تجدد الحديث مؤخراً في لبنان حول الغاء الطائفية السياسية في ضوء الأحداث التي شهدها البلد في الآونة الأخيرة. فأحداث الشمال حيث قامت مواجهة حامية بين المؤسسة الأمنية اللبنانية ومجموعة دينية متشددة، والاعتداء على السفارة الروسية في بيروت الذي قام به واحد من المتعاطفين مع الشيشان، كما وصف نفسه، لم يدلا على عمق المشاعر الدينة عند بعض اللبنانيين والمقيمين في لبنان فحسب، ولكنهما دلا ايضاً على استعداد هؤلاء للتعبير عن معتقداتهم ومشاعرهم بقوة السلاح. اذا أضيف الى ذلك الجو المأزوم طائفياً الطاغي على ساحة التنافس الانتخابي اللبناني، يصبح من الطبيعي ان يتجدد البحث في مسألة الطائفية السياسية وعن صلتها بالتوترات والمنازعات المسلحة التي تلم بالبلد، وان يتداعى الفرقاء المعنيون الى النظر في طرق معالجتها. ولقد عكست الآراء التي صدرت في اطار السجال حول تلك المسألة تبايناً ملفتاً للنظر بين اولئك الفرقاء، وأظهرت ان التعاطي مع الجدل القائم حول مسألة الطائفية السياسية يدور في حلقة مفرغة: فمن أجل تنمية الوحدة الوطنية اللبنانية ينبغي الغاء الطائفية السياسية وعن صلتها بالتوترات والمنازعات المسلحة التي تلك بالبلد، وان يتداعى الفرقاء المعنيون الى النظر في طرق معالجتها. ولقد عكست الآراء التي صدرت في اطار السجال حول تلك المسألة تبايناً ملفتاً للنظر بين اولئك الفرقاء، وأظهرت ان التعاطي مع الجدل القائم حول مسألة الطائفية السياسية يدور في حلقة مفرغة: فمن أجل تنمية الوحدة الوطنية اللبنانية ينبغي الغاء الطائفية السياسية أو تجاوزها، ولكن من أجل الغاء الطائفية السياسية او تجاوزها يجب ان يتوفر بين اللبنانيين قدر واسع من التفاهم ومن الوحدة! الدوران في هذه الحلقة المفرغة أدى الى عرقلة العديد من المبادرات الرامية الى معالجة المسألة الطائفية بدءاً من اعلان حكومة الاستقلال اللبناني ان ساعة الخلاص من الطائفية سوف تكون لحظة مباركة في تاريخ لبنان، مروراً بوثيقة الطائف التي عبرت عن نفس التطلعات تقريباً، ووصولاً الى الجدل القائم راهنياً حول احتمالات تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية، فهل من المستطاع الخروج من هذه الحلقة المفرغة؟ ان تكوين رأي عام لبناني متعاطف مع فكرة تجاوز الأوضاع الطائفيةاللبنانية الراهنة أمر ممكن ولكنه يتطلب مراعاة مقتضيات ومبادئ معينة منها، في تقديري، الأربعة التالية: 1- الانطلاق من ان الطائفية السياسية موجودة لدى اكثر الطوائف اللبنانية أو في الحقيقة لديها جميعاً بلا استثناء، وانها ليست حكراً على طائفة واحدة من الطوائف اللبنانية. هذا لا يعني ان الطائفية تؤثر بنفس المقدار على جميع الطوائف ولا يعني تجاهل الفرق بين الامتيازات التي وفرتها الطائفة السياسية لطائفة او لطوائف معينة على حساب الطوائف الأخرى. هناك فعلاً فوارق مهمة على هذا الصعيد، ولكن هذه الفوارق لا تلغي القاعدة الأساسية الا وهي ان الطائفية السياسية موجودة لدى كافة الطوائف بدليل انتشار تجليات هذه الظاهرة مليشيات، مؤسسات اعلامية، رموز سياسية، مؤسسات خدماتية الخ. ينبني على الاقتناع بانتشار الطائفية السياسية بين جميع الطوائف موقف محدد يميز العامل فعلاً على الغاء الطائفية السياسية او تجاوزها عن ذاك الذي يسعى الى اضعاف طائفة معينة فحسب. الأول يقف ضد سلبيات الطائفية السياسية ونواقصها كيفما كانت وأينما كانت وخاصة في طائفته هو بالذات. الثاني يقف ضد الطائفية السياسية لدى الطائفة أو الطوائف الأخرى بينما هو يتغاضى عنها وينميها في طائفته. بهذا المعيار صاحب الموقف الأول يعبر فعلاً وبصدق عن رغبته في تجاوز الطائفية السياسية، أما صاحب الموقف الثاني فانه طائفي حتى ولو قال بالعكس. الموقف الأول يساعد على الخروج من الحلقة المفرغة، أما الموقف الثاني فانه يؤبدها. 