داود الصايغ. النظام اللبناني في ثوابته وتحوّلاته دار النهار للنشر، بيروت. 2000. 185 صفحة. يقيم التقليد الجامعي الالماني تشابهاً بين ولادة الكتاب في رأس صاحبه والجنين في بطن أمه. فتماماً كما ان السائل الذي يسبح فيه الجنين في احشاء أمه أساسي بل مصيري لجهة تكوينه النهائي، هكذا هو دور المناخ الفكري الذي يبني فيه صاحب الأطروحة كتابه. ومما لا شك فيه ان بصمات هذا المناخ الفكري الداخلي دون ان يكون خاصاً موجودة في فصول كتاب داود الصايغ حول النظام اللبناني في ثوابته وتحوّلاته. فالكاتب يمتاز أولاً وقبل كل شيء باحترام كبير للانسان. وهذا ما نلمسه من خلال تعاطيه المسؤول والدؤوب مع تجارب الانسان اللبناني، في المجال السياسي، والتي لم تكن دائماً ناجحة ولا مثمرة ولا بناءة. إلاّ ان المؤلف يتعامل معها على أساس قطع فلسفي يجعله متفهماً لها في تجلياتها وإخفاقاتها على حدّ سواء. وهذا ما يضع مباشرة الكتاب في مصاف الانسانية، بالمعنى العام للكلمة، قبل ان نحضره، للدقّة المنهجيّة، في خانة القانون السياسي. كما ان هذا المناخ الانساني العام سرعان ما ينعكس على القارئ الذي يجد نفسه مرتاحاً لمقاربة للنظام اللبناني هو شريك فيه أقلّ ما يقال فيها انها متفهمة وشاملة، تماماً كما ينبغي ان تكون المقاربات الفكرية للشأن السياسي العام. بيد ان هدؤ المقاربة وتفهمها اللذين نجدهما في هذا الكتاب غالباً ما يغيبان عن الكتابات المتمحورة حول النظام اللبناني، التي تخضع عادةً لمقاربة عصبيّة أو طائفية تجعل منها شأناً مزعجاً وغير بنّاء. الأمر الثاني الذي يمتاز به كتاب الصايغ هو انه شديد الاحترام للبنان. علماً ان هذا الاحترام ليس عصبياً أو منحازاً لفئة دون أخرى كما الحال في معظم الكتابات الأخرى، حتى لو لم يعلن المؤلف قصده الحقيقي من كتابته، لا بالمعنى السياسي للفكرة ولا بالمعنى الثقافي للكلمة. أي انه لا ينطلق من صورة ما للبنان أسطوري أو هيامي، كما هو الحال مثلاً عند بعض الرسامين والكتّاب اللبنانيين الذين يستحيل عليهم، في لا وعيهم، إستبدال صورة الجبل اللبناني بأي صورة أخرى، حتى لو غادروا بلادهم واستقرّوا في مواطن بعيدة ندكر منهم جبران وصليبا الدويهي مثلاً. بل انه ينطلق من تفكير غير معقد لماهيّة هذا الوطن الصغير المتنوّع ثقافياً والمتعدّد سياسياً، والذي لا مثيل له في محيطه الجغرافي المباشر كما في محيطه الجغرافي العام. واحترام المؤلف للبنان، على هذا النحو الهادئ والثابت والرصين ينعكس بدوره ايضاً على القارئ الذي يجد نفسه في علاقة مع كاتب يشاطره تجربته التاريخية العامة التي، على علاّتها، تبقى تجربتنا نحن. فكون الأميركيون قد دخلوا في حرب أهلية مدمّرة، بين 1861 و 1865، لم يجعلهم أقلّ محبّة لبلادهم. وكذلك الأمر بالنسبة الى الاسبانيين، وقبلهم الفرنسيين، وقبلهم الالمان. وباستطاعتنا القول ان اللبنانيين، ومنهم مؤلف الكتاب، قد إزدادوا تعلّقاً ببلادهم وب"نموذجهم" الذي بيّنت الأيام انه اكثر صدقاً من المشاريع الفاشلة المحيطة به، والقائمة إما بقوة التقليد أو بقوة السلاح، أو بقوة الاثنين معاً. حيث ان فهماً جديداً للبنان الوطن والنظام قد بدأ يشقّ طريقه الى النور، على الرغم من ان المشهد السياسي الاقليمي العام لا زال ضبابياً. فاللبنانيون، على نحو عام، أضحوا يعرفون ما لا يريدونه. وهذا بحدّ ذاته، انجاز كبير. فالنظام اللبناني المنشود ينطلق، عند المؤلف، من عدد من الثوابت اثمرتها علاقة أجدادنا بارضهم وبالتأثيرات الجيو - سياسية التي تلقّوها وتعاملوا معها تعامل القصبة في مهبّ الريح. فهذا ما يحدوه الى القول ان "الكيان اللبناني لم ينشأ بالصدفة، ولا هو مصطنع، ولا هو جزء من أي بلد عربي آخر". فتجربة الدولة في لبنان أقدم عهداً منها في البلدان العربية الأخرى، إذ انها بدأت في زمن كانت البلدان العربية كلها مجرد ولايات عثمانية. يرى الكاتب لذلك ان الصيغة الاستقلالية الاولى، ضمن السلطنة العثمانية، جاءت عبر نظام الامارة 1516 - 1842، ثم عبر نظام المتصرّفيّة 1861 - 1915. من هنا سوف يُشحن مفهوم الدولة في لبنان، وعليه ايضاً مفهوم النظام السياسي الذي سيتسلّم زمام أمور هذه الدولة، بموروثات مختلفة اجتماعية واقتصادية وسياسية سوف تدفعه نحو صيغة الوفاق. فالوفاق في لبنان ليس مجرد فكرة أو أمنية، بل نظام عيش موضوعي فرزته التجربة التاريخية اللبنانية الطويلة، المتعثّرة احياناً ولكن المتعقّلة ايضاً في احيان أخرى عدّة. فقد تعامل اللبنانيون مع صيغة العيش المشترك، القائمة على توفيق المصالح الاقتصادية وتعديل الممارسات الاجتماعية وتعقيل العصبيّات المذهبيّة والدينية، بكثير من الابداع، بسبب التأثيرات الخارجية، المتواصلة والمختلفة في كل حقبة من المقبات، بحيث يرى الصايغ في هذا المضمار "ان التجربة اللبنانية تشبه نظرية الثورة الدائمة. إذ لا يمكن للبنانيين ان يقولوا في يوم من الأيام ان مشاكلهم قد إنتهت. لأنه لا بدّ من المشاكل ان تبقى مرافقة لهم، وبعضها لا حلّ له". فالمشهد العام واضح لا لُبس فيه: الصيغة الوفاقية لا تعني زوال الاختلاف، ولا تعني ايضاً الانسجام التام. انها تعني احترام الخصوصيات المتبادلة ضمن سياق مصلحة عامة محلّية. مع الاشارة هنا الى ان المصلحة العامة هنا لا تعني "الشأن العام" بمفهومه الغربي، والمرتبط بتجربة الثورة الفرنسية في ما يتعلق بالديمقراطية، بل ان المصلحة العامة تعني هنا ايجاد صيغة توافق محلّية وشبه شاملة بين شؤون عامة متعدّدة، آتية من آفاق متعارضة أحياناً ومختلفة احياناً أخرى. فما يأتي من أفق الهوية الثقافية والاجتماعية قابل الى حدّ ما وربما الى حدّ بعيد للتنسيق وفق نماذج عامة، شرط ألاّ تكون صارمة، في حين ان ما هو آتٍ من أفق الهويّة المذهبيّة والدينية عصي على التوحيد والصهر. الأمر الذي يجعل النظام اللبناني، باستمرار، توفيقاً لعدّة أنظمة أصغر حجماً ولكن أمتن بنية من بنيته هو، بينما يستطيع نظام المذهب أو الطائفة أن يتقوقع بصلابة وعناد حول مميزاته. فالوفاق الذي بُني عليه النظام اللبناني، والذي هو ميزته المصيرية على نحو ما عبّر عنه ذات مرّة حميد فرنجية، ينشط ويعمل في الدائرة الكبرى، دائرة الخصائص العامة للطوائف والعائلات والعشائر يُضاف اليها، حالياً، المجتمع المدني الذي يشق طريقه ببطء ولكن باصرار. ولذلك فان هامش تحرك هذا النظام صعب لأنه مجبر على تقديم التنازلات، حفاظاً على حُسن سير هذه الخصائص العامة، بشكل دائم أما الطوائف والعشائر والعائلات السياسية. فالعلاقة بين الدائرتين، الكبرى دائرة الدولة والصغرى دائرة الطائف صعبة وشاقة، حيث ان طبيعة المنطق الذي يسود كلا منهما ليس واحداً من الأساس. فرجال الدولة الحقيقيون يشكون باستمرار مواقف وتصرّفات أرباب الطوائف والعائلات السياسية الذين يشكون بدورهم عدم تلبية الدولة لما يؤمن مصالحهم الخاصة ومميزاتهم. ومن أجمل وأفيد ما نقرأه ايضاً في الكتاب ما جاء في فصله الرابع الذي يتساءل بشكل معبّر "هل يمكن فصل النظام عن الفساد؟". بالطبع فان المؤلف لا يقصد هنا فقط الفساد الذي هو مصاب به بعض من هم في النظام اللبناني، بل الظاهرة ككل، كما هي مطروحة في الأنظمة البرلمانية والديمقراطية. إلاّ ان ما يسوقه في تجربة الآخرين في المحاسبة والمساءلة القانونية ينوي الوصول من خلاله الى قلب النظام اللبناني الذي سمح، لشدّة وفاقيّته ولاعتبارات مختلفة المصادر، وبشكل مستمر، لفئة من الفاسدين من التسلّل الى داخل النظام وجعله ينحرف باتجاه المصلحة الخاصة. إلاّ ان ما هو أكيد، وما يصرّ عليه الكاتب، هو ان هذا الداء قابل للعلاج، باللجوء الى كيّ المحاسبة القانونية والمالية والادارية. ويذكر هنا المؤلف ان المجتمع اللبناني يزخر بالايدي النظيفة وبالمتمسكين بالقيم. فاصحاب هذه القيم هم الذين منعوا سقوط الدولة إبّان الحرب الداخلية الطويلة التي إنما كانت تهدف الى اسقاط الدولة كما بات كلنا يعلم اليوم لمصلحة دويلات متقوقعة وهشة.