي الشيطان الذي يلوذ بشجرة الندم، ويسبب للإنسان دائماً حرقة القلب. فامتزجت كل من الشجرة والحية، حتى أصبحا شيئاً واحداً. وإذا ناقشنا الجذر اللغوي الذي اشتق منه اسم الحية، وجدنا أنه يثبت خلودها وتجددها على الدوام، ويؤيد ارتباطهاالشديد بالحياة. فالحية في التراث العربي - لا تموت إلا بعَرَض يعرض لها، لكنها لا تموت حتف أنفها. فهي تعمر آلاف السنين نظراً لأنها تغير شبابها بتغيير جلدها كل عام. ورغم شراهتها ونهمها فإذا لم تجد ما تقتات به، اقتاتت بالنسيم وحده! ومن الأسماء التي تطلق على الحية أيضاً اسم الصلّ، وهو قريب لغوياً من الأصل ومن الصلصال، وكلها من جذر لغوي واحد، وهي تعني أصل الأشياء. فالصلّ إذاً هو أصل الحياة، بل وأصل كل شيء. والصلصال هو التراب، ومنه اتخذت المادة الأزلية التي خلق منها الإنسان. وظلت الحية في ذاكرة العربي القديم ترمز إلى الحياة والتجدد لأنها أكلت من شجرة الحياة في الجنة. وترمز الحية، في الذاكرة نفسها، إلى الموت. فكلا الموت والحياة متحدان في صورتها. ويدل التصور السابق للحية في الذاكرة الإنسانية إلى وجود رواسب ثقافية، من عصور بدائية، في تلك الذاكرة. فالحية هي أحد المكونات الأساسية للاوعي الجمعي الذي تحتشد فيه حوادث ظلت باقية في النفس الإنسانية لآلاف السنين. وتركت تلك الحوادث أثراً عميقاً في نفوس البشر وانتقلت إلينا مجتمعة عبر هذا اللاشعور. وإذا كان أقصى طموح للنفس البشرية من الحياة هو الخلود، أو التخلص من هواجس الموت، فالأفعى تحولت - في اللاشعور الجمعي - إلى حائل منيع بين الإنسان والخلود، وإلى عنصر مناوئ للحياة. وتحولت في الأمثال العربية إلى صيغة ضد، فهم يقولون: "أكذب من حية"، و"أضل من حية" و"أدعى من حية". وتخلص الكاتبة إلى أن رمز الأفعى في الذاكرة العربية يحمل الكثير من التناقضات. واتحاد الضدين، الخير والشر، في الحية، يجلعها ترتفع إلى مستوى الرمز الذي ينطوي على المعنى ونقيضه، فتكثر دلالاتها في هذه الذاكرة بكثرة المعاني المتناقضة. * كاتب مصري