2- ان يكون العمل على تقليص مضار الطائفية السياسية سيراً مؤكداً باتجاه ترسيخ الديموقراطية البرلمانية. قد يكون هذا الأمر بديهياً عند البعض: الا تتعارض الطائفية السياسية مع مبدأ المساواة الذي هو أساس من أسس الديموقراطية البرلمانية؟ الا تتعارض الطائفية السياسية مع مبادئ العقل والتنوير وهي أيضاً من مرتكزات التحول الديموقراطي الانساني؟ التاريخية تبدأ بالمراجعة النزيهة للحلول والمساعي التي بذلها اللبنانيون آنفاً من أجل التخلص من مواقف الطائفية السياسية. سعى اللبنانيون حتى الآن لاحتواء مضار الطائفية السياسية عبر نظام الديموقراطية الوفاقية. والديموقراطية الوفاقية لها هي ايضاً نقائصها وايجابيتها. لقد اقترن هذا النظام احياناً، كما طبق في لبنان وغيره، بعدد من المنازعات والصراعات المسلحة الا ان التطبيق الناجح للديموقراطية الوفاقية النمسا او هولندا مثلاً، ساهم بصورة جلية في توطيد السلم الأهلي والمساواة وفي اطلاق عجلة التنمية. في لبنان كان لهذا النظام دور في حماية الحريات السياسية والدينية والتعددية السياسية والتنوع والخصوبة الثقافية. ولقد تطلع لبنانيون كثيرون الى استبدال نظام الديموقراطية الوفاقية بنظام الديموقراطية العددية ولكنهم لم يوفقوا الى تحقيق هذه الغاية لأسباب عديدة منها انهم لم يتمكنوا من اقامة الدليل على ان البديل عن النظام السياسي الراهن في لبنان هو نظام آخر اكثر ايفاء بمبادئ الديموقراطية البرلمانية من نظام الديموقراطية الوفاقية. وبقيت الفكرة المنتشرة في أذهان اللبنانيين انه لو انهار نظام الديموقراطية الوفاقية في لبنان لكان البديل نظام الحكم المطلق. تمسك هؤلاء اللبنانيين بالديموقراطية الوفاقية لا يعني أنهم يفضلونها بالضرورة على نظام الأكثرية النيابية، ولكنهم لخوفهم من ان ينتقل لبنان من الحكم الديموقراطي النيابي الى الحكم المطلق. هذه المخاوف لا تنفي امكانية الانتقال من الديموقراطية الوفاقية الى نظام الديموقراطية الأكثرية ولكنها تعني ضمان الانتقال الحقيقي من الأول الى الثاني وليس اضاعة الوفاق والديموقراطية معاً في لبنان. 4- الاقتناع بأن الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية هي هيئة رديفة لما يقوم به اللبنانيون على صعيد سياسي عام وفي اطار المؤسسات الديموقراطية من أجل التخلص من مضار الطائفية. ذلك ان العمل الديموقراطي ضد الطائفية يقتضي قيام جماعة سياسية تعطي هذه المسألة الأولوية في برنامجها، وتسعى الى اقناع أكثرية اللبنانيين بصواب وجهة نظرها منها. والطريق الديموقراطي الى معالجة مضار الطائفية السياسية يعني ان يعكس التقدم على هذا الصعيد حجم التأييد الذي تلقاه هذه الجماعة السياسية. من هذه الناحية فان قيام الهيئة الوطنية، على حسناته، قد ينطوي على سلب ينبغي التنبه له سلفاً. اي ان تشكيل هذه الهيئة، مثله مثل تشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي، قد يؤدي الى تراخ في صفوف الذين يؤمنون بايجاد الحلول الديموقراطية للقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في لبنان اذ يظنون ان هذه المجالس سوف تنجز هذه المهام. المطلوب هنا ازالة هذا الانطباع والتأكيد على ان القول الحاسم في مسألة الطائفية السياسية في لبنان وفي القضايا الاجتماعية والاقتصادية يجب ان يكون بداخل المجلس النيابي اللبناني وبواسطة تكتلات نيابية لا طائفية تملك تأييداً شعبياً واسعاً ومساندة واضحة لبرنامجها اللاطائفي. ان ولادة هذه الجماعة السياسية، هي في نهاية المطاف، الطريق الى الخروج من الحلقة المفرغة التي تدور فيها مساعي معالجة المسألة الطائفية في لبنان. بانتظار ذلك فانه من المفيد تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية شرط الا يحاط هذا العمل بالتوقعات المبالغ فيها والا يقلل خروجها الى الحياة الشعور بأهمية معالجة المسألة الطائفية في لبنان في اطارها السياسي والتاريخي. * كاتب وباحث لبناني